علاقة الدنيا بالدين من خلال حديث «تأبير النخل».. (مقاربة أصولية)

06 نوفمبر 2015 21:27
علاقة الدنيا بالدين من خلال حديث «تأبير النخل».. (مقاربة أصولية)

علاقة الدنيا بالدين من خلال حديث «تأبير النخل».. (مقاربة أصولية)

د. رشيد بنكيران

هوية بريس – الجمعة 06 نونبر 2015

ما أكثر ما يستدل العلمانيون، ومن تأثر بفكرهم من الإسلاميين، بحديث تأبير النخل قصد تمرير مفاهيم مغلوطة عن علاقة الدنيا بالدين في الإسلام. وهم يحاولون في ذلك، على درجة مختلفة بينهم، توسيع دائرة تنزيل هذا الحديث على هوى مقاصدهم، ولهذا شمل عندهم مجالات متعددة وقضايا مصيرية وحساسة من الحياة، كالتشريع العام مثلا، وسياسة الدولة، وغيرها من الأمور التي قد تنسب إلى الدنيا باعتبار معين، ولم يستثن لديهم منها إلا جانب المعتقدات والعبادات. أما العبارة التي يرفعون بها عقيرتهم من الحديث النبوي فهي قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».

وهكذا، وكلما أراد العلمانيون أن يجحدوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام في المعاملات والآداب وشؤون الاجتماع وغيرها، أو كلما أخلد بعض الإسلاميين إلى فقه الهزيمة وخنعوا إلى الواقع الموجود لتسويغه والتنظير له، زعموا، هؤلاء كما أولئك، أن تلك الأمور المذكورة آنفا هي من شؤون الدنيا وأمورها، ولا مبرر لإقحام الوحي الهادي أو الشريعة الإسلامية فيها بقوة منطوق الحديث أعلاه.

والحال، فالحديث تبعا لهذا الفهم أوكل مجالات التشريع العام وسياسة الدولة وشؤون اجتماع الناس إلى تجربة الإنسان وخبرته، فهو بزعمهم أعلم بها من النبي صلى الله عليه وسلم؟؟!! وبديهي إذن أن يكيفها وظروفه بدعوى أنها من الأمور الدنيوية.

بيد أن لفظ «دنياكم» الذي أسسوا عليه فصل مجالات الدنيا عن الدين أو عن الشريعة هو من صيغ العموم، فهل حقيقة هذا العموم مراد للشارع؟ وما نوع هذه الدنيا التي نحن أعلم بها من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما مفهوم الدنيا في الإسلام؟ وما حظ الدين من الدنيا؟

هذه الأسئلة وغيرها تشكل محور هذه المقاربة الأصولية، التي نروم منها استجلاء المعنى السليم لحديث تأبير النخل، نستند في ذلك إلى الروايات الأخرى للحديث، وما دلت عليه ألفاظها من حيث اللغة والفقه، قصد تعميق الفهم للحديث، وكشف عور الفهم المنكوس للعلمانيين ومن تأثر بهم من الإسلاميين.

أولا متن حديث الباب: روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ». قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا. فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟». قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».

اشتهر عند الحفاظ والمحدثين قول علي بن المديني رحمه الله: (الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه[1])، والمراد به أن «السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط[2]»، وإذا كان الغرض من ركوب هذا السبيل الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، والقبول أو الرد، فإن الحديث الذي تعددت رواياته لا يتبين حقيقة معناه وعمق مدركه حتى يؤلف بين تلك الروايات وتساق مساقا منسجما لأنها خرجت من مشكاة واحدة، ولهذا قال الإمام أحمد: «الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا[3]»، وقال ولي الدين ابن العرقي: «الحديث إذا جمعت طرقه تبين المراد منه، وليس لنا أن نتمسك برواية ونترك بقية الروايات[4]».

وحديث تأبير النخل أنموذج ماثل بين أيدنا على خطأ من اقتصر على رواية واحدة لفهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبع منهاج العلماء في فقه الحديث الذي له روايات متعددة لقصة معينة، فإن الرواية بالمعنى حينئذ تكون حاضرة. وإذا كان العلمانيون أجدر ألا يعلموا حدود الله، فما كان يليق ببعض الباحثين الإسلاميين أن يغيب عنهم هذا المنهاج.

بيان ذلك؛ أن حرف «لو» من رواية أنس رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» والذي يفيد امتناع لامتناع؛ أي امتنع الثاني لامتناع الأول، ومن اللغويين من عكس ذلك، ومنهم من رجح تفسير سيبويه لاطراده وهو: أن «لو» حرف لِمَا كان سيقع لوقوع غيره، والمراد به في الحديث على وجه الإجمال امتناع صلاح التمر لوجود تلقيح النخل، أو ثبوت صلاحه لترك التلقيح، وهذا المعنى حقيقة مخالف لواقع الأمر، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن التلقيح جازما بفساده على سبيل القطع حتى نصف قوله بالخطأ الصريح، بل صرحت روايات أخرى أن ما ذُكر كان من قبيل الظن الأقرب إلى الشك والاستغراب.

يؤيد ذلك: أن في رواية رافع بن خديج رضي الله عنه عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا» فصدر الكلام بحرف «لعل» التي هي كلمةُ شَكٍّ، وأصْلها عَلّ، واللام في أوّلها زائدة، كما ذكره صاحب الصحاح. وفي رواية طلحة رضي الله عنه عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا»، وقال أيضا: «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ»، فهي عبارات واضحة تدل على أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم كما من قبيل الاحتمال أو الشك الذي قصر بعض من سمع الكلام عن استعابه وتنزيله منزله.

وقد يحسن بنا أن نسوق حديث تأبير النخل برواياته المتعددة مساقا تاما لكي نعزز ما ألمحنا إليه، وكذلك لكي نعتمد عليه في المرحلة الثانية من هذه المقاربة:

«قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ؛ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، [يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ]، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَصْنَعُونَ!». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «[مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًالَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا، لَصَلُحَ»]. فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، [فَخَرَجَ شِيصًا] -قَالَ- [فَمَرَّ بِهِمْ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟»] فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ؛ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، [إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ]، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ؛ [مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنَكُمْ بِهِ] [إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ] فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، [أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ]».

المرحلة الثانية:

يُلهمنا المساق الكامل للروايات المتعددة لحديث الباب أن نرجح أن قصة تأبير النخل واقعة عين لا عموم فيها، أو أن لفظ «دنياكم» في الحديث من العموم الذي يراد به الخصوص، ولهذا فإن الخطاب إما خاص بتلقيح النخل والأشجار، أو خاص بمجال الحرف والصناعات والزراعة والملاحة وما شابه ذلك من الأعمال دون غيرها.

وهو الذي يبدو، فقد ترجم الإمام النووي أو بعض شراح صحيح مسلم على حديث الباب بقولهم: «باب وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ -أي النبي صلى الله عليه وسلم- شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْىِ»، فخصوا من مجال الدنيا ما يتعلق بأسباب العيش دون غيرها، إذ لو حملنا العموم المستفاد من لفظ «دنياكم» على ظاهره لشمل جميع ما يمكن أن ينسب إلى الدنيا، مثل العلاقات بين الأزواج والأولاد، والمعاملة بين الناس بيعا وشراء وهبة… وعلاقة الراعي بالرعية، وغيره كثير لا يمكن أن تحصره بكلمات، ولكان الإنسان أعلم به من النبي صلى الله عليه وسلم.

بل المعنى الحقيقي الذي قد تؤول إليه هذه العبارة «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُم» أنه لا تكليف في الأمور الدنيوية؛ لأنه لا تكليف إلا بأمر شرعي، وهنا -حسب الفهم الذي جرى عليه العلمانيون ومن تأثر بهم من الإسلاميين- أن الإنسان أو المكلف أعلم بأمر الدنيا من صاحب الشرع.

وقد دلت نصوص شرعية كثيرة عامة وخاصة أن أمور الدنيا مجال للتكليف والمحاسبة والمساءلة، ومن بين النصوص العامة ما رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِى النِّسَاءِ». ونظر الله سبحانه لمن استخلفه في الأمور الدنيوية يكون بمحاسبته ومجازاته من جنس عمله.

وقد أبدع القاضي عياض رحمه الله في بيان أن قوله صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمر دنياكم» يراد به الخصوص بعبارة رشيقة، يحسن نقلها على طولها، فقال في كتابه النفيس الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/184): «ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة، وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهنا عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب» اهـ.

قلت: من تأمل الحديث من خلال هذه السياقة بعين الإنصاف واستحضر موضوع الرواية بالمعنى علم أن ما يسعى إليه العلمانيون ومن تأثر بفكرهم من الباحثين الإسلاميين بعيد كل البعد عن البحث العلمي والتحليل الموضوعي؛ وأنهم حملوا الحديث ما لا يحتمل، إذ جعلوا موضوع تأبير النخل يماثل موضوع سياسة الدولة والتشريع العام وقوانين الضبط والاجتماع، فإذا كانوا قد اعتمدوا على القياس، فصح أن نردد عبارة ابن حزم الشهيرة، هذا قياس فاسد أو من أفسد الأقيسة، فلا يتحقق فيه لا قياس الشبه على ضعفه، ولا قياس النظير، فضلا عن قياس المثل أو الأولى، وإن كان اعتمادهم على العموم المستفاد من عبارة «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» ـولا أخالهم إلا كذلك- «والحديث واضح صريح، لا يعارض نصَاً، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن، لأن رسول الله لا ينطق عن الهوى، فكل ما جاء عنه فهو شرع وتشريع {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم: «ما أظن ذلك يغني شيئاً» فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن في ذلك سنة، حتى يُتوسع في هذا المعنى إلى ما يُهدم به أصل التشريع، بل ظن، ثم اعتذر عن ظنه، قال: «فلا تؤاخذوني بالظن»، فأين هذا مما يرمي إليه أولئك؟ هدانا الله وإياهم سواء السبيل[5]».

 



[1]ـ الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي (2/212).

[2]ـ المصدر نفسه، (2/295).

[3]ـ المصدر نفسه، (2/212).

[4]ـ أبو زرعة ولي الدين، ابن العراقي، طرح التثريب في شرح التقريب (4/108).

[5]ـ الشيخ أحمد شاكر، مسند أحمد (2/177).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M