فيزيولوجية مصطلح السياسة

02 نوفمبر 2013 01:09

ذ. طارق الحمودي

هوية بريس – السبت 02 نونبر 2013م

يعد مصطلح السياسة من المصطلحات التي تملك رصيدا تاريخيا وثقافيا مميزا في النظم العالمية والإسلامية خاصة، فالسياسة قد تكون محور حركة النظم باختلافها شعبها وتجلياتها العملية، وقد ورد مصطلح السياسة في مظهره القيمي والنظامي في أبجديات الثقافات القديمة، ومثّل أحد أحجار الأساس في حركة تاريخها وتطور مجتمعاتها، وهو بهذا ركن من أركان أي ثقافة تسعى إلى التحول إلى حضارة إنسانية تؤثر وتتأثر.

ولعل الشريعة الإسلامية وأنظمتها الجزئية أخذت بنصيب وافر من هذا المصطلح، إلى درجة أن كان عزله مبنى ومعنى سببا في خصام وصراع فكري حقيقي بين الشرعيين وبين طائفة وسموا بـ: (العلمانيين) الذين دعوا إلى فصل وعزل السياسة عن الشريعة.

سيكون من المفيد جدا أن يتصور الإنسان معنى الشريعة ومعنى السياسة ليحسن تصور مقاصد الذين فصلوهما، وأي خلل في التصور سينأى بالملاحظ إلى متاهات تصورية ثم حيرة حكمية بل وتخبط تظهر خطورته في كون الأحكام الفاسدة مصدرا للمواقف والتصرفات الفاسدة.!

إن حصر مفهوم السياسة في قفص اصطلاحي معياري سيكون مفسدا للبحث كله، فإن طبيعة المصطلحات تقتضي كونها أشكالا رحالة، لا تستقر على معنى معين، بسبب التنازعات الفكرية والتاريخية والمقاصدية في كثير من الأحيان، وعدم استحضار هذا سيكون له أثر سيء في كل حوار تجاوزي أو تصحيحي.

تبدأ محاولة تصور طبيعة ومساحات المصطلح المضامينية دائما بالنظر إلى جذر المصطلح ومنبعه المعنوي، وذاك ما أتقنه إلى حد كبير العلامة ابن فارس في كتابه العجيب (معجم مقاييس اللغة).

حدد ابن فارس الخط المضموني للجذر في جهتين: الفساد والطبع، وجعل السياسة بمعنى الحمل على كريم الطبع فقال: (وأما قولهم سسته أسوسه، فهو محتمل أن يكون من هذا، كأنه يدله على الطبع الكريم ويحمله عليه)؛ وفي تاج العروس: (والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه..)؛ وفي لسان العرب أن (السياسة الأمر والنهي).

 فتبين من هذا أن المصطلح قائم على معنى الإصلاح والحمل عليه، وهذا المعنى في غاية المناسبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء”؛ أي كانت أنبياء بني إسرائيل تسوس القوم بمعنى تحملهم على مكارم الأخلاق ومحاسن القيم وصالح النظم المعاشية والمسالك الدينية، أمرا ونهيا لا وعظا وتوجيها فقط.

وهذا المعنى هو الذي قام عليه نظام السياسة الإسلامية؛ المسمى بالسياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية.

ولذلك عرفها العصريون بالنظر إلى مقاصدها بأنها فن الحكم والإدارة المدنية لمصالح الناس. ولا يكون ذلك إلا بالعدل؛ وإلا عاد الظلم على أصل معنى السياسة بالإفساد.

وكغيرها من النظم الإنسانية بمعناها المقاصدي، اعترى السياسة سوس الفساد على مستوى الوظيفة والتوظيف؛ فجعلت السياسة مطية لأهواء الملكية والاستكبار وغمط الحق، وسلك المفسدون في سبيل استغلالها لمقاصدهم الدنيئة قيم الكذب والغش والتدليس، والقتل أحيانا، بما يتعارض أصلا مع المقاصد المضمونية لكلمة (السياسة) وهو الذي نبهت عليه في أول المقال.

لقد صار السياسي اليوم من يحسن الكذب والتدليس في محاولة حمل الناس على مصالحهم، وفق أيديولوجية موجهة وربما حملهم على مصالحه المادية الأهوائية ثم مصالحهم ويقبح الأمر حينما تصير السياسة معولا لهدم الشرائع ومحاربة دين رب العالمين.

حينما يقول بعض أهل العلم: “من السياسة ترك السياسة”؛ يجد المرء نفسه أمام عبارة فيها نوع من التدافع الاصطلاحي تركيبا وصياغة، فالسياسة المنهي عنها في هذه المقالة هي سياسة المصالح الأهوائية، والمراد بالسياسة المبعضة فيها هي سياسة المواقف، ولا يمكن حملها على السياسة الشرعية؛ لأن السياسة الشرعية تعني التموضع ابتداء في جهة الجهة الوظيفية!

وأما عبارة (العمل السياسي) المنتمية لقاموس ومعجم مصطلحات العمل الإسلامي فالمقصود بها أمر آخر تماما، وينبغي بعد ملاحظة مركباتها ومقاصد المتحدثين بها، أن تراعى في قراءتها قراءة شرعية واجتماعية مجموعة من السياقات التاريخية، والشرعية أيضا، فالعمل السياسي بالمفهوم الحركي المدافعاتي، يعني محاولة إعادة ما أهريق من المضامين الأصلية للسياسة إلى إنائها المصطلحي، وهو الذي تحدث عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن تولي الولايات العامة في بيئة موبوءة قيميا وشرعيا، وبالتالي فلا يمكن بوجه من الوجوه تعميم معنى معياري لمصطلح السياسة، والزج به في متاهات المقالات المشوشة والخطابات غير المؤسسة على بناء علمي وفكري صحيح.

فينبغي على المتحدث في السياسة أيا كان المعنى الذي يتحدث فيه أن يتمثلها ابتداء، بمعنى أن يحسن تصورها وتصويرها لكي يستطيع إسقاط الأحكام الشرعية عليها، ومعالجة نواقصها، وإعادة تصحيح مسارها في نسق دعوي متوازن وعادل.

صحيح أن السياسة اليوم غابت عنها القيم، وانزاحت عن مسارها الأخلاقي والشرعي والعقلي، وصارت الأهواء تلبس لبوسها، أو تمتطي صهوتها فأفسدتها، وأفسدت أمزجة الناس في النظر إليها شكلا ومضمونا، وشوشت النظرة الشرعية العلمية المتوازنة لحقيقتها، حتى صدق على من يمارسها اليوم من أهل الفساد والإفساد قول القائل:

يسوسون الأمور بغير عقل *** فينفذ حكمهم ويقال ساسه

فأفِّ من الحيـــاة وأفِّ منهم*** ومن زمن رياسته خساسه

فنصيحتي لمن يستعمل كلمة (السياسة) أن يراعي كل ما ذكرته، تاريخيا، وفكريا، واجتماعيا، وحضاريا، وشرعيا، والله الموفق.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M