تعليمنا بين الماضي والحاضر.. بحث في العوائق (ح3)

04 ديسمبر 2013 23:36
يونس الناصري

يونس الناصري

ذ. يونس الناصري

هوية بريس – الأربعاء 04 دجنبر 2013م

الثالث: عائق الأدب وحسن الخلق

لا يخفى علينا أن أعوص مشكل يمنع طالب العلم من التفوق والإبداع هو سوء الخلق في التعامل مع نفسه أولا؛ إذ هو لم يوقرها ويرفع من شأنها ويزكو بها، فكان منه ثانيا غياب الاحترام والتبجيل والتعظيم لمن يعلمه ويحرص على أدبه وسؤدده؛ ذلك بأن زوال الاحترام المتبادل الصادق المبني على الأسس الأخلاقية الإسلامية ينشئ مناخا متضعضعا من الشحناء والبغضاء بين المعلم والمتعلم.

ينضاف إلى ذلك ترسيخ بعض الآباء -عفا الله عنهم- لما يسمعون -بلا وعي- من حقوق الإنسان المشاعة، في نفوس أبنائهم، فأصبحت تسمع المتعلم يحتج على معلمه بأنه لا يحق له أن يعنفه أمام رفقائه داخل الفصل، أو أن يطرده، بله أن يضربه تأديبا له، وتحذيرا لمن يشاكله في أخلاقه غير الحميدة، حتى وإن كان يستأهل ذلك.

وأدهى من ذلك ما شاع مؤخرا من هجوم بعض الآباء والأمهات على الأساتذة داخل أقسامهم، ضربا وسبا وتهديدا، كالذي سمعناه قبل أيام من دخول امرأة مخمورة على معلمة كبيرة السن، وضربها لها حتى أدمت وجهها، فأُغمِي عنها؛ كل ذلك والتلاميذ ينظرون ويتأدبون بهذا الهزال الأخلاقي الشنيع.

إنه لعيب كبير أن يقرر اليابانيون على أبنائهم في مرحلتهم الابتدائية مادة مستقلة اسمها “مدخل إلى الأخلاق” إلى جانب المواد الدراسية الأخرى، ونحن -أمة العلم والخلق الحسن- أصبحنا نربي أبناءنا -بأفعالنا وأقوالنا- على التمرد والعصيان القبيحين، وعلى التطاول على الكبار، سواء كانوا جيرانا أو مدرسين أو غيرهم، إلا من رحم الله من الناس، وقليل ما هم؛ عوض أن ندرسهم أخلاق القرآن الكريم، وباب حسن الخلق من كتاب “الأدب المفرد” للبخاري رحمه الله.

يقول العلامة أبو إسحاق الحويني في تقديمه لكتاب “الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد” لأبي البركات الشافعي بتحقيق نشأت المصري: “فكلام السلف في باب الأدب كثير نافع، منه ما رواه الخطيب رحمه الله من قولهم: علمٌ بلا أدب نارٌ بلا حطب، وفيه بيان واضح أنه لا يستفاد بعلم العالم إلا إذا اكتنفه قانون الأدب، وهو الذي يسميه بعضهم بـ”الحشمة”، وأقولها -بكل أسى- إن النهضة العلمية في ديار المسلمين لم تصحبها نهضة أخلاقية مناسبة كافية لقلة المربين..” (ص:5-6 بتصرف يسير).

وقد تعجبت -يشهد الله- من عبارة بديعة نفيسة ذكرها ابن المقفع رحمه الله في كتابه العظيم “الأدب الصغير”، والتي يجب أن يحفظها الصغار ويدرسها الكبار، وهي قوله: “على العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب؛ فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يكثرَ عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخَلَّة والخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئا محاه؛ وكلما نظر إلى محوٍ استبشر؛ وكلما نظر إلى ثابت اكتأب” (ص:17).

إن آفة سوء الخلق المنتشرة بين شبابنا، مرجعها إلى الوالدين والشارع ورفقاء السوء؛ فالوالدان غافلان -كان الله في عونهما- عن تربية أبنائهم تربية إسلامية صالحة؛ لأن أغلبهم يفقدها في نفسه، وفاقد الشيء كيف يعطيه؟ فتراهم ينصاعون لرغبات الأبناء المادية -إن كانوا يستطيعون ويتكلفون إن كانوا لا يستطيعون- ويغفلون مطالبهم التربوية السامية، فلا يلتفتون إليها إلا في القليل النادر، كالحب والتوجيه اللطيف المؤدب إلى أهمية العلم وضرورته، والحرص على الخلق النبيل قبل العلم، وترسيخ حب العلم والمعلمين في نفوس الأبناء، وغير ذلك مما يطول ذكره.

أما الشارع فهو الطامة الكبرى التي ابتلي بها الشباب الغافل؛ إذ إن التلميذ لا يسلم في الغالب من فحش الشارع وقلة حيائه ومظاهر تخلفه الكثيرة، وكلما كثر مكوثُ الأبناء في الشارع، ازدادت حماقاتهم، واستفحلت مشاكلهم، وابتعدوا شيئا فشيئا عن أصول الأدب والخلق الحسن، واقتربوا من الجهل وأصول السفه.

ومن الشارع طبعا (الحي-الدرب-أبناء الجيران المتهورين..) تتكون الرفقة السيئة، التي تؤثر على مسيرة التلاميذ العلمية والأخلاقية، وبقدر ما ينصهر الأبناء في جو اللهو المبالغ فيه، يزداد شوقهم للتفنن في الملذات والشهوات، ومن ثمة إلى المخدرات ومعاشرة الخليلات، مما يمحو الموهبات، ويضعف القدرات.

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” (رواه أحمد وغيره)، وقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالح والجليس السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة، ونافخُ الكير: إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحا خبيثَة” (رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري)، وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي} (حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع)، وقال الشاعر فأجاد:

عن المرء لا تسل وسل عن قرينه — فـكـل قـريـن بالمـقـارن يقـتـدي

فإن كان ذا شـر فـجـانـبـه سـرعـة — وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي

وأحسن من قال: 

أنت في الناس تـقـاس — بمن اخترت خليلا

فصَحْبُ الأخيار تعلو — وتنالُ ذكرا جميلا

وتواترت نصوصُ العلماء البلغاء في هذا المعنى بما لا يحصره مجلدات، حيث قال ابن المقفع في المصدر السابق ذكره: “وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس -ما استطاع- إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق، فيأخذ عنه؛ أو موافقا له على إصلاح ذلك، فيؤيد ما عنده.. فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمي إلا بالموافقين والمؤيدين.. ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء، أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ بين الجهال..” (ص:18-19 بتصرف).

وغير معقول أن ننسى هنا أثر المعلم غير المتخلق في نفسية المتعلم؛ فالحق يقال: إن نسبة من رجال التعليم لم يحسنوا تربية أنفسهم -فهم كذلك ضحية تعليم غلَّب همَّ الوظيفة والمادة على هم التعلم المتخلق والتفقه المهذب، وغلب مقولة: الغاية تبرر الوسيلة- فتراهم يدخنون في الأقسام أو بجنباتها، أو يُرون في الشوارع متمايلين بسبب الخمر، أو يسيئون القالة للتلاميذ، ولا يظهر عليهم الحرص على المتعلم في تعليمهم، وبعضهم لا يهمه إلا أجرته الشهرية، ويفكر أثناء تدريسه في انتهاء الحصة ليعمر المقاهي بالقيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.

ولو قرؤوا وصايا الرسول الكريم في هذا الباب وعملوا بها لحلت مشاكل كثيرة في تعليمنا، كقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما بعثت لأتمم صالحَ الأخلاق}، وقوله: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} وقوله: {أربع خلال إذا أُعطيتهن فلا يضرك ما عُزل عنك من الدنيا: حسن خليقة، وعفاف طُعمة، وصدق حديث، وحفظ أمانة}، وعن عبد الله بن عمرو قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: “خياركم أحاسنكم أخلاقا”. (من كتاب الأدب المفرد للبخاري عليه الرحمات).

وأضاف ابن المقفع: “ومن نصب نفسه للناس إماما -وكل معلم إمام في مادته- فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة (المكسب الحلال) والرأي واللفظ والأخذان، فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه، فإنه كما أن كلام الحكمة يونق الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم..” (ص:23-24). 

وغير ذلك من الأحاديث الصحاح والأقوال الفِصاح من الكنوز الثمينة التي يجب تعلمها وتعليمها للعمل بها والسير على خطاها، لتحسن دنيانا وديننا.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M