«البركة» تلك الجوهرة التي فقدها الكثيرون

18 فبراير 2014 12:55
«البركة» تلك الجوهرة التي فقدها الكثيرون

«البركة» تلك الجوهرة التي فقدها الكثيرون

د.محمد بولوز

هوية بريس – الثلاثاء 18 فبراير 2014م

نسمع كثيرا عن كلمة البركة، عن حضورها أو غيابها، وأنا أتصفح الشبكة المعلوماتية وجدت في إحدى الاستشارات السؤال التالي: أنا متزوج من ثلاثة أشهر، ولا أعرف أين يذهب ما أحصل عليه أنا وزوجتي من مرتب شهري مع أنني أحاسب نفسي على كل درهم أصرفه؛ فبعد عشرة أيام من قبض الراتب لا أجد شيئاً، فماذا أفعل؟!

لا شك أن مثل هذا السؤال ومثله كثير يطرح من العديد من الناس، ولا يبعد أن يكون من بيننا نحن المتدينين من يشعر بنفس الشعور، ليس في المال وحده وإنما في الوقت والجهد والعلم والأولاد والعلاقات ونحو ذلك، تجد الرجل له خمسة من الأولاد ولا ينتفع بشيء من ذلك وآخر له بنت واحدة يقال إنها مباركة عليه، وآخر له شواهد عليا ودكتوراه في العلوم الشرعية مثلا ولكن لا أثر يذكر له وربما حتى في محيطه القريب، وآخر دونه في العلم ولكنه مبارك في دعوته وحضوره وتأثيره؟ وأنت قد تُعطى الملايين، لكن إذا نزعت منها البركة، تجد شقاءها في الدنيا قبل الآخرة ولا تشعر بالتمتع بها، وقد لا يكون معك غير راتبك الذي لا يكاد يوصلك لآخر الشهر، لكن تشعر معه بالبركة فتعيش حياة سعيدة أنت وأولادك. وهكذا تمر بك نماذج في حياتك تراها وتلمسها، قوم معهم بركة وآخرون محرومون منها. إنها البركة الإلهية التي لا تشترى بالمال، ولا تكسبها القبيلة ولا العشيرة ولا تجلبها المناصب والهيئات. ولو أغلق على العبد باب البركة ثم فتح له كل أبواب الدنيا، من مال وولد وجاه وسلطان وصحة. فلن ينتفع بشيء من ذلك وإنما هو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء. ولو فتح له باب البركة فله البشرى بكل خير، مع قلة ذات اليد من ضعف الأجرة، وضيق المسكن، وانعدام الولد، وضعف الجاه. فيا ترى ما هي البركة وما مصدرها ومجالاتها وكيف السبيل إليها وما هي موانعها؟ وهل البركة تكتسب أم أنها عطاء إلهي مخصص لبعض الناس دون آخرين؟!

تعريف البركة وأهميتها

جاء في القاموس المحيط في معنى كلمة البركة: النماء والزيادة والسعادة، والتبريك: الدعاء بالبركة، وبارك على محمد صلى الله عليه وسلم: أدِمْ له يا رب ما أعْطَيْته من التَّشْريفِ والكَرامَةِ. وتَبَارَكَ اللّهُ: تَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ، وفي اللسان: بارك الله الشيءَ وبارك فيه وعليه: وضع فيه البَرَكَة. وروي عن ابن عباس: أنه قال في البَرَكة: الكثرة في كل خير،

فالبركة في المال زيادته وكثرته، وفي الدار فساحتها وسكينتها وهدوؤها، وفي الطعام وفرته وحسنه، وفي العيال كثرتهم وحسن أخلاقهم، وفي الأسرة انسجامها وتفاهمها، وفي الوقت اتساع وقضاء الحوائج فيه، وفي الصحة تمامها وكمالها، وفي العمر طوله وحسن العمل فيه، وفي العلم اتساعه وفائدته ومنفعته.. فإذن البركة هي جوامع الخير، وكثرة النعم، وليست العبرة في ذلك بما تملك من كثرة ومن طاقات وقُدرات، وإنما القليل من كل ذلك مع بركة الله ترى في نفسك ومحيطك الأعاجيب. وإذا سلبت البركة من كل ذلك تبخر كل ذلك أو جله من غير أن تجد له أثرا حسنا فيك وفيمن حولك،

البركة من الله جزاء منه ومنة:

ما ينبغي التسليم به بداية هو أن البركة ملك لله تعالى شأنها شأن الرزق والهداية ونحو ذلك يمنحها ويسلبها وفق مشيئته وإرادته، ولا يمنع ذلك أن يكون لها أسبابها وسننها، جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال: رأيْتُني مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقدْ حَضَرَتِ العَصْرُ، وليس معَنا ماءٌ غيرَ فَضلَةٍ، فجُعِلَ في إناءٍ فأُتيَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهِ، فأدْخَلَ يدَهُ فيه وفَرَّجَ أصابِعَهُ، ثم قال: (حيَّ علَى أهلِ الوضوءِ، البَرَكَةُ مِن اللَّهِ). فلقدْ رأيتُ الماءَ يَتَفَجَّرُ مِن بينِ أصابعِهِ، فتَوَضَّأ الناسُ وشَرِبوا، فجَعَلْتُ لا آلُو ما جَعَلتُ في بطْني منه، فعَلِمتُ أنَّه بَرَكَةٌ. قلتُ لجابرٍ:كَم كُنتُم يومَئِذٍ؟ قال: ألْفًا وأربَعمِائةٍ.” والشاهد عندنا قوله “البركة من الله”.

القرآن كله بركة ومن يدور مع القرآن بصدق يصيبه بعض ذلك:

فالقرآن، كله بركة قال تعالى: “وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (الأنعام:155). وقال سبحانه: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (الأنبياء:50). قال ابن القيم رحمه الله: “وهو أحق أن يسمى مباركاً من كل شيء لكثرة خيره ومنافعه ووجوه البركة فيه”. ويقول صاحب الظلال رحمه الله وهو يصف بركة القرآن:

إنه مبارك في أصله، باركه الله وهو ينزله من عنده، ومبارك في محله، الذي علم الله أنه له أهل، وهو قلب محمد، ومبارك في حجمه ومحتواه، فإن هو إلا صفحات قلائل ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات الكتب. وإنه لمبارك في أثره وهو يخاطب الفطرة البشرية بجملتها خطاباً مباشراً عجيباً لطيف المدخل، فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل. انتهى كلامه رحمه الله.

وهو مبارك على من تلاه وتدبره وعمل به ودعا إليه وحفظه ومن بركات القرآن أنه رقية، وأنه دواء وشفاء، يقول ابن القيم عن نفسه: مكثت بمكة مدة يعتريني أدواء ولا أجد طبيباً ولا دواءً فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً فكان كثيراً منهم يبرأ سريعاً.

ثم يقول رحمه الله: ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره. فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل. انتهى (الجواب الكافي ص5).

وأذكر في ختام هذه النقطة ما جاء في صحيح مسلم “اقرَؤوا سورةَ البقرةِ. فإنَّ أَخْذَها بركةٌ. وتركَها حسرةٌ. ولا يستطيعُها البَطَلَةُ. قال معاويةُ: بلغني أنَّ البطلَةَ السحرةُ.”

الله يبارك الأشخاص والأماكن والأزمنة والأشياء:

فالبركة كلها لله تعالى ومنه، وهو المبارِك جل وعز بيده الخير كله، والبركة كلها له، وهو سبحانه يختص بعض خلقه بما يشاء من الخير والفضل والبركة كالرسل والأنبياء والملائكة وبعض الصالحين. قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ” (آل عمران:33). وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (مريم:30-31). وعلى رأس المباركين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع وله عليه الصلاة والسلام فضائل عظيمة ومزايا كريمة أنعم الله تعالى عليه بها، فزادته شرفاً وفضلاً وبركة.ومن أعظم بركاته عليه الصلاة والسلام هذا الدين الذي بعث به، فمن قبله سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردّه خسر الدنيا والآخرة، قال تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” وما النكد والشقاء والضنك إلا بالبعد عن هديه ورسالته.فقد كان عليه الصلاة والسلام مباركا في أموره كلها حتى الحسية منها: من تكثيره الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة وإبراؤه المرضى ودر اللبن وبركته في إجابة الله تعالى لدعائه صلوات ربي وسلامه عليه. وغيرها من البركات المعنوية العظيمة.

وهناك الصالحون من البشر، الذين هم أولياء الله عز وجل. وهؤلاء أيضاً بركة على أنفسهم وعلى غيرهم. وفي مقدمة هؤلاء العلماء والدعاة وطلاب العلم العاملين المخلصين، هؤلاء هم صفوة المجتمع أو كذلك ينبغي أن يكونوا، فهم مستقيمون في عامة أحوالهم وهم مطيعون لربهم، أخلاقهم حسنة، نفوسهم طيبة، أو كذلك ينبغي أن يكونوا، فهم بركة بما يبثون من الخير بين الناس، وبما يأمرون به من معروف وما ينهون عنه من منكر وما ينشرونه من علم نافع ونصيحة بين الأنام وكل هذا بركة على الناس، ومن بركتهم الدعاء للناس، يقول ابن القيم: “النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي يُنتفع به حيث حل”.

وفضل الله بعض الأماكن على بعض وبارك فيها كمكة والمدينة والمسجد الأقصى والشام واليمن، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري “اللهم اجعلْ بالمدينةِ ضِعفَي ما جعَلْتَ بمكةَ من البرَكةِ”، وقال تعالى في شأن الشام التي هاجر إليها إبراهيم ولوط عليهما السلام: “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء:71). وقال عليه الصلاة والسلام في شأن اليمن: (اللهم بارك لنا في يمننا).

وفضل بعض الأزمنة على بعض وبارك فيها، كشهر رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة، ويوم العيد ففي صحيح البخاري عن أم عطية نسيبة الأنصارية قالت: “كنا نُؤمَرُ أن نَخرُجَ يومَ العيدِ، حتى نُخرِجَ البِكرَ من خِدرِها، حتى تَخرُجَ الحُيَّضُ، فيكُنَّ خلفَ الناسِ، فيكَبِّرْنَ بتكبيرِهم، ويَدعونَ بدعائِهم، يَرجونَ بركةَ ذلك اليومِ وطُهرَتَه”.

ومن الأوقات المباركة وقت البكور، ففي الترمذي وصححه الألباني عن صخر بن وداعة الغامدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اللَّهمَّ بارِك لأمَّتي في بُكورِها. قالَ: وَكانَ إذا بعَثَ سريَّةً أو جيشًا، بعثَهم أوَّلَ النَّهارِ. وَكانَ صَخرٌ رجُلًا تاجرًا. وَكانَ إذا بعَثَ تِجارةً بعثَهم أوَّلَ النَّهارِ، فأثرى وَكثرَ مالُهُ” يعني راوي الحديث. وفي حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه الترمذي أيضا وصححه الألباني قال: (بورك لأمتي في بكورها) وليعلم الذين ينامون إلى نصف النهار أنهم قد حرموا أنفسهم بركة ذلك اليوم.

وجعل الله البركة في أشياء كالمطر، قال تعالى: “وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) سورة ق.

ومن ذلك: شجرة الزيتون قال تعالى: “يوقد من شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ” (النور:35).

وأيضاً: الجهاد والخيل، ففي صحيح البخاري عن عروة بن أبي الجعد البارقي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامةِ: الأجرُ والمغنمُ. فالبركة في الخيل لارتباطها بالجهاد في سبيل الله.

وأيضاً النخل قال صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم). والمراد بها النخلة.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه بركة) [رواه أبو داود].

ومن ذلك ماء زمزم فهذه العين، عين مباركة، قال فيها عليه الصلاة والسلام(إنها لمباركة هي طعام طُعم وشفاء سقم).

وفي السحور بركة، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (تسحروا فإن في السحور بركة)، وفي السلسلة الصحيحة: (اتخذوا الغنم، فإن فيها بركة)، وكذلك (البركة في ثلاث: الجماعات، والثريد، والسحور) والثريد طعام من خبز مفتت مبلول بالمرق.

الاجتماع على الخير بركة:

ففي الترمذي وصححه الألباني عن عرفجة بن شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سَتَكُونُ بَعْدِي هَناتٌ و هَناتٌ، فمَنْ رأيتُمُوهُ فارقَ الجماعةَ، أوْ يريدُ أنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ أُمَّةِ محمدٍ كَائِنًا مَنْ كان فَاقْتُلوهُ؛ فإنَّ يَدَ اللهِ مع الجماعةِ، وإنَّ الشَّيْطانَ مع مَنْ فارقَ الجماعةَ يَرْكُضُ”، ولا شك أن الخطاب لأولياء الأمور في إطار مراعاة أحكام الشرع وليس لعموم الناس، والشاهد في الحديث “يد الله مع الجماعة”.

الاقتصاد وعدم التبذير ولو لحبات من طعام تعلق باليدين بركة:

ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الشيطانَ يحضر أحدَكم عند كلِ شيءِ من شأنِه. حتى يحضُره عند طعامِه. فإذا سقطت من أحدِكم اللقمةَ فليمطْ ما كان بها من أذى. ثم لْيأْكلْها. ولا يدعها للشيطانِ. فإذا فرغ فلْيلْعقْ أصابعَه. فإنَّه لا يدري في أي طعامِه تكون البركةَ.

كيف نحصل على البركة؟

أعجبني هنا جواب أجاب به أحد المستشارين (يسمى إبراهيم الأزرق) في موقع المسلم التربوي الذي يشرف عليه ناصر بن سليمان العمر، عن السؤال الذي افتتحنا به هذه المقالة، فقال في حق من يشكو غياب البركة في مرتبه ومرتب زوجته: بأن المشكلة التي تشكو منها مشكلة شائعة يشكو منها كثير من الناس، وفي تقديري أن ما يزيد من تفاقم هذه المشكلة إغفال عاملين؛ أحدهما شرعي، والآخر دنيوي عادي يتعلق بالتدبير.

أما ما يتعلق بالعامل الشرعي فإن الشريعة قد بينت أن بسط الرزق مناط بأسباب شرعية، فمن حققها فهو موعود بالبركة، ومن أخلفها فقد يبدل الله أمره، ومن لم يكفه الله فلا كافي له، ولا يملأ فم (عيني)ابن آدم إلا التراب. ومن الأسباب الشرعية للمباركة في الرزق بل جماعها:

تقوى الله تعالى والإيمان به والاستقامة على شرعه:

كما قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96)، وقال سبحانه: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجـن:16)، والإيمان والتقوى شُعَبٌ كثيرة، وتفاضل بعضها على بعض في التأثير على الرزق مما دلت عليه الأدلة، ومما ثبت أن له أثراً على رزق ما يلي:

   العمل بأحكام الكتاب وإقامة أمره وتحكيمه ولو على نطاق الفرد وهذا يستفاد من قول الله تعالى في أهل الكتاب: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة: من الآية66).

   ومن ذلك أيضاً البر والإنفاق؛ صدقةً وزكاةً، قال الله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم: من الآية39)، وقال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: من الآية276)، وقال: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سـبأ: من الآية39)، وقد ثبت في الحديث القدسي عند مسلم قول الله تعالى: “يا ابن آدم أنفق، أنفق عليك”، واتفق الشيخان على حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً”.

   ومن ذلك أيضاً صلة الرحم، التي قطعها كثير من الناس لأجل الدنيا وكسبها، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه” قال علماؤنا: بسط الرزق: توسيعه وتكثره أو البركة فيه.

   ومن ذلك أيضاً التوكل على الله، وهذا من تمام التعلق به وتوحيده، فالمرء يبذل أسباب الرزق، ثم لا يتعلق بها أو بمن جعله الله سبباً لها، بل بمسدي النعمة سبحانه وتعالى، وقد روى الإمام أحمد والترمذي وصححه حديث الفاروق عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً”.

   ومن ذلك الدعاء والشكر والحمد والثناء والتوبة والاستغفار:

فمما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتيَ بأوَّلِ الثَّمرةِ كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة “اللهمَّ! باركْ لنا في مدينتِنا وفي ثمارِنا وفي مُدِّنا وفي صاعِنا. بركةٌ مع بركةٍ. ثم يعطيه أصغر من يحضرُه من الولدانِ.

وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (وبارِك لي فيما أعطيتَ). وفي الشكر قول الله تعالى “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ” والزيادة بركة، وفي الاستغفار قال الله تعالى على لسان نوح عليه السلام “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) فالاستغفار يجلب بركة الرزق.

ويمكن أن نضيف إلى هذا أمورا أخرى ورد الشرع ذكرها سببا للبركة، من ذلك:

 – تسمية الله تعالى عند بدء كل أمر مشروع:

وتكون في بداية كل عمل. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء” [صحيح الكلم.

الأكل الحلال:

وهو الأكل الطيب الذي يبارك الله فيه، قال صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً” [صحيح الجامع 2744]، فالمال الحرام لا يبارك الله به ولا يعود على صاحبه إلا بالفقر والنقص.

التزام الصدق:

فالصادقُ في البيع والشِّراءِ والمعاملات، مبارَكٌ له في الكَسب؛ يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (البيِّعان بالخِيار ما لم يتَفرَّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بُورِك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتَما مُحِقَت بركة بيعِهما)؛ متفق عليه.

الزواج:

وهو أحد الأسباب الجالبة للبركة، وقد كان بعض السلف الصالح يطلبون الزواج لكي يتحقق لهم الغني ويأتيهم الرزق، لأنهم فهموا ذلك من قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)، وكذلك قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ).

القناعة والرضا بعطاء الله؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: فيما رواه أحمد في مسنده بسند صحيح: (إن الله -تبارك وتعالى- يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله – عز وجل – له، بارك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرضَ لم يبارك له فيه).

– أما العامل الثاني من عوامل بسط الرزق والمباركة، أو التنمية والزيادة فيه فهو دنيوي يتعلق بالتدبير، فمن أحسن التدبير جمع الأموال وثمرها مسلماً كان أو كافراً، براً كان أو فاجراً، فهذا سبب قدره الله كوناً كما قدر لكثير من الأشياء أسباباً يحصلها بها باذلوها بمشيئة الله، ولا يحصلونها إن هم تركوها وأغفلوها. والتدبير اليوم علم يدرس، وضعت فيه كتب تتعلق بنواح شتى، وفي بعضها أفكار ورؤى ولفتات قد تكون مفيدة. و تدور على حسن التخطيط الموصل للمراد بأيسر السبل وأقلها تكلفة، وكذلك على ترك الفضول وما لا حاجة للناس به.

وكثير منّا قد لا يراعي ذلك، مع أن مراعاة التدبير من جملة الأخذ بالأسباب التي أُمِرْنَا أن نأخذ بها ما دامت غير محرمة. ومن جملتها:

 التبذير، و تبديد الأموال فيما لا نفع فيه أو بالإسراف في الكماليات، ومع الأسف كثير من الكماليات أصبحت عند كثير منّا ضروريات لا بد منها، وقد نتج عن هذا أن يبذر المرء ويسرف ولا يدري أنه مسرف، والمطلوب أن نقف ونتفكر ونراجع قائمة ما أنفقنا فيه هل كل ما فيها له حاجة حقاً بحيث يحدث فقده ضرراً أو أثراً سيئاً؟ وما كم الكماليات المدرجة في قائمة منفقاتنا؟ وكم تستهلك من الراتب؟ وهل هذه النسبة معقولة أم لابد من اتخاذ قرار صارم فيها؟

• ومنها الدخول في التزامات قبل أوانها أو عدم برمجتها والتفكير فيها بصورة جيدة، فترهق الظهر، وتبدد الأموال، مع أن إعادة برمجتها كفيلة بحفظ المال، وتلبية الحاجيات، بل والزيادة والنمو، ولكن بالتدرج شيئاً فشيئاً. ومن أمثلة ذلك: أن يسعى المرء إلى تحصيل مسكن حسن، وسيارة جيدة، وسم ما شئت من حاجيات العصر، بل وضرورياته، التي يحق له بل ينبغي أن يسعى في تحصيلها، لكن يقع الإشكال عندما لا يحسن برمجتها، فيدخل في التزامات تقسيط تستنزفه، وتجعل راتبه الضخم هباءً منثوراً، مع أنه كان يسعه أن يبرمج أهدافه فيقدم بعض حاجياته ويؤخر بعضها، مكتفياً بما يسدد مسدها مؤقتاً. فمثلاً إن كانت قيمة الإيجار الذي يليق به طوال مدة تقسيط البيت، تقل عن فائدة التقسيط (الزيادة الناجمة في السعر لأجل التقسيط)، فمن الحكمة أن ينظر سكناً متواضعاً يليق به يستأجره ريثما يجمع ما يكفل له بناءً أو شراءً دفعةً واحدة. وقل مثل ذلك في السيارة قد يكون الاكتفاء بسيارة مستعملة تناسبه خيراً من الإقدام على شراء السيارة التي يطمح إليها بالتقسيط… وهكذا،

ثم عليه أن ينظر ليعلم أيهما الأولى بالبدء فيه، فعليه أن يفاضل ما الذي يقدم وما الذي يؤخر بحسب طاقته، ومن لم يخطط ويحسن التدبير قد يغفل هذه المفاضلة فيغبن ويبدد بعض المال الذي كان له أن يستفيد منه،

وأسوأ من هذا حالاً من يدخل في عدة مشاريع دفعة واحدة دون أن يقدر طاقته، فيعيش معيشة ضنكاً قد أجبر نفسه على الدخول فيها.

• وأخيراً من الإشكالات عند كثير منا عدم وجود رؤية واضحة للحاجيات والكماليات المناسب اقتناؤها، ووجود الهدف الشرائي والرؤية الواضحة تجعل المرء يعرف ماذا يأخذ وماذا يذر ولا سيما في هذا العصر الذي تفنن أهل التسويق فيه في عرض السلع وترويجها، فمن لم تكن له رؤية شرائية يقع أسير الدعاية وأسير هواه فكلما اشتهى اشترى، بخلاف من يبرمج حاجياته وشهوته وفقاً لما تقتضيه مصلحته. والمهم قبل ذلك وبعد أن يتذكر السؤال الذي سوف يعرض عليه يوم القيامة: من أين اكتسبت هذا المال؟ وفيم أنفقته؟

موانع البركة:

حب الدنيا وكراهية الموت،

فالأمة اليوم كثيرة ولكن كثرة لا بركة فيها، وصدَق فينا قول المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا فقال قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ الله من صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فقال قَائِلٌ يا رَسُولَ اللَّهِ وما الْوَهْنُ قال: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).

كثرة المعاصي،

فللمَعصيةِ كبير الأثر في مَحقِ بركةِ المالِ والعُمُر والعلم والعمَل؛ يقولُ النبي – صلى الله عليه وسلم -: (وإن العبدَ ليُحرَم الرزقَ بالذنبِ يُصيبه)؛ رواه الحاكم وصححه.

 الغش والخداع،

ما أكثر الغش والخداع في حياتنا، فكثير من الناس في البيع والشراء يلجأ إلى الحلف كذبًا؛ حتي يبيع السلعة، وهذا أمر مشهور في الأسواق، تأمَّل معي ما عاقبة ذلك؛ قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الشيخان: (الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلبركة).

التعامل بالربا،

وما أكثر من يتعالم بالربا في حياتنا، ويَحسَب أن فيها زيادة للمال، لكنها زيادة ظاهرية لا بركة فيها، اقرؤا معي إن شئتم قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم:39]، وقال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة:276].

فهذا ما تيسر جمعه في البركة، تلك الجوهرة التي فقدها الكثيرون، عسى أن يكون فيه تذكرة وعبرة وتفكر، ويتولد عنه عزيمة وإرادة لركوب أسباب البركة والاجتهاد في دفع موانعها، والمبارك الله.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M