عبد الرحيم بوعبيد وقصة «العهر» المغربي الفرنسي

01 مارس 2014 15:55
عبد الرحيم بوعبيد وقصة «العهر» المغربي الفرنسي

عبد الرحيم بوعبيد وقصة «العهر» المغربي الفرنسي

ذ. إبراهيم الطالب

هوية بريس – السبت 01 مارس 2014م

في العلاقات الدولية خصوصا عند الدول الغربية، ليست هناك صداقة بين الدول بل هناك مصالح وأرباح ومنافع مادية يحافظ عليها، وهناك مفاسد وخسارات ومضار يجب اجتناب وقوعها، وعند تعارض مصالح الدول، تتأثر العلاقات بينها، وتصل إلى درجة وقوع الحروب والمعارك، وهذا ما يعرفه العالم منذ كان إلى وقت الناس اليوم، وما الحربان العالميتان وكل الحملات التوسعية للاحتلال الغربي لبلداننا واستنزافه لثرواتنا خلال عقود مديدة، إلا تمظهرا صارخا لتضارب المصالح بين إمبرياليات العالم التقدمي الديمقراطي والفاشي الديكتاتوري على السواء. 

في هذا السياق يجب أن نفهم تصريح السفير الفرنسي في الأمم المتحدة، “جيرارد أرو”(1)، الذي قال إن: “المغرب العشيقة التي نجامعها كل ليلة، رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها لكننا ملزمون بالدفاع عنها”.

إذ من المعلوم أن فلتات ألسنة الدبلوماسيين دائماً لها دلالات تتوارى بين أحرفها، وغالبا ما تعكس حقيقة لا تظهر في اللقاءات الرسمية، والمجاملات التي تؤثث تصريحاتهم أمام الصحافة، والتي عادة ما توجه للاستهلاك الإعلامي.

فكيف إذاً نفهم تصريحات المسؤول الفرنسي؟

وهل يكفي أن تنفي الخارجية الفرنسية الأمر لنطمئن إلى صدق الصداقة والوئام؟ 

وهل المطالبة بالاعتذار الرسمي كفيلة بأن تصحح واقع العلاقات المختل بين الدولتين؟

أغلب المتدخلين المعلقين على تصريح السفير فضلوا أن تبقى كلماتهم رهينة ظواهر نص التصريح، وجنحوا إلى الحديث عن العهر والدعارة والشرف والعفة، في حين فضل بعضهم أن يقرأ الحدث مرتبطا بقضية طلب الاستماع إلى المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني بعد شكاية تقدمت بها جمعية حقوقية تدعى “مسيحيون ضد التعذيب” تطالب بالتحقيق مع عبد اللطيف الحموشي، الذي تتهم جهازه بممارسة التعذيب بحق شخصين أحدهما هو المتهم الرئيسي في أحداث مخيم اكديم إيزيك، والذي أدانته المحكمة العسكرية بالرباط بالسجن ثلاثين عاما بعد اعترافه بقتل عناصر من قوات الشرطة والتنكيل بجثثهم. 

وأيا كانت الملابسات والدوافع التي تقف وراء الحدثين، فإن التصريح، له من الوجاهة والواقعية ما يستلزم منا التأمل والتفكر، ولا ينبغي أن تأخذنا الغيرة الجوفاء التي تولدها الكلمات الخادشة التي استعملها السفير السفيه، فهي غير مقصودة من حيث المعنى الحرفي، لذا علينا أن نستنبط دلالاتها المجازية. 

 ربما كنا بحاجة إلى أن نرجع إلى أعماق التاريخ مع الداعر الفرنسي حتى نفهم لماذا اختار كلمة العاهرة، التي لم نقرأها أبدا فيما نشر من مذكرات القادة العسكريين والسياسيين الفرنسيين من يوم الدخول الفرنسي لوجدة سنة 1907 إلى غاية محادثات “إيكس ليبان”.

لم يكن في وسع أمثال ليوطي ومن جاء بعده أن يصفوا المغرب بالعاهرة، وذلك لما عانته الجيوش الفرنسية من مقاومة وجهاد رجالاته الذين ماتوا غيرة على عرض المغرب، وإن جاز لنا أن نجاري سفيه فرنسا في الأمم المتحدة، ربما قلنا أن وصفه هذا يحمل مخزونا تاريخيا، جاثما في ذاكرة حفيد ليوطي، هذا الديبلوماسي الذي لا بد أنه يحفظ تاريخ أمته واحتلالها لبلادنا، ومقتنع أن المغرب كان، امرأة حرة طال اغتصابها من طرف الداعر الفرنسي على مر خمسة عقود، هي عمر الاحتلال العسكري، فما باله اليوم يصف المغرب بالعاهرة، وهو العليم بالواقع والتاريخ؟

تصريح السفير الفرنسي، يجعلنا ننقب في محادثات “إيكس ليبان” التي نعتقد أنها أسست في فكر هذا الديبلوماسي، لنهاية عقد الاغتصاب، وبداية عقد العهر بين المغرب وفرنسا، والذي بموجبه أصبحت المرأة الحرة التي كانت تغتصب كرها  تحت قهر السلاح، مجرد عشيقة يجامعها الداعر عن رضا وقبول منها، بموجب عقد سفاح يلزمه بالدفاع عنها لحماية استمرار استمتاعه بها. 

ففي غشت 1955 تقدم مندوب حزب الاستقلال عبد الرحيم بوعبيد أثناء محادثات “إيكس ليبان” بمداخلة قال فيها: “لقد وضعتنا فرنسا في مواجهة العالم، وبفضل فرنسا تأكدت شخصيتنا، وهذا يحتم علينا اليوم أن نكون أكثر انفتاحا على العالم وبمساعدة فرنسا نريد أن نكون دولة حرة ذات سيادة”. 

 هذا التصريح جعل انطوان بيني، وزير الخارجية في حكومة “إدكار فور” يصيح رادا على بوعبيد: “إن فرنسا ليست لها أهداف أخرى غير ما عبرتم عنه الآن، ولم يبق الآن إلا تحديد مراحل الوصول إلى الأهداف”. 

ثم علق عليه إدكار فور رئيس الحكومة الفرنسية قائلا: “لقد استمعت بانفعال إلى كلامكم، وتأثرت بما قلتموه، وكونوا على يقين أن نفس الشعور يخامرنا، وإذا لم نتوصل إلى التفاهم مع رجال مثلكم، وإذا ما كان للحوار الفرنسي أن لا يستمر إلا بواسطة البنادق، فإنها المصيبة بعينها، كونوا على يقين بأن فرنسا قررت أن تتصرف وأن تأخذ القضية بيدها، غير أن ما تبدونه من تعلق ببلدنا يملي عليكم ألا تطلبوا منا ما يمكن أن ينال من سمعتنا”(2). 

من هذا اليوم بدأ الفرنسيون يعتبرون المغرب مجرد عاهرة، وحاولوا أن يلعبوا دور العشيق، الذي يستغل ثراء جسد هذه المسكينة، التي كان بالأمس يمارس عليها عمليات الاغتصاب وهو خائف يترقب، فأصبح بعد أن قرر أولياء أمور هذه المسكينة أن يسلموها له مقابل أن يسمح لها بالظهور أمام الناس أنها لم تعد مغتصبة، وأنه قد أعطاها حريتها، واقتضى ذلك أن ينزع جنوده لباسهم العسكري ليرتدوا لباسا مدنيا، ويتوزعوا على مفاصل جسدها الذي ادعى أولياؤه في “إيكس ليبان”، أنه لا يمكنه القيام بوظائفه إلا إذا بقي مغتصب الأمس يمده بالقوة والقوت، ويشد أزره حتى يتقوى ويكبر.

عقد العهر هذا وما تلاه من اتفاقات، ألزم أولياء العاهرة أن يقتلوا أبناءها الذين لم يرضهم هذا الخنوع، أولئك الشرفاء الذين قرروا أن يستمروا في الجهاد ضد المغتصب ويطردوه من جميع أنحاء جسد أمهم المغتصبة، فما كان من مفاوضي “إيكس ليبان”، إلا أن نصبوا لهم المشانق والاغتيالات، وفتحوا المعتقلات للتعذيب، لم تكن دار ابريشة إلا عينة منها. 

اتفاق العهر قضى أن تبقى مصالح المحتلين الفرنسيين مصونة، بل فتحت أمامها كل الأبواب لتصل نسبة الاستثمارات الفرنسية في المغرب إلى  76 في المائة من مجمل استثمارات فرنسا، في البلدان المغاربية الثلاثة (المغرب وتونس والجزائر)، والتي بلغت 11.2 مليار يورو في نهاية 2012، حسب البنك المركزي الفرنسي، في حين يوجد أكثر من 17 في المائة من هذه الاستثمارات في الجزائر، التي دام احتلالها لها أكثر من 130 سنة. 

إن نسبة الاستثمارات في ظل عقد العهر، تعني الهيمنة والاستغلال، كما تعني التبعية والإلحاق الثقافي، الذي كانت آخر حلقاته رجوع الباكلوريا الدولية الفرنسية إلى الثانويات المغربية وإطلاق اليد لمراكز البعثة الثقافية الفرنسية في مجال تربية أبنائنا على مناهج علمانية الجمهورية الخامسة، التي نعتبرها أفظع علمانية على وجه البسيطة.   

هذا هو الثمن الذي فرض علينا أن ندفعه مقابل التعلق بالداعر الفرنسي، فليس من الغريب إذاً أن يشترط “إدكار فور” على المفاوضين المغاربة أولياء المغتصبة، أن لا يطلبوا منه ما يمكن أن ينال من سمعة فرنسا والفرنسيين، ولنتأمل المقابل في قول: “غير أن ما تبدونه من تعلق ببلدنا يملي عليكم ألا تطلبوا منا ما يمكن أن ينال من سمعتنا”. 

هذه السمعة الكاذبة هي ما تحكم به فرنسا أبناءها، احترام سمعتها الديمقراطية المزيفة هي التي جعلت الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الفرنسية يصرح  بكل ثقة، بخصوص قضية مدير المخابرات رغم الاتصال الهاتفي بين العاهل المغربي والرئيس الفرنسي: “نحن نحترم بشدة الفصل بين السلطات، ولن نتدخل في التحقيق القضائي. لقد قلنا السبت الماضي أن الأمر يتعلق بحادث مؤسف، وسنقدم التوضيحات اللازمة إلى السلطات المغربية، وهو ما نقوم به”.

ثم استمر في استعراض العضلات الديمقراطية، على العاهرة المبتذلة، موضحا أن مبدأ فصل السلطات هو مبدأ لا يمكن تجاوزه، “لذلك فنحن نحترم بشكل كامل قرار القضاء الفرنسي ولا نستطيع التدخل في قرار القضاء متابعة الحموشي، وكل ما تستطيع الحكومة الفرنسية القيام به هو تقديم توضيحات بشأن هذا الحادث المؤسف للحكومة المغربية”. 

 فهل تجرؤ وزارة الخارجية عندنا أن تصرح بالكلام نفسه، فيما إذا تقدمت جمعية حقوقية بطلب التحقيق مع مدير المخابرات الفرنسية في قضية مشابهة؟ 

الجواب يعرفه الجميع. 

هذا هو الفرق بيننا وبينهم، هم يستغلون الشعوب يقتلون النساء يساندون الكيان الصهيوني، يدعمون إسقاط الحكومات المنتخبة، يوالون الاستبداد، يقومون بفظائع الإرهاب المنظم، يدمرون بلداننا، لكن دائماً باسم حقوق الإنسان وباسم الديمقراطية، ودائما عندهم من المسوغات والتفسيرات باسم احترام المواثيق الدولية، ما تنسى ذاكرتنا معه كل صروف القهر التي يسوموننا إياها، وتنقلب انتهاكاتهم لحقوقنا واستغلالهم لثرواتنا، وتعاونهم مع أعداء وحدتنا الترابية، حقا للشعوب في تقرير مصيرها، ولأن الظلم مستشر فينا فهم دائما يلوون ذراعنا بتقاريرهم الحقوقية، ويهددوننا بتوسيع مهمة المينورسو بأقاليمنا الصحراوية، لتشمل حقوق الإنسان، حتى نستمر في الخضوع والخنوع، ويستمر العمل بموجب اتفاق العهر الذي أبرم في منتجع “إيكس ليبان”.

إن على المغرب أن يبحث عن استقلاله، وذلك بفك الارتباط ولو على المدى المتوسط مع فرنسا والغرب، ويولي وجهته صوب تركيا التي منعنا اتفاق العهر من قبول الاستثمارات التي جاء أردوغان بنفسه ليبرم صفقاتها في المغرب؛ لكن رجال أعمالنا الذين يقودهم رجال الأعمال الفرنسيون معصوبي الأعين، امتنعوا عن الجلوس مع المستثمرين الأتراك الذين عرفوا كيف ينتزعون استقلالهم عن الصناديق الدولية والبنوك الغربية.

علينا إن كانت عند سياسيينا الإرادة في بناء مغرب مستقل أن يحرروا المغاربة من التبعية العمياء لكل ما هو فرنسي،  حتى يتمكن المغرب من إعادة صياغة علاقاته مع الدول الغربية على أساس من الندية.

لكن بالنظر إلى الواقع ربما كان هذا حلما، لكن ليس مستحيل التطبيق، لا سيما إذا ما أعدنا الاعتبار إلى الإنسان المغربي، وأصبحت الدولة في سياستها الداخلية تبني علاقتها مع الشعب على أساس احترام المغربي وتقدير كرامته وحريته، ولن يكون ذلك إلا بالرجوع إلى قيمنا الإسلامية وديننا الحنيف الذي شكل هديه وأحكامه شخصيتنا، بما فيها من العزة والقوة التي جعلت من المغاربة رجالا ونساء، جيوشا من العلماء والمجاهدين استطاعوا أن يبنوا مجتمعا وصلت نخبته إلى مستوى حكمت فيه بلاد إسبانيا، التي لا نستطيع اليوم منعها من استغلال ثرواتنا البحرية والعبث بوحدتنا الترابية، بله أن نسترد منها ثغري سبتة ومليلية.   

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

[email protected]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير أسبوعية السبيل.

1) وليس سفير فرنسا في واشنطن، فرانسوا دولاتر، كما سبق وأخطأت جريدة لوموند الفرنسية ثم اعتذرت.

2) بوعبيد، محمد الخامس، والأمير مولاي الحسن، إعداد عبد اللطيف جبرو. 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M