الخطبة السياسية.. الخطبة الأولى: علم الحجج وعلم السياسة

20 مارس 2014 22:56
الخطبة السياسية ..الخطبة الأولى: علم الحجج وعلم السياسة

الخطبة السياسية ..الخطبة الأولى: علم الحجج وعلم السياسة

د. عادل رفوش

هوية بريس – الخميس 20 مارس 2014

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المَلِكِ الحق، له ملك السموات والأرض، ربّ الناس ملك الناس إله الناس، ولم يكن له شريك في الملك..

له الخلق والأمر ولا تُشْرِكْ في حكمه أحداً.

والصلاة والسلام على القاسم الخازن، أرسله الله بالبينات والميزان ليقوم الناس بالقسط؛ فقال عنه ربه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:29]، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15]، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} [هود:112]؛ فجاء بالصدق وصدق به وكان رحمةً للعالمين.

أمر بالعدل ونهى عن الظلم؛ عذرا أو نذرا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].

وفي الصحيحين: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ويسرنا وعسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان.

فجمع بين لزومين:

الأول: لزوم الطاعة.

الثاني: لزوم القيام بالحق، بغير خوف ملامة، حيث كنا.

ولذا كان “العلم الشرعي” من هذا الوجه علمين أصيلين كما أصله شيخ الإسلام أبو العباس رضي الله عنه وأرضاه في مواطن عدة قولا وفعلا.

وجَسَّدَ بِحَقٍّ هو وتلاميذه -وبالأخص شمس الدين ابن القيم-؛ إتقانَ العِلمين الأصيلين الذين بهما نصرةُ الدين: علم الحجج، وعلم السياسة.

علمٌ لنصب الأدلة على صحة هذا الدين ووجوب ظهوره واتباعه ونفي الشبه عنه.

وعلم لحماية هذا الدين بجلب المصالح في دنيا الناس حتى يتم لهم استقامتهم عليه.

فالأول ألصق بالتنظير اللساني (علم أقوال)، والثاني أوثق بالتطبيق العملي (علم أفعال)؛ حراسةً للأديانِ وَللأبدانِ؛ وذلك هو الإنسان.

وكلاهما علم يلزم حسن التفقه فيه ومزاولة مبانيه؛ ليكون المرء في كليهما من المصلحين؛ كما ذكر الله تعالى عن إبراهيم الخليل في “علم الحجة”: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83]؛ فهي: “رِفْعَةُ حجةِ علمٍ” لدفع شبه المناوئين.

وقال عن يوسف الكريم في”علم السياسة”: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]؛ فهي: “رِفْعَةُ عِلمِ سياسةٍ” بنشر العدل وحسن التدبير.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “ولهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والأمارات؛ مقهورين مع هذين الصنفين؛ تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد “الدينَ بالجدلِ”، أو “الدنيا بالظلمِ”، وتارةً بالاحتياجِ إليهم إذا هاجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك؛ تارةً بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعضٍ في الدنيا والدين، وتارةً يعيشون في ظِلِّهِمْ في مكانٍ ليس فيه مبتدعٌ يستطيلُ عليهم، ولا والٍ يظلمهم؛ وما ذلك إلا لوجودِ علماءِ الحججِ الدامغةِ لأهل البدع، والسياسةِ الدافعةِ للظلمِ” اهـ كلامه عليه الرحمة والرضوان[1].

وخذ -رعاكَ اللهُ ورحمنا وإياك نظمَ أصولِ حقوقِ الراعي والرعية (نظمتها لَكَ ملخصة من كتب الأعلام؛ ككتاب تحرير الأحكام لابن جماعة[2]):

فَلَهُ عليهم عشرة:

طَـوْعٌ لَهُ بظاهـرٍ وَباطنِ — والنُّصْحُ سِرّاً أو حَكِيمُ العَلَنِ

ونُصْرَةٌ، تَعْظيمُهُ، إِفَاقَتُهْ — تَـحْذيـرُهُ، إِعْـلامُـهُ، إِعَـانَـتُهْ

رَدُّ قُـلوبِ الـنَّافـرِينَ مِنْهُ — والــذبُّ لِلَّهِ بِـصِـدْقٍ عَــنْــهُ

وعشرةٌ لهم عليه:

حِمايةُ البلادِ، حِـفظُ الدينِ — نَصْبُ الشَّعائـرِ، قَـضَاءُ الصَّوْنِ

إعدادُ عُدَّةٍ، إقامةُ الحُقُوقْ — نَعْشُ اقتصادٍ، خَدَماتٌ كالطريقْ

إدارةُ الـتـدبـيرِ والتسييـرِ — والـعـدْلُ زيـنُهَا وأصْـلُ الخَـيْـرِ

 قال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

قال الضحاك: “هو شرط على من آتاه الله الملك”.

قال ابن جماعة: “فإذا قاموا بهذه الشروط تحقق لهم النصرُ المشروط.

ثم قال عن وظائف الإمام: “يقوم بحراسة الدين وكف أيدي المعتدين، وإنصاف المظلومين من الظالمين، ويأخذ الحقوق من مواقعها، ويضعها جمعاً وصرفا في مواضعها؛ فإن بذلك صلاحَ البلاد وأمن العباد وقطع مواد الفساد؛ لأن الخلقَ لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم ويتجرد لحراستهم..

وجَوْرُ السلطان أربعين سنةً خيرٌ من رعيةٍ مهملةٍ ساعة واحدة” اهـ.

قلت: وخيرٌ مِنَ الجور منه والفوضى منهم؛ لزومُ العدلِ والحقِّ من الراعي والرعية.

قال الطرطوشي المالكي في كتابه (سراج الملوك) -الذي صنفه بعد أن أقام آخر حياته بالإسكندرية احتساباً لما رأى فيها من المنكرات وتضييع الصلوات؛ نصيحة لوزير مصر ابن البطائحي-؛ في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251]؛ قال رحمه الله تعالى:

“لولا أنَّ اللهَ أقامَ السلطان في الأرض؛ يدفع القوي عن الضعيف، وينصف المظلوم من ظالمه؛ لتواثَبَ الناس بعضهم على بعضٍ، ثم امتن الله تعالى على عباده بإقامة السلطان لهم بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].

فما أسناه مِنْ مقامٍ، وما أضناه من مرام.

وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم المشهور بصحيفة آلِ عمر من رواية الزهري عن ابن خنيس بأسانيد حسنة:

وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى وابتغى منهم دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعه ولو كان ولد أحدهم…

وأن بينهم النصيحة والنصر للمظلوم، وأن البر دون الإثم فلا يكسب كاسب إلا على نفسه“اهـ

فـ{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]..

في التوادد والتراحم “كالجسد الواحد“، وفي الشكوى “فعليكم النصر” ..

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما عند أحمد والقضاعي بسند حسن من حديث معاوية بن حيدةَ (وهو أَبُو أَبِي بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ “الإسناد الشهير”)- قال:

وكل المسلم على المسلم محرَّمٌ؛ أخوانِ نصيرانِ…، ثُمَّ إنكم مدعوُّونَ مُفَدَّمَةً أفواهكم بالفِدام...” الحديث.

وفي البخاري: “ذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم؛ فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

وعند ابن حبان: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ أولها الحكم وآخرها الصلاة.

ونهى عن سنن الجاهلية وأبطلها تحت قدميه وقال: “أبغض الناس إلى الله مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية[3].

ونهى عن اتباع اليهود والنصارى -تنبيهاً على الشؤون الدينية-، وفارس والروم -تلميحاً للشؤون المدنية-، وأخذ منهم المأذون فيه استفادة من الخير وإنصافاً للحكمة..

فشرع من قبلنا شرع لنا، و”حدثوا عن بني إسرائيل” غير “متهوِّكين فيها يا ابن الخطاب..

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف:56]، {وَأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]..

وفي مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على قومٍ يستصلحون زراعتهم فقال: “إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه“، و”نهى عن الغيلة ثم أذن فيها؛ لأن “الروم وفارساً يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم“.

وفي مسلم والمسند أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أعزل عن امرأتي؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ولم تفعل ذلك“؟ فقال: “أُشْفِقُ على أولادها”.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو كان ذلك ضارًّا ضَرَّ فارس والروم.

وقال: “اعرضوا عليَّ رقاكم فإنه لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك“.

وقال صلى الله عليه وسلم: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل.

إنما المؤمنون إخوة“، “فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم“، “خذ العفو وأمر بالعرف..

فما في الوسائل على المحسنين مِنْ سبيل، والأصل فيها التوسعة عملاً، والتردد بين الأحكام الخمسة تكييفاً، وربما عرض لبعضها “الحكم السادس: خلاف الأولى.

 فإن الأعيان لا حكم لها، والوسائلُ رُهُنٌ بمقاصدها وعوائدها..

وفي المسند عن ابن مسعود قال: “فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن“.

فالحمد لله الذي جعل الهداية في الاعتصام بهداه وجعل الأئمة يهدون بأمره؛ فلا طاعة لما خالف أمره وعصى رسله متبعًا “كل جبار عنيد” أو “أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد“.

فقال سبحانه: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء:151]، {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]..

فإذا ضل ذو سلطان وجبت حكمة البيان لحماية الأديان، في غير فتن مضلة؛ لا تكفير ولا تفجير وإنما النصيحة والتفسير بالتبشير لا بالتنفير؛ وبالاجتهاد في التغيير بحسن تذكيرٍ وتقدير؛ والله أعلم بذات الصدور وعلى ما يرجع الضمير.. وإليه تعالى المصير.

وفي بيان عظم شأن الولاية والولاة وخطورة انحرافهم؛ قال ابن مسعود كما عند أحمد والنسائي: “أَلا إنهم أهل العُقدِ، واللهِ ما عليهم آسى ولكن آسى على مَنْ أَضَلُّوا”.

قلت: وما أشبه معاناتهم بقول الشاعر:

كيفَ الوصولُ إلى سعادَ ودونها — قُلَلُ الجـبالِ ودونهـن حُـتُـوفُ

الرِّجْـلُ حافِـيَـةٌ وما ليَ مَـرْكَـبٌ — والكَفُّ صِفْرٌ والطريقُ مَخُوفُ

و”إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين” كما قال صلى الله عليه وسلم.

وهم في أدعياء السياسة والفكر كثير من المتواجدين؛ ولذا بوب على هذا الحديث ابن حبان في صحيحه: “باب تخوف المصطفى على أمته مجانبتهم الطريق بانقيادهم للأئمة المضلين”.

وأظنه -فالتقاسيمُ ليسَ بحوزتي الآن ولا ترتيبُ ابن بلبان-؛ أخذه عن شيخه إمام الأئمة ابن خزيمة صاحب الصحيح الذي أبقى في الأمة كتابين عظيمين:

كتاب التوحيد” أقام به العقيدة والإيمان، و”كتاب السياسة” أقام به العدل والإحسان..

والعلماء يعرفون الكتابين والمشهور عند العموم الأول فقط، وفي كلٍّ خير.

فكان ناصحاً للأمة مصلحاً في كل مجال، وهو حال العلماء العاملين سلفاً وخلفا كما عهدنا شيخنا المغراوي -حفظه الله ورعاه- صالحًا مصلحًا صادقاً داعيًا للخير مقيمًا عليه؛ وفقنا الله وإياه والمسلمين حتى نلقاه


 [1]المجموع (14/276).

 [2](ص:270).

 [3]رواه البخاري.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M