وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسة والأنظمة المعاصرة (ح10)

11 أبريل 2014 23:46
وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسية والأنظمة المعاصرة (ح11)

وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسة والأنظمة المعاصرة (ح10)

ذوالفقار بلعويدي

هوية بريس – الجمعة 11 أبريل 2014

الحكم بغير ما أنزل الله بين المخالفة والتشريع

ومما أثاره الأخ الشيخ القباج وأدمجه في مقالاته موضوع الحكم بما أنزل الله، وما يرتبط به من أقوال السلف وأهل العلم حول الحكم بغير ما أنزل الله. ومن قبيل هذه الأقوال التي أوردها أخونا القباج قول ابن عباس رضي الله في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. على أنه قال فيما صح عنه: (هي به كفر وليس كفرا بالله وملائكته كتبه ورسله) وقوله (ليس كفرا ينقل عن الملة؛ كفر دون كفر)، ومثل قوله: (من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق)، وقوله: (إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه)(1).

لكن مما ينبغي توضيحه والوقوف عنده هو أن إطلاق القول بـ: «الحكم بغير ما أنزل الله» يشمل التشريع من دون الله، كما يشمل حكم الحاكم أو القاضي في قضية معينة بما يخالف حكم الله تعالى. وابن عباس رضي الله عنه لم يكن في زمانه من نحى الشريعة كلية أو بعضا وحكم بغير شريعة الله، مما يجعل كلام ابن عباس رضي الله عنه موجه إلى الحاكم أو القاضي في ظل الدولة الإسلامية الملتزمة في نظامها العام بأحكام الشريعة، لكنه حكم بغير الشريعة في قضية أو قضايا معينة قَلَّت أو كثرت؛ لرشوة أو لقرابة أو لغير ذلك. ولم يكن كلامه رضي الله عنه موجها لمن يباشر التشريع للناس من دون الله، ولا دار بخلده رضي الله عنه هذا الأمر أو خطر بباله. فكلامه موجه إلى من قضى في عصره بخلاف حكم الشريعة، مع التزام الدولة في نظامها العام بنظام الإسلام وأحكام الشريعة. وهذا حسبه بمخالفته هذه، أنه ارتكب مخالفة شرعية حيث لا يرقى فعله هذا إلى مستوى إلغاء الحكم بالإسلام بالكلية. وهو أشبه بمن يقضي اليوم بخلاف المواد القانونية التي تلتزم بها الدولة في نظامها العام لرشوة أو لقرابة. وهذا حسبه أنه ارتكب مخالفة قانونية حيث لا يرقى فعله هذا إلى مستوى إلغاء القانون بالكلية.

وشتان شتان بين مسألة الحكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة مع التزام الدولة بأحكام الإسلام، بحيث لا يعتبر حكم الحاكم أو حكم القاضي في هذه الصورة إلغاء لأحكام الشريعة، وبين مسألة التشريع بما يخالف أحكام الشريعة التي هي إلغاء لأحكام الشريعة وتنحية لها.

فإنه معلوم أن الحاكم أو القاضي المسلم في الصورة الأولى، إذا خالف في قضية معينة مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحق وأخطأه، فهذا مخطئ، بل هو مأجور على اجتهاده. أما إذا عدل عنه عن قصد وعلم، فإن فعله يكون من الظلم المستوجب للذم والعقوبة، لكنه لا يكفر به ما لم يستحل ما فعل، ولم ينكر حكم الله تعالى في تلك الواقعة المعينة. وذلك لأن فعله هذا لا يعتبر إلغاء ولا تنحية للشريعة. وأهل السنة مجمعون على عدم تكفيره إلا بشرط الاستحلال، ولم يخالفهم في هذا إلا الخوارج والمكفرة.

أما مسألة التشريع من دون الله، فهذا أمر آخر، وإغفال ذكر أقوال العلماء فيه في هذا المقام أمر لا ينبغي بحال من الأحوال، لا سيما أنه ليس موضوعنا هو حكم الحاكم بغير ما أنزل الله في مجتمع يلتزم في نظامه العام بما أنزل الله. ولكن موضوعنا هو التشريع من دون الله، وما يتبعه من دعوة المسلم إلى توليه ولايات داخل المجالس التشريعية والتي من مهامه فيها تشريع القوانين ضمن هيئة وطنية دون اعتبار منها لقواعد الشرع ولا لمبادئ الدين.

يقول ابن تيمية رحمه الله: (.. فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله؛ لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار. وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص. وأما إذا حكم حكما عاما في دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما نهى الله عنه ورسوله: فهذا لون آخر. يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين..)(2).

ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (الذي قيل فيه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاده أنه عاص، وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، وأما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل، فهذا كفر ناقل عن الملة)(3) .

ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: (ذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة، وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله منكراً له أو راغباً عنه لاعتقاده بأنه ظلم، مع علمه بأنه حكم الله، أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان. ولعمري إن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد، والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمناً مذعناً لدين الله، يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكماً، ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكماً آخر بإرادته، إعراضاً عنه وتفضيلاً لغيره عليه، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه…)(4).

ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام – كائناً من كان – في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه)(5).

ويقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله هناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً، والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله. لأن المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً لا يتأتى فيها التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط. لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام، وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه)(6).

مثل هذه النصوص هي التي كان ينبغي للأخ القباج أن ينقلها للقارئ لعلاقتها الوطيدة بموضوع حكم انغماس المسلم في المجالس التشريعية من أجل مباشرته التشريع للمسلمين بناء على المبادئ الديمقراطية والتحاكم إلى الأكثرية. أما قول ابن عباس وأبي مجلز فهذا ليس مقامه وحسبنا في هذا قول الشيخ أحمد شاكر: (إن كلام ابن عباس وأبي مجلز وغيره حق لا مراء فيه، وهو لا ينطبق على واقعنا.. وهما لم يردا أبداً فيمن رد الأمر إلى شريعة غير شريعة الله عند التنازع). وهذا ينطبق على من رد الحكم إلى شريعة الأكثرية أو أغلبية الشعب. فتنبه.

ومن تأمل هذا أدرك أن التشريع للناس من دون الله هو المناط الأساس الذي بنى عليه الشيخ الألباني رحمه الله رحمة واسعة قوله بتحريم دخول البرلمان وتولي الولاية فيه، وذلك كما في مثل قوله رحمه الله: «ولأن المقصود بالمنتخَب أن يكون عضوا في مجلس النواب التشريعي والمجالس النيابية التي لا تحتكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإنما تتحاكم إلى الأكثرية؛ فهي مجالس طاغوتية لا يجوز الاعتراف بها، فضلا عن يسعى المسلم إلى إنشائها ويتعاون في إيجادها وهي تحارب شرع الله…»(7).

بيان أوجه الفرق في إقامة الحجة بين المشرع والمخالف

كما لا يفوتني بهذه المناسبة بيان ما لابد من بيانه والتذكير به، أنه لا يلزم من أقوال العلماء هذه في التشريع العام أنه من الكفر الأكبر، الحكم على الأعيان بالكفر. لاحتمال وقوع الكفر الأكبر من المسلم دون رفضه للشريعة، أو لاحتمال ظنه عن جهل أو شبهة أن فعله لا يناقض الإسلام. فكون أن أمر التشريع من دون الله هو من الكفر الأكبر، الذي لا يشترط في التكفير به وجود التكذيب والاستحلال. لا يعني إنزال الحكم فيه على الأعيان دون قيام الحجة، فإن مجرد وصف الفعل بأنه كفر لا يعني إلحاق حكم الكفر بالمعين حتى تقوم عليه الحجة. فإنه من المقرر في كلام العلماء أنه ليس كل من وقع منه كفر يكفر بمجرد قوله أو فعله، بل لا بد من استفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه.

فلا بد من التفريق بين كفر يشترط في التكفير به الاستحلال والتكذيب، كحكم الحاكم أو القاضي في قضية معينة بما يخالف حكم الله تعالى، وبين كفر لا يشترط في التكفير به إلا قيام الحجة وذلك ككفر التشريع من دون الله. فقيام الحجة شرط لا يسقط بعلة أن الفعل أو القول هو من الكفر الأكبر. وحسبنا في هذا أن هؤلاء العلماء الذين صدرت عنهم هذه النقول لم يثبت عن أحدهم تكفير الأعيان من المسلمين سواء كانوا حكاما أو محكومين.

 يتبع…

ــــــــــــــــــ

(1) مقالات في السياسة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة الحلقة 11، جريدة السبيل العدد:158.

(2) مجموع الفتاوى ج35 ص:388.

(3) فتاوى محمد بن إبراهيم 12/280، 6، 189.

(4) تفسير المنار محمد رشيد رضا ج6 ص:417.

(5) عمدة التفسير لأحمد شاكر ج4 ص:47.

(6) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين ج6 ص:162.

(7) مجلة الأصالة العدد 2 ص:22.

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M