دعوى الإصلاح والصلاح بين فساد الزرع وإفساد الضرع

01 مايو 2014 23:52
دعوى الإصلاح والصلاح بين فساد الزرع وإفساد الضرع

دعوى الإصلاح والصلاح بين فساد الزرع وإفساد الضرع

محمد بوقنطار            

هوية بريس – الخميس 01 ماي 2014

عندما تنتكس المفاهيم وتنقلب الموازين وتسرق المعاني ويعربد لقطاء الفكر ورواد الاستغراب من بني الجلدة، فيرفعون لواء الفساد والإفساد في الأرض باسم الصلاح والإصلاح، فإن أول غيث المدافعة قطرة استرجاع ما ضاع من حقيقة المعاني التي حازها الآخر إلى صفه واستطاع أن ينمق بها مجالسه ومشاريعه مشاريع فساد الزرع وإفساد الضرع.

وليست الحيازة كما يظن البعض طارئ جد، وإنما لها سوالف في المعاني والأعيان، فقد تصدى المفسدون قديما للأمر بعدم الإفساد في الأرض فادعوا الإصلاح بل حصروه وقصروه على نوعهم وجنسهم إذ قال الله جل جلاله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وكان من عدل الله وحكمته أن تعقب دعواهم واستدرك على بهتانهم بقوله سبحانه {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}.

وهذا فرعون من قبل خاف على قومه زاعما أن يبدل موسى عليه الصلاة والسلام دين فرعون وملئه وأن يظهر الفساد في الأرض، فهل هناك أقبح ولا أشنع من أن يقول فرعون المتجبر المتكبر الضال الوثني عن موسى كليم الله {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.

ولكنه التاريخ في بعض منعطفات صولة الشر يعيد دورته فينتج ويسوغ فصول المنطق الواحد الذي يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والطهر والرجس، والإحسان والطغيان، والعدل والعدوان، منطق تطرد قواعده ولا يشذ عنها استثناء وإن تغير الزمان وتبدل المكان، ومن فهم الحكمة من هذه الإحالة على هذا النوع من السوالف والسلف هان عليه اليوم ما يراه من هذا النوع من الخوالف والخلف، ولا شك أن هذا الأمر من ذلك الخبر.

هذا ولا تزال العلمانية والعلمانيون في بلادنا كما في بلاد المسلمين عموما مع تفاوت حدة الظهور والغلبة يجيدون لعبة «رمتني بدائها وانسلت»، فالفكر العلماني الحداثي لا يرى قومته إلا على أنقاض الإسلام ونجاعة عملية تعطيل مناهج شريعته، وإفراغ مناسك شعائره من شحناتها الروحية الهادفة وتحويلها إلى خيالات وأذواق وخرافات، والعلمانيون لا يتوانون أن يعلنوا نهارا جهارا أن قواعد الإصلاح عندهم بل الإصلاح نفسه يقوم على مدى القدرة على تحييد الدين وركنه بعيدا عن حياة المسلمين؛ ومن ثم تحويله إلى طقوس كنسية باردة محكوم عليها أن لا تتجاوز مكان وزمان إيقاعها.

فالإصلاح إذا وعندما يرفع شعاره السيد العلماني فلا يعني به أولا إلا اجتثاث الدين وإذلال طائفة من الداعين إلى جعله منهاجا للحياة الرافضين القبول بجعله ركنا مقصيا منها، وقد أتى على العلماني الحاقد من بني الجلدة حين من الدهر فاعتلى المنابر وتسور المحاريب ليقرر في غير تقية ولا نفاق ولا مداهنة أن الدين الإسلامي هو سبب التخلف الذي تعيشه الأمة، وهو الحائل بينها وبين إمكانية وضع كدحها على مدرج التقدم وسلم الرقي الحضاري والمدني.

وهو يرى أنه لن تقوم للأمة قومة ولن تكون لها مكانة ولا تمكين بين الأمم ما دام للدين وتعاليمه -أوامره ونواهيه- بقية باقية في نفوس شباب الأمة ووجدان أعيانها من المسلمين، ولذلك فهو يجعل من إدانة الدين وكيل تهم الإرهاب والتطرف والرجعية والظلامية له موقفا إصلاحيا وإدانة تصحيحية.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح عند هذا المنعرج الفكري الإصلاحي كما يزعم القوم، هو السؤال الذي يبحث في ماهية المشروع البديل والطرح المقابل الذي يتبناه الفكر العلماني المحلي ومفكريه الحداثيين العقلانيين؟

ولعل الباحث عن ملحظ هذا البديل وطيه لا يضام في الوقوف على حقيقة ما تراه العلمانية والعلمانيون وما ترفع شعاره كإصلاح وبناء وهرولة في مسعى الحداثة والمعاصرة، وأن الأمر لا يعدو أن يكون محاولات وحركات قوية تسعى إلى إشاعة الفاحشة والعهر والمشاعية والبهيمية في المجتمع الإسلامي المحافظ باسم الحرية والعدل والمساواة، كما تسعى للترويج للإلحاد والإلحاديين والشواذ والمترفين في مقابل وضع الحواجز والعقبات أمام قوى الإصلاح والخير، والتفنن في افتعال الضجيج واللغط حولها باسم الإرهاب والتطرف، إلى آخر ما تجود به سخائم النفاق ولصوص المجد والعظمة من أدعياء الإصلاح والصلاح.

والواقع أن أي قراءة لحركة التاريخ الإنساني تبقى كفيلة بالوقوف على حقيقة أن فكرة الإصلاح ارتبطت ارتباطا وثيقا بالدين تنزيلا وإرسالا، فالإسلام دينٌ أعطى هامشا كبيرا ومساحة مهمة لإعمال الجهد والاجتهاد والاستفادة من الحكمة والفكر النافع في باب الإصلاح، وبالتالي الاستفادة من أي مجهود إنساني خارج النص منضبط بقواعده، يحيلنا على سمو فكرة «حلف الفضول» الذي قال فيه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: «لو دعيت له في الإسلام لأجبت».

ولعلها شهادة تذهب بنا بعيدا في تقرير أن الإسلام لم يحجر واسع إطلاق وأن الحكمة ظلت ضالة المسلم أنّى وجدها فهو أولى الناس بها، من جهة كون النسبة إليه تجعل الفرد صاحب رسالة لا تنفك عن مشيه في مناكب الأرض، رسالة أشار إليها القرآن الكريم عندما اختزل المقصد الذي اجتمعت عليه جهود الأنبياء والمرسلين قاطبة على لسان خطيب الأنبياء سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام إذ قال الله سبحانه: {إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}.

والحقيقة أن دعوة الإصلاح حظيت باهتمام الشارع الحكيم وكانت لها الأولوية في باب المقاصد العليا، مقاصد حفظ الدين والمال والعرض والعقل والنسل، والله عز وجل علّق أسباب النجاة من الهلاك على مدافعة الظلم والتزام ثغر الإصلاح إذ قال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، وفي باب الترغيب رتب الله سبحانه الأجر والمثوبة على كل مجهود إصلاحي منضبط بقرينة التمسك بالكتاب وإقامة شعائر الدين وشرائعه؛ فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، وبقدر الترغيب كان الترهيب فنضحت النصوص بما يوحي إلى بغض الله للفساد والإفساد في الأرض وتوعد المفسدين حيث أخبر سبحانه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِح عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} وأمر رسوله بتدبر أحوال المفسدين من قبله في دائرة الاعتبار فقال سبحانه {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ}.

ولذلك يبقى على كل من آمن بسنة التدافع وانخرط بعد إيمانه في مشروع التزام ثغر الإصلاح، وحفظ الأرض من العبث والفساد، وآمن بأن سياق الأحداث في العالم المادي والمحسوس من حياة البشر يجري لمقصد مقدر وحكمة ربانية يستحيل أن يشوبها اعتباط أو أن يعتريها عبث لا غاية له، عليه أن يتجاوز وظيفة الهمس التي يمارسها اليوم الكثير من معشر المصلحين مخافة أن يتورطوا بمقاييس العلمانية المتغلبة متلبسين بدعواهم وكبيرة إصلاحهم، فينتقلوا إلى خط متقدم من مراتب الدفع الذي يفارق منزلة أضعف الإيمان إلى مقام الصدع ومدافعة الابتلاء، فلا تمكين للأمة بغيره وبغير مجاهدة ومقاومة وباء عابر وعدوى وافدة تنص بعض فصول مرضها على إصابة من قبيل قول بعض المرضى من أسياد بني جلدتنا من جنس السيد الأبيض «إن الإنسان قد خضع لله في الماضي بسبب عجزه وجهله، والآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله»*.

نعوذ بالله من الكفر والجحود والخذلان.

ـــــــــــــــــــــــ

*- هذه قولة جوليان هكسلي في كتابه «الإنسان في العالم الحديث».

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M