أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب «الأغاني» بين محبيه ومبغضيه

05 مايو 2014 23:28
أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب «الأغاني» بين محبيه مبغضيه

أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب «الأغاني» بين محبيه مبغضيه

يونس الناصري

هوية بريس – الإثنين 05 ماي 2014

كثرت أقوال الناس في الأديب الألمعي الذي بهر الدنيا بسعة حفظه وذكائه المفرط ومكانته العالية في الأدب؛ فهناك -وهم الأكثرية- من يبجله ويشيد بمؤلفاته وكثرة اطلاعه وعلمه الواسع، خصوصا إذا ذُكر كتابه “الأغاني”.

والآخرون -وهم قليلون- أساؤوا القالة في أبي الفَرَج وأنقصوا من قيمته ووصفوه بكل عيب، سواء ما تعلق بالخلْق أو بالخُلُق. ومعلوم أن القلة لا تدل على الخطأ في الرأي، كما أن الكثرة لا تعني الصواب فيه، بل إن الواقع يشهد بخلاف ذلك إذا ما استندنا على الوحيين، الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} (الأنعام:117). وقال عز من قائل: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف:103).

وقال عليه الصلاة والسلام: “لا تزال أمة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس” (السلسلة الصحيحة:1971)، والأمة تطلق في اللغة على الفرد الواحد بدليل قوله سبحانه: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين} (النحل:120)، وهي في الحديث الجماعةُ كما هو معلوم، والجماعة هنا هم أهل السنة كما في روايات أخرى للحديث السابق، وهم قلة قليلة بالمقارنة مع أهل الباطل المتبعين للشهوات والشبهات، وفي الحديث دليل على أن غير هذه الطائفة يكثر فيهم الباطل ويقل فيهم الحق؛ إذ لا يمكن أن نعدم وجود الحق مع الأكثرية لما وصانا الله به من الإنصاف والعدل.

من هذا المنطلق، يمكن أن نقول: إن القلة التي طعنت في أبي الفرج الأصفهاني وجرَّحته ونالت منه، يمكن أن تكون صائبة في كلامها، وأن الكثرة الكاثرة التي بجلته وعظمته يمكن أن تكون مخطئة لم تفُه بالحق.

بناء على هذا كله، ومن منطلق السلامة في الدين، يحق لنا أن نقول: لا يمكن لمن يخشى الله تعالى في السر والعلن أن يؤلف كتابا محشوا بالفلتات- إن لم نقل طامات- تطعن في السلف الكرام وتسيء القول فيهم وتسِمُهم بالغباء والجهل وتشوه صورة الأمراء العظام الذين كان الروم والفرس ترتعد فرائصهم من ذكرهم، كهارون الرشيد الذي أصبح مضرب المثل في اللهو والطرب ورقص القيان وهلم جرا من سفه وفسق لا يرضاه مؤمن، وغير ذلك مما يطول ذكره.

لا يمكن لتقي ورع أن يدخل نفسه في مثل هذا التيه، الذي أقل توابعه أن يبوء صاحبُه بإثم من تقوَّل عليهم، وإن كان ناقلا فقط لا يؤمن بما ينقل، فكيف بمن يبالغ في النقل عن المتهمين والمجروحين، ويملأ كتابه بترهاتهم وسقطات أقوالهم، التي لا تنفع الإنسان في دينه -وإن كانت مما يباح نقله للسمر والتفكه- بل تضره أكثر مما تنفعه، وهذا ما اشتمل عليه كتاب “الأغاني”.

لقد اطلعت على مقال لإبراهيم السامرائي موسوم بـ”الانحياز والعلم”، يرد فيه على كتاب “السيف اليماني” لوليد الأعظمي، ويدافع فيه باستماتة عن أبي الفرج الأصفهاني، ويؤول كلام أهل العلم فيه تأويلات لا مستند لها إلا الهوى أو الحب المفرط لأبي الفرج، ويصف في الأخير مؤلف كتاب “السيف اليماني” بالانحياز قائلا: “ومن هنا، أليس لي أن أقول إن الانحياز يفسد العلم؟”.

وسأقف مع الدكتور في تساهله وتهاونه -لا أدري ما المسوغ لذلك- في مسألة الإسناد الخبري الذي اعتمده الأصفهاني؛ فأغلب الذين روى لهم أبو الفرج رواياته الكثيرة مجروحون من قِبَل المشايخ المعتبرين، يقول السامرائي: “نعم لقد رأينا كما رأى المؤلف أن في أسانيد أخباره جماعة لم يوثقهم أهل الحديث من الأئمة الكبار كالبخاري ويحيى بن معين وغيرهما، وقالوا فيهم: غير ثقات، متروكون، لا يُؤخذ بما رووا، أقول: هذا في الحديث كما بينا، وليس في أخبار الأدب وما يتصل به من قريب أو بعيد، وإني أقول أيضا: إن هذه الأخبار التي أوردها أبو الفرج في آل البيت قد خالطها شيء من التساهل في لين العبارة يناسب مادة اللهو، وقد يكون في ذلك ما فيه من الباطل، ولكني أذهب إلى أن آل البيت من الناس، فلا ينبغي أن نتكثر فنتصورهم ملائكة كراما بررة، فقد يكون منهم ما يكون”.

 وهذا الكلام كما يبدو هو الذي جانب العلمية في البحث والدراسة، وهو على ما يبدو دليل على تساهل الكاتب المفرط، إلى درجة أنه يمكن أن نظن بأن تساهله في دينه ودنياه هو الدافع إلى مثل هذا الكلام، وسيظهر ذلك من وجوه:

 أولها: كيف استساغ الكاتب الفصل بين الرواية في الحديث وبين الرواية في الأدب والتاريخ عامة؟ فإذا كان هؤلاء الرواة متهمين بالكذب والوضع في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يزعهم وازع ديني ولا أخلاقي، فكيف سيخجلون من المبالغة في الكذب والبهتان على غيره من الصحابة والتابعين والمؤمنين؟ وهذا ما حصل بالفعل، فهم لم يوقروا آل بيت النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.

 ثانيها: اللهو بإطلاق ليس أمرا واجبا في ديننا الحنيف، وله شروط وموانع تحدث عنها العلماء المتقنون كثيرا، على رأسها قول الحق، كما ثبت عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه كان يمزح، لكنه لا يقول إلا الحق، واللهو المباح لا بد من أن يكون خاليا من الفحش واتهام الناس بالباطل والولوغ في أعراضهم؛ لأن المطلوب الأول هو الصدق والأمانة في الجد والهزل، ثم كيف أمكن للكاتب الفاضل أن يقول: “.. قد خالطها شيء من التساهل في لين العبارة يناسب مادة اللهو”، وهو كلام من يمارس اللهو في حياته بكثرة ولا يخجل من نفسه، خصوصا أنه تساهل في بيت النبي عليه السلام.

 ثالثها: يبدو أن الكاتب انطمست أمامه الحقائق، أو ليس له باع في علم الحديث ولا الآثار السلفية ولا معرفة له بآل البيت وتقواهم وورعهم وزهدهم، لذلك قال ما قال؛ فهو يعتقد أن آل البيت يمكنهم الوقوع في الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونحن نوافقه اعتمادا على مبدأ “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” لكن نخالفه في نوعية هذه الأخطاء، إذ قد تصدر منهم معصية كالتهاون في فريضة أو شتم إنسان عند الغضب أو غير ذلك من المعاصي التي يقع فيها كل البشر، ونحن والكاتب وليد الأعظمي لا نعتقد العصمة في غير الأنبياء ولا نرتقي بأهل البيت إلى مرتبة الملائكة الكرام البررة، على ما في هذا الكلام من استهزاء ولمز خفي، فهذا لا يقوله أحد، غير أن احترام النبي عليه السلام وتبجيله وتوقيره يقتضي على الأقل حسن الظن بأحفاده وأولادهم، فهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة كما رأينا في مطلع الكلام، إن كان السامرائي منهم، وهذا لا يقتضي تأليها لهم ولا رفعهم إلى درجة الملائكة البررة، والتاريخ المحقق المنقح يدل على أن آل البيت والأئمةَ أحفادَ النبي الكريم كانوا على جانب من التقوى والإيمان بما لا يخفى، وإن تقول عليهم واتهمهم أتباعهم من الشيعة الخبثاء كما ذكر ذلك الموسوي في كتابه “لله ثم للتاريخ”، فالواجب هو التوقير والتبجيل، خصوصا وأن النبي عليه السلام أوصانا بأهل بيته في حديث العترة المشهور، فكيف يمكن أن نقبل مثل قول الأصفهاني: “الإمامان الحسن والحسين مغفلان منقادان لابن أبي عتيق، والإمام الحسين يقضي وقته لاهيا مع أشعبَ في المدينة، ويزيد بن معاوية يشرب الخمر بمجلسه، وعنده الإمام الحسين فلا ينكر عليه، ومعبدٌ يغني لزوجة الإمام الحسن…”، وغير ذلك من الفحش في التقول على أحفاد النبي عليه السلام بالباطل، فهذا كلام من لا يخشى الله عز وجل، وستكتب شهادتهم وإشادتهم بتلك الأخبار ويسألون جميعا يوم القيامة.

 المؤمنون الأتقياء الورعون كالحسن والحسين وغيرهم يخطئون،لكن لا يقعون في ما تشمئز منه القلوب، ولا ترضاه نفوس من هو أدنى منهم بدرجات كثيرة، وهنا نخالف إبراهيم السامرائي.

 وكاتب هذا المقال استدل بكلام العلامة محمود محمد شاكر في مقدمته لكتاب “طبقات فحول الشعراء” ذكر فيها قيمة كتاب الأغاني وأشار إلى التهم التي وُجهت إلى أبي الفرج، وتساهل هو أيضا رحمه الله على عادته في توقير العلماء كيفما كانوا، كما فعل في كتابه” المتنبي” و”أباطيل وأسمار” مع المتنبي وأبي العلاء المعري، وهو رجل عظيم الشأن يخطئ ويصيب، فلماذا لا نقول: إنه بالغ في التساهل، خصوصا مع أبي العلاء المعري؟ حيث ضرب أقوال العلماء في زندقته ومجونه عُرضَ الحائط، واعتبره معتدىً عليه من قِبَل المؤرخين الثقات، أمثال الذهبي وابن كثير وغيرهما حينما وسموه بالزندقة والإلحاد، والكلام هنا يطول.

 المهم هو أن الإنسان الورع ينبغي أن يشغل نفسه بما ينفعه لا ما يضره، وأن يتخلص من اللهو المبالغ فيه، الذي يؤدي- بعد تراكمه ودخوله شغافَ القلب- إلى ما لا تُحمد عقباه، من استحسان الكذب واستمرائه، ومن التخرص -جراء شبهة الاستحسان- على أعراض المسلمين بغير علم، خصوصا أن الغاية من الأدب الإسلامي أن يكون هادفا يسمو بالنفس إلى المعالي، ويخلصها من كَدَر الغِيبة والبهتان، ويزرع فيها حب الصدق والمودة والأخوة بين المسلمين وغير المسلمين، كما أن من أهدافه ترسيخ حسن الظن وليس سوء الظن؛ ومن حسن الظن بالأتقياء الذين شهد التاريخ بعدلهم وإيمانهم وزهدهم أن لا نصفهم بكل رذيلة، بشرب الخمور واستماع الأغاني ورقص القِيان على الرؤوس، فإذا كان أهل البيت رضوان الله عليهم كذلك، فلا فرق حينئذ بينهم وبين أفسق الفساق.

 وهذا كله، لا يعني أن كتاب الأغاني لا خير فيه لطالب الآداب والشعر، فكل كلام يحوي الحق والباطل، بيد أن الواجب هو تحذير المسلمين مما فيه من عظائم الكذب على الأئمة وأمراء المسلمين المشهود لهم بالفضل والريادة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M