الانحراف: أسبابه مظاهره وعلاجه

12 مايو 2014 10:24
الانحراف: أسبابه مظاهره وعلاجه

الانحراف: أسبابه مظاهره وعلاجه

أحمد الشقيري الديني

هوية بريس – الإثنين 12 ماي 2014

في اللغة انحرف الشخص أي مال عن جادّة الصواب وحاد عن الطريق المستقيم.. وانحرفت السيارة: مالت عن الطريق.. وانحرف مزاجه مال عن الاعتدال.

فالحديث عن الانحراف يستلزم أن نحدّد مرجعا ثابتا نقيس إليه مدى ذلك الانحراف.. والمرجع الذي نختاره هنا هو مرجع يتعالى عن ذواتنا.. إنه “الصراط المستقيم” الذي ورد ذكره عدة مرات في الوحي (القرآن والسنّة)، ويأتي في الدعاء وفي الصلاة، في سورة الفاتحة: اهدنا الصراط المستقيم.

قال الإمام ابن القيم: “ذكر الله الصراط المستقيم مفردا معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة، وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) فوحّد لفظ الصراط وسبيله، وجمع السبل المخالفة له..”.

وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، وقال: (هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)، قال ابن القيم: “وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله..”.

الانحراف بين مرجعيتين

الذين يتخذون المرجعية الغربية ميزانا وسبيلا، يرون العديد من الانحرافات -مثل الزنا وشرب الخمر واللواط والعري وأكل الربا…- يرونها من جملة الحريات الفردية التي لا تخرج بصاحبها عن الاستقامة، ويرون في “الصراط المستقيم” الذي يدعو إليه القرآن مرجعية ظلامية تناقض التطور وسبيل الحداثة والتقدم.

وهذه أولى أسباب الانحراف، أعني الاختلاف في مرجعية “الصراط المستقيم” والسبيل الموصل إلى الفلاح في الدنيا والآخرة..

فمن اتخذ فلسفة اليونان والمنطق الأرسطي ميزانا يزن به الأقوال والأفعال والقيم، مثل ما وقعت فيه بعض الفرق من هذه الأمّة قديما، أو من يتخذ المرجعية الغربية من المعاصرين اليوم ميزانا وحكما، فلا شك أنه سينحرف عن الصراط الذي يرسمه القرآن، ويرى المتمسكين به ظلاميين.

وكما أن المرجعية الإسلامية لا تستند إلى العقل أو الفطرة وحدها، بل تستند في معظمها إلى الوحي المتمثل في القرآن وصحيح السنّة، فإن المرجعية الغربية، هي الأخرى، لا تستند إلى العقلانية وحدها، بل تستند أيضا إلى الهوى والشهوة التي تعتبر إحدى ثوابت ما بعد الحداثة.

وكلا المرجعيتين الإسلامية والغربية تلتقيان عند الفطرة، وتختلفان أو تنحرفان عن بعضهما البعض، وتبتعدان بمقدار تأثر عقلانية كل واحدة منهما بالبيئة التي أنتجتها وساهمت في تطوّرها.

والنتيجة التي يمكن الجزم بها أن الانحراف أمر نسبي، بحسب الزاوية التي ينظر منها والمرجعية التي يستند إليها الذي يحكم على المختلف بالانحراف؛ وهنا يفيد الحوار وأدب الاختلاف والنصح مع المنحرفين، وقيم التسامح من أجل التعايش.

هناك أيضا مظاهر للانحراف متفق عليها بين سائر الناس لأنها تخالف الفطرة أو تهدّد السلم الاجتماعي؛ مثل “الإرهاب” وظاهرة “التشرميل” والاغتصاب وتعاطي المخدّرات، وزنا المحارم.. إلخ.

وهناك مظاهر للانحراف مختلف فيها بين المرجعيتين، مثل الشذوذ الجنسي أو الحريات الجنسية أو تعاطي الكحول أو أكل الربا وتعاطي القمار.. إلخ.

الانحراف من داخل المرجعية:

الذي يسلمون بالمرجعية الإسلامية معيارا للعقائد والأفكار والقيم والأخلاق، ليسوا بمنأى عن الانحرافات بشتى أنواعها؛ وأخطرها الانحرافات العقدية التي كانت وراء ظهور الفرق الكلامية:

بعضها يقدّم العقل على النقل، وبعضها يقدم الكشف والإلهام والذوق على العقل والنقل، وبعضها يأخذ بالقرآن وحده ويترك السنّة والسيرة المجسّدة لقيم القرآن، وبعضها يؤوّل القرآن بحسب هواه ومذهبه؛ وهذه كلها انحرافات تفضي إلى الخروج عن الصراط المستقيم.

لكن من سلمت عقيدته بحيث عرف ربّه بأسمائه وصفاته وأفعاله كما وردت في القرآن وصحيح السنّة دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تكييف، بل يؤمن بها كما جاءت، ويفوّض تأويلها إلى المتكلم بها لأنها من الغيب، كما فعل سادات الأمّة من الصحابة والتابعين، فهذا أيضا ليس بمنأى عن الانحراف في السلوك؛ لأنّ انتفاء مرض الشبهة لا يستلزم انتفاء مرض الشهوة، بل قد يحصل انحراف في السلوك لمن سلمت عقيدته بسبب ضعف إرادته.

ومثله الطبيب الذي يحاضر في مخاطر التدخين ويحذر الناس منه، وهو مقتنع بعواقبه الوخيمة على الصحّة ومع ذلك يتعاطى التدخين.. أو مثل الذي يعرف أن الزنا قد يكون سببا في اكتساب أمراض جنسية فتّاكة، ومع ذلك يمارسه، بل لا يأخذ حتى أسباب الوقاية من تلك الأمراض.

فإذا كان علاج الاختلالات العقدية والانحرافات الفكرية يكمن في البحث العلمي الموضوعي واحترام مقدماته ونتائجه؛ فإنّ علاج الاختلالات السلوكية والانحرافات الأخلاقية يكون بالمجاهدة: مجاهدة النفس والهوى والشيطان.

والمجاهدة تكون بالمحافظة على الصلاة في وقتها ومع الجماعة، والمواظبة على ذكر الله عز وجل والصلاة على نبيه، ومصاحبة الصالحين، والصيام وإخراج الصدقات، فإن لها مفعولا عجيبا في تقويم سلوك من سلمت عقيدته من الفساد، واستصحاب التوبة والمراقبة والإخلاص في العمل.

ومجاهدة النفس والشيطان تتطلب معرفة مداخل الشيطان للنفس، وكيف يفسدها، ودور العقل في صدّه ومدافعته، ومعرفة الأذكار والأسماء، ومنزلة كل واحد منها بحسب الداء الذي يصيب النفس، ومعرفة أمراض القلوب مثل الحسد والحقد والغل والرياء والإعجاب بالنفس، وكلها من المهلكات..

ومن أسباب علاج الانحراف تسلية النفس بالمباح؛ فإن الله عزّ وجل لم يخلق هذا الإنسان ملكا، بل ركّب فيه غريزة وابتلاه بالاستقامة وأمره بوضعها في الحلال الطيب، فأباح له الزواج، والضرب في الأرض من أجل اكتساب المال وبناء العمران، مع أنه ما خلقه إلا من أجل العبادة.. قال تعالى: (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون).

ثم إن خطورة الانحراف تكون بحسب الموقع الاجتماعي للمنحرف، فانحراف ربّ أسرة قد يسبّب انحراف أفرادها، وانحراف رئيس دولة قد يكون وراء انحراف شعب أو أمّة من الناس تقتدي به، قال تعالى في حق فرعون: (فاستخفّ قومه فأطاعوه)؛ فكانت النتيجة: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار).

وقد رأينا كيف سقط بعض فراعنة هذا العصر مع رياح الربيع الديمقراطي، فكشفت لنا التقارير مدى الانحراف الذي كانوا عليه، وكان وراء إفقار شعوبهم ودفعها إلى انحرافات شتى بحثا عن لقمة العيش؛ بينما الملايير من ميزانية تلك الشعوب مودعة في الأبناك الغربية تلبية لأمراض مزمنة كان هؤلاء الحكام يعانون منها.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M