كفانا «هارلين» للعنف ضحية وقربانا

28 مايو 2014 22:41
كفانا «هارلين» للعنف ضحية وقربانا

كفانا «هارلين» للعنف ضحية وقربانا

الحبيب عكي

هوية بريس – الأربعاء 28 ماي 2014

لم تكن “هارلين” عبر تاريخها الأسود غير المدينة الأمريكية التي اجتاحها العنف بكل أشكاله الكالحة وألوانه القاتمة وفظاعته الدموية الرهيبة، مما حول حياة الساكنة هناك إلى جحيم حقيقي دائم لا يطاق…الفقر والبؤس والبطالة، الكحول والتدخين والمخدرات، الأوكار والملاهي وعصابات النشل والسرقة وقطع الطريق والدعارة و كافة أنواع الانحرافات والتعاطي مع الممنوعات وعلى رأسها الإجرام المسلح العشوائي والمنظم.

وقد بلغت مآسي هذا العنف العنصري والعرقي بالناس إلى أن فقدوا كل الحقوق الوطنية ومعاني الآدمية والكرامة الإنسانية فأصبحوا يعيشون بكل مرارة كمجرد آلات مبرمجة على العنف والتدمير والانفجار في وجه أي كان و كيف ومتى كان ولأي كان؟؟؟

مدينة بحجم سجن غربي مفتوح وبدوائر جحيم مستعرة هوجاء ودائمة لا تبقي ولا تدر، التوتر الأسري الأقصى والتفكك الاجتماعي العميق والرعب في الطرقات بشتى الطرائق، والميز العنصري المشاع في المحلات والمؤسسات، وأخطر من كل هذا فقدان الثقة في النفس واهتزاز الشخصية وكأن المرء “الهارليني”رغم براءته متهم على الدوام ومتربص به من طرف الجميع.

فلا شيء يحلو له ولا شيء يستقيم ولا شيء يستحق الانتقال من حالة التشظي والتشرذم وقانون الغاب إلى الحالة الاجتماعية المجتمعية الآدمية السليمة ككل العالمين. كيف لا والمرء لا يستطيع إيجاد عمل إلا في بعض القطاعات الهامشية المتخلفة والإجرامية الرذيلة، ولا يستطيع متابعة دراسته الجامعية حتى لا يتخرج مجرما خطيرا أو عاهرة محترفة دون علم أسرتها فكيف بموافقتها، وكان المرء حتى لو خرج إلى عمله أو كنيسته أو فقط يريد العودة من وكره إلى داره، لا يستطيع الأمن على نفسه من رهاب الشارع وعصاباته “المشرملة بتعبيرنا المعاصر”، والتي قد يكون أفرادها وزعمائها من معارفه وأقاربه الحميميين وربما من أبنائه وبناته “المافيوزيين”؟؟؟

وبداية الحكاية المشؤومة كلها ومنتهاها كما يرويها المؤرخون هي مجرد خوف تبين في الأول وفي الأخير أنه مجرد وهم و وهم خرافي سالت على ترهاته دماء الأبرياء و روعت نفوس المطمئنين وضاعت مصالح الوطن وشوهت فطرة الآدميين ما كان لها أن تكون كذلك لولا بعض التعقل الذي لم يستحضره الناس آنذاك وإلى يومنا هذا؟؟؟. كان هناك في الغرب قوم يسمونهم بالزوار أو الحجاج حدثوا أنفسهم بالخوف فمخروا عباب البحر نحو الأرض الجديدة المهجورة علهم يشعرون بالأمان، ولكن ما أن وصلوا هناك حتى استقبلهم البريون أو السكان الأصليون، فخافوا منهم فأبادوهم دون شفقة ولا رحمة، وجراء جريمتهم الهمجية النكراء زاد خوفهم خاصة عندما يرون بأم أعينهم أن إبادة قوم عن آخرهم تقريبا لم يفنيهم بل من دمائهم وأجداثهم يتجددون وينسلون ويتكاثرون وسينتقمون منهم بعد ولاشك بكل شراسة شر انتقام. غشيهم الخوف أكثر وأكثر حتى أنهم بدؤوا يخافون من بعضهم البعض ويرى كل منهم في الآخر ساحرة شريرة أحرقوا على إثرها كل الساحرات في المدينة وما احترق فيهم الخوف بل اشتعلت وتأججت بينهم نيرانه؟؟؟

فكروا في ضرورة حراسة أنفسهم وكي يتمكنوا من ذلك غزوا أفريقيا ظلما وعدوانا ليسوقوا منها وبكل عنف آلاف العبيد من أبنائها مكبلين وهم الطيبون المسالمون، كان يعدهم السادة الغزاة بالعمل في مزارعهم وبمقابل مغري ما كان لهم منه في الحقيقة إلا القليل أحيانا وفي أحيان كثيرة لا شيء إلا حراسة السادة ومرافقتهم في الحل والترحال في مزارعهم وزرائبهم ومتاجرهم ومطابخهم وكأنهم الكلاب يكفيهم اللحس مهما نبحوا ويلقمون الحجر والرصاص إذا ما احتجوا؟؟؟

لم يرضى المستعبدون بوضعهم فعمد السادة إلى قمعهم قانونيا بتغيير الدستور الجديد الذي أتاحوا فيه لأنفسهم امتلاك السلاح وحمله وحرموا ذلك على غيرهم، مما جعلهم يتمكنون وبكل عجرفة ودم بارد من قتل كل من تجرأ من العبيد على رفض وضعيته الاستعبادية المهينة. ولكن بقدر ما يقتلون من الضحايا بقدر ما يغشاهم من الخوف الرهيب. وفي جو العنف المتبادل ورغما عن أنف الدستور والكنيسة قامت منظمات “إرهابية” غير مشرعة تشيع الموت والرعب المجاني في البلاد كمنظمة “الكوكلوس كلان” و”الجمعية الوطنية لحملة البنادق” خاصة وأن “صامويل كوليت” اخترع لهم سنة 1837 سلاحا عبارة عن مسدس دوار يقتل بالعشرات ولا يحتاج إلى إعادة الشحن والتعبئة، ففرح بيض الجنوب للانتقام من سودهم ولكن فاتهم الأوان فقد فهم بيض الشمال الدرس والمآل وكسبوا الحرب فحرروا عبيدهم، ولم يسعى السود المحررون للانتقام رغم حريتهم وحقهم في حمل السلاح كذلك. بل سعوا إلى التعايش في سلام ترعاه الكنيسة التي يلجأ إليها كل طالب سلم وأمان؟؟؟

وفي سنة 1955 حدث وأن انتفضت امرأة سوداء برفضها الانتقال من مقعدها الأمامي في الحافلة إلى المقعد الخلفي، فلم يصدق البيض ذلك مما أثار حفيظتهم من جديد ونفسياتهم لا تزال فيها براثين العنصرية والعنف، فأشعلوا نار الفتنة العرقية التي لم يجدوا منها مخرجا إلا بالفرار إلى الضواحي حيث المزارع الفسيحة الرائعة والإقامات الفخمة النظيفة، ولكنه لازال الخوف يطاردهم في عقرها رغم ما وضعوه على أبوابها من كلاب الحراسة وأجهزة الإنذار وما يحيط بها من أسوار عالية وسياجات حديدية…؟؟؟

ولازال الخوف ينبت في أرض العنف والإرهاب ويهدد مصالحها الداخلية والخارجية (أحداث 11 شتنبر) خاصة وأن أصحابها ورعاتها المتبجحين بكل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا يلبثون أن يغزوا العديد من دول العالم الثالث (كالعراق وأفغانستان) بل ويشجعوا على غزوها (كفلسطين وجنوب لبنان) و يحملوا عليها بغزوات إبادة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية وفرض الاختيارات السياسية والاقتصادية بالقوة كما أبادوا قبل ذلك وبدون مبرر أقواما وأقواما، إنها دوامة العنف و مأساته التي لا تنتهي؟؟؟.

    كان العنف شرا مستطيرا، ينخر النفسيات ويعمي البصائر قبل أن يطمس على العقليات ويحرق الضحايا، وكلنا له ضحايا لا منتصر في ذلك ولا مهزوم؟؟؟. وكانت “هارلين” ولا تزال حالة إنسانية طالما تعولمت عبر الزمان والمكان، فهي كل وطن تمرغ فيه كرامة الإنسان، وكل مدينة تجحد خير أبنائها فلا تضطرهم إلا إلى عيش المتسولين من الغرباء والمهاجرين، وكل حي تنتفي فيه حميمية أهله وتقطع حبال شبكاتهم الاجتماعية فلا يسود بينهم إلا التطاحن والتخريب بدل التعاون والتقارب، كل مؤسسة إدارية ليس لها من الخدمات إلا إذلال المواطن والإجهاز على حقوقه، كل مؤسسة تربوية تربيتها تحتاج إلى التربية، كل ملعب…كل حديقة… يخرب فيها دون مبرر الملك العمومي من كراسي وهواتف وغيرها، كل جامع يخشع فيه المصلون غفلة واستغفالا في ترانيم الكتاب المحرف والسنة المهجورة، كل جامعة تستلذ حلقاتها بريق الخناجر والسيوف بدل نور العلم والمعرفة، كل حزب ليس له من السياسة إلا الحزبية الضيقة والتضليل المفضوح ولو على حساب التنمية الحقيقية والمصلحة الوطنية، كل جمعية مدنية ليس لها من المدنية إلا اللهاث وراء ثقافة المشروع بدل مشروع الثقافة، كل أسرة دب فيها التفكك وعدم التواصل ومشاكل الاستهلاك، خرصت فيها الألسن وجحظت إلى الرائي فيها الأعين تبتلع من الفحش والتفحش صباح مساء أمسيات ومسلسلات وكباريات ومدبلجات…، كل مسؤول “حنة يديه” وعنتريته عرقلة الإصلاح ومناهضة أدعايه وبكل خبت ومكر وخشبية يدعي فيها ما يدعي، كل تلميذ قبيح فظاعة قبحه أن يعنف على والديه من أجل درهيمات للمخدرات، وعلى أساتذته شغبا وتخلفا وجهلا، وعلى الدرك والشرطة تحديا واستعراضا، وأحيانا على زملائه تحرشا وميوعة، أو حتى على نفسه انتحارا وسادية، وتلك هي الطامة الكبرى؟؟؟.

    ويبقى السؤال: ما دام العنف رغم قدمه في المجتمعات وفظاعته في بعض الفترات ليس قدرا مقدورا فكيف يمكن التطهر والتعافي منه كما تطهرت وتعافت منه: هارلين” و”برلين” و”إيطاليا” و”كوريا” و”جنوب أفريقيا” وغيرها من الأقطار والأمصار؟؟؟.

لابد في اعتقادي من:

1-          تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية بين “العنف” و”القسوة” و”الشدة” و”الغلظة” و”الإكراه” و”القوة” و”الضغط” و”الحزم” و”الإرهاب”… وما هي الحالة السائدة وكيف يمكن التعاطي معها، فقد يكون شغب الملاعب عنفا وانحرافا فنتغاضى عنه لأنه سميناه فقط شغبا، وقد تكون قسوة المدارس جدية وحزما، فنتحامل عليها لأنه سميناها عنفا وإرهابا؟؟؟

2-          الاعتقاد الجازم بأن كل أشكال العنف شر مستطير وكالسجارة على الورق حالة متفاقمة حرقها من أي نقطة بدأت، ولكنها ليست قدرا مقدورا، بل يمكن محاربتها والحد منها إن لم يكن القضاء عليها، لأنه مهما تلوثت الحياة يبقى العيش في السلم والأمان حتما ممكن وهو الأصل وهو الأفضل، فلا تطبيع مع التلوث ولا تطبيع مع الجريمة، وبذلك تغلبت الإنسانية من قبل ولا تزال على الأوبئة الفتاكة؟؟؟

3- وضع الإطار القانوني والدستوري لحياة معاصرة سلمية، وتفعيلهما دون تراخ، ومن ذلك احترام حقوق المواطن التي يضمنها الدستور وعلى رأسها الحماية من الفقر والجهل والمرض والتشرد، وكذلك حمايته من تغول الدولة ومؤسساتها وشطط مسؤوليها باسم الهيبة والنظام العام وغير ذلك مما هو منهم براء؟؟؟.

4-          الحاجة إلى مؤسسة مواطنة قوانين وخدمات، وهنا ضرورة الاستفادة من تراثنا الإسلامي وتجاربه الرائدة في خدمة المواطنين وإنصافهم والعدل بينهم دون تمييز جنسي أو طبقي، كما هو ضروري الانفتاح على الحكمة الإنسانية وما أبدعته من حقوق الإنسان عامة والفئات الهشة خاصة كالمرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، وهنا فعلا ينتظر الدولة والمجتمع عمل جبار من أجل تنمية مستدامة تختفي بها حياة التوتر وملامح العنف؟؟؟

5-          تربية النشء على المواطنة والسلوك المدني، وضرورة انخراطه في محاربة العنف كان له ممارسا أو ضحية والتمسك بقيم التسامح وأدب الحوار وتدبير الخلاف وحق المشاركة، وضرورة التفريق بين مسؤوليات المواطن وواجبات الدولة، وبغير ذلك تسود الانتظارية غير المحقة ولا المجدية إلا في إنتاج الوهم والاحتقان وغيرها من مظاهر وأشكال العنف؟؟؟.

6- وبالنسبة للجامعة ينبغي الاعتراف بأن الطلبة لا يحتجون من أجل الاحتجاج وإنما من أجل مطالب مشروعة غالبا ما تكون بسيطة كالنقل والأساتذة والمنحة ومواعيد الامتحانات وبعض خدمات الإقامة والتغذية والتعبير عن حق التضامن مع قضية من قضايا الطلاب أو الوطن و الأمة…، والتي يمكن الاستجابة لها بكل بساطة ولكنها تواجه في الغالب بالرفض وبالعنف والأمن المدجج، وتمتد تبعاتها مع الأسف إلى الأحياء الجامعية والضواحي بل والمدينة الجامعية كلها، ولا يخبو فتيلها وفتنتها إلا على ضحايا وشهداء تخضب دماؤهم القانية إسفلت الجامعة الأسود على حد تعبير الأستاذ الجامعي “عبد الرحيم العطري”؟؟؟ لابد من إبقاء باب الحوار والتدبير الجماعي للمشاكل والأزمات مفتوحا وعلى الدوام، ولكن على الطلبة أيضا الكثير من التواضع فما هم إلا مكون من مكونات هذا المجتمع ككل ولا خيار لهم إلا الخيار الديمقراطي والمواطن الذي ينبغي أن يسع الجميع ويعترف بالجميع ويحاور الجميع ويساهم في انجازاته التنموية الجميع على أرض من حق الجميع مهما اختلفت العقائد والأرضيات والعرقيات والمقاربات، خاصة وأن فشل التنمية في البلاد في كثير من جوانبها قد كشف عن عجز الدولة والحكومات والمقاولات والأحزاب والنقابات والجمعيات…، فكيف بمجرد فصائل جامعية ليس لها من سلاح التنمية إلا العلم والمعرفة وقوة الحوار والدعوة والتظاهر السلمي وقد تخلى بعضهم عنها لصالح الأنانية الضيقة والمرجعية الفكرية الإقصائية ولو بالعنف والإرهاب؟؟؟

7- إعادة الاعتبار والدور الأساسي لمؤسسات الأسرة و المدرسة ودعم الإعلام لرسالتهما بدل مناقضتها وهدمها بدعاوي حداثية وعولمية واهية، وهنا يمكن للأحزاب والنقابات والجمعيات أن تضطلع بأدوارها التأطيرية والتنظيمية وليس السياسية والإيديولجية فقط، ولكن أن تضيف إلى ذلك أدوارا جديدة خدماتية وتحسيسية وتنموية وترفيهية والتي ستحارب بها ولاشك كل أسباب ومظاهر العنف في المجتمع؟؟؟

8- إحداث جوائز قيمة للمدن الحضارية التي توفر أسباب العيش الكريم لمواطنيها المادية والمعنوية، من الأحياء الآمنة والأسر المتماسكة والمؤسسات المواطنة والأحزاب الديمقراطية والمدارس والفضاءات البيئية الجميلة والجمعيات التي يسود فيها السلوك المدني والمواطن الاجتماعي السلمي والصفوح، ليس محليا فحسب بل دوليا أيضا بما يتبناه خلال نضاله اليومي من قضايا السلم في العالم كضرورة إخماد الحروب بين الدول والصراع الجيوستراتيجي، وتبادل المصالح عبر الحوار الديمقراطي ومنهج المساواة والربح الجماعي، وضرورة حل مشالك التفاوت بين الشمال والجنوب كالفقر والأمية والبطالة والهجرة السرية واستنزاف العقول وتصدير الخصوصيات وعولمتها بالقوة وبالاستثمار في الفقر والجهل واليأس وتجارة المخدرات والدعارة وعصابات أسلحة العنف والدمار، وكفانا وكفى العالم “هارلين” للعنف ضحية وقربانا؟؟؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M