عندما تباع الضمائر

20 أغسطس 2013 01:42
الدكتور رشيد نافع

د. رشيد نافع

هوية بريس – الثلاثاء 20 غشت 2013م

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة.. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة” [رواه البخاري]. وهذا معنى عظيماً يرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل شيء لا بد وأن يوضع في مكانه المناسب، فلا يسند العمل ولا المنصب إلا لصاحبه الجدير به، والأحق به من غيره، دون محاباة لأحد، وإلا فقد ضاعت الأمانة واقتربت الساعة.

وضياع الأمانة دليل على ضياع الإيمان ونقص الدين، قال صلى الله عليه وسلم: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له” [حديث صحيح، وإسناده جيد رواه الإمام أحمد والبيهقي]. فالأمانة من الأخلاق الفاضلة وهي أصل من أصول الديانات، وعملة نادرة في هذه الأزمنة، وهي ضرورة للمجتمع الإنساني، لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، وصانع وتاجر، وعامل وزارع، ولا بين غني وفقير، ولا كبير وصغير، ولا معلم وتلميذ، فهي شرف للجميع، ورأس مال الإنسان، وسر نجاحه، ومفتاح كل تقدم، وسبب لكل سعادة.

وليست الأمانة محصورة في مكانها الضيق الذي يعتقده كثير من الناس، فالأمانة ليست مقصورة على أداء الودائع التي تؤمن عند الناس، بل هي أشمل من ذلك بكثير، فالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من شعائر الدين أمانة، من فرط في شيء منها أو أخل به فهو مفرط فيما ائتمنه عليه ربه تبارك وتعالى، وتشمل الأمانة كذلك كل عضو من جسد الإنسان، فاليد والرجل والفرج والبطن وغير ذلك أمانة عندك، فلا تأتي الحرام من قبل ذلك، وإلا أصبحت مفرطاً فيما ائتمنت عليه، واحذر أن تكون هذه الجوارح شاهدة عليك يوم القيامة إن فرطت فيها، يقول الحق تبارك وتعالى: “يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”، فمن معاني الأمانة وضع كل شيء في مكانه اللائق به، قال أبو ذر رضي الله عنه: رسول الله: ألا تستعملني ـ يعني ألا تجعلني والياً أو أميراً أو رئيسا لك على إحدى المدن- قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: “يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها” [أخرجه مسلم].

هناك نوع من المثقفين -وهم كثر هذه الأيام- يميلون حيث تميل بهم رياح المال والجاه والسلطة، لا يقيمون وزنا لمبدأ طالما تغنوا به وأظهروا الدفاع عنه، وأكدوا أنهم يفدونه بأرواحهم، وقد أثبت الواقع أنهم من أكثر الناس وقاحة وكذبا وسعيا وراء شهواتهم المادية والمعنوية. وهذا الصنف من مثقفي المصلحة والسلطة لا يظهرون إلا في الأزمات التي ترفض المواقف الرمادية التي تعودوا عليها سنوات طوال، فإما أن يكونوا معها وإما أن يكونوا ضدها، ولأنهم من باعة المبادئ فإنهم دائما ينحازون لما يطلب منهم مادام هناك مشتر يدفع الثمن!!

وأكثر ما يتمثل هذا النوع في دعاة الليبرالية والعلمانية وبعض العازفين على الوتر الإسلامي!!

وهؤلاء موجودون في عالمنا العربي كله، وقد أبرزتهم أحداث العراق وسوريا وأحداث مصر الأخيرة.. وللإنصاف فإن من الليبراليين والعلمانيين من بقي ملتزما بما نادى به ولكنهم قلة.

العلمانيون والليبراليون أكثر من ينادي بالديمقراطية بحسب مفهومها الغربي وهي الانتقال السلمي من حكم ديمقراطي إلى حكم ديمقراطي آخر يضمن فيها كل الحقوق المشروعة للمواطنين.. ولذلك فإن الديمقراطيين الشرفاء يقبلون حكومة لا يتوافقون معها، لأنها جاءت بطريقة ديمقراطية، وهم -أي الشرفاء- لا تهمهم الأيديولوجيات، بل طريقة تحقيق النظام الديمقراطي. ولكن النوع الآخر من دعاة الديمقراطية الذين يعرفون فشلهم، ويدركون أنهم لن يصلوا إلى السلطة عن طريق النظام الديمقراطي يعملون وبكل الوسائل القذرة على الوصول إلى السلطة بالقهر والاستبداد لأنهم يبحثون عن ديمقراطية بحسب مقاييسهم، تحقق لهم السلطة ولو تحت حكم استبدادي، وتقصي مخالفيهم، ولا يعنيهم أن تبقى بلادهم متخلفة تسير وراء الركب أزمنة كثيرة، لأن الحاكم المستبد لا يبني دولة ولا يقيم حضارة.

هذا النوع من المثقفين وجد له سندا قويا من الحكومات الأمريكية -التي يتظاهرون بلعنها صباحا ومساء- ولأن الحكومات الأمريكية وجدت في هؤلاء تحقيقا لمصالحها الإستراتيجية فقد امتطتهم من أجل ذلك متناسية أقوالهم، معتمدة على أفعالهم، وقد لخص الكاتب الأمريكي “ستيفن كينزر” مؤلف كتاب: “كل رجال الشاه” الموقف الأمريكي من الديمقراطية قائلا: عندما أطحنا بحكومة ديمقراطية بإيران -يقصد حكومة محمد مصدق- قبل خمسين سنة بعثنا برسالة لا إلى إيران وحسب بل إلى عموم منطقة الشرق الأوسط وكان مفاد تلك الرسالة أن الولايات المتحدة لا تساند الحكومات الديمقراطية، بل إنها تفضل وجود حكم رجل قوي يضمن وصولنا للنفط، وبطبيعة الحال فإن أمريكا لا تزال ترسل وبكل وضوح مثل تلك الرسالة وآخرها كانت رسالتها للانقلاب في مصر.

صنف المثقفين الذي أتحدث عنه ظهر في أحداث سوريا، ورأيناه متمثلا في جملة من مثقفي الخليج ولبنان ومصر، هذا بالإضافة إلى مثقفي السلطة السورية سواء أكانوا من العلمانيين أو من مدعي التدين مثل المفتي وآخرين.. هؤلاء يعرفون أن الأسد لم يأت بطريقة ديمقراطية، بل ورث الحكم عن والده المستبد فكان مستبدا مثله، كما أنهم يشاهدون يوميا حجم الجرائم التي يرتكبها، ومع هذا كله فالقتلة عندهم هم الشعب الذي خرج مطالبا بحريته!! أما القاتل عندهم فهو حاكم عادل يحارب الإرهاب دفاعا عن شعبه.

الحالة السورية رأيناها -ومازلنا- تتكرر في مصر ولكن بصورة مغايرة بعض الشيء!! فالحاكم المصري السابق “محمد مرسي” جاء بانتخابات ديمقراطية نزيهة أشرف عليها القضاء وكذلك المجلس العسكري المعادي لمرسي وجماعته، وهو بهذا الفوز حقق قواعد اللعبة الديمقراطية التي ينادي بها علمانيو مصر وليبراليوها، ولكنهم وجدوا أن مصالحهم لن تتحقق بوجود حاكم ديمقراطي نزيه، بل وجدوا أن مكاسبهم السابقة أصبحت مهددة، فكان لابد لهم من محاربة هذه الديمقراطية ولو على حساب حكم عسكري مستبد.

وحديثي هنا ليس عن السياسيين، بل عن مدعي الثقافة الذين يفترض فيهم الحيدة والنزاهة والثبات على المبادئ التي طالما نادوا بها عبر كتبهم وعبر وسائل الإعلام المتنوعة، هؤلاء سقطوا سقوطا مدويا، ومع معرفتي المسبقة بتلونهم إلا أنني لم أكن أتوقع أن يصلوا إلى هذا المستنقع الذي وصلوا إليه!!

في الساعات الأولى للانقلاب العسكري في مصر تم إغلاق مجموعة من القنوات الفضائية والصحف المحسوبة على المعارضة للانقلاب وكذلك تم اعتقال مجموعة من الإعلاميين الذين يحملون التوجه نفسه، وظننت أن المثقفين -إياهم- سيقيمون الدنيا ولا يقعدونها انتصارا للحريات التي ملأوا الدنيا ضجيجا من أجل الدفاع عنها كما يزعمون، لكنهم لم يفعلوا وليتهم اقتصروا على ذلك، بل إنهم أخذوا يبررون لكل هذه الأفعال وما تلاها بمبررات مضحكة مخزية!! ولو كانت هذه هي مواقفهم السابقة لما عتبت عليهم ولكنهم قاموا قبل ذلك بحملة عنيفة ضد “مرسي” عندما تم التحقيق مع أحدهم، فقد تباكوا على الحريات المهدرة، وتنادوا بصوت واحد لمواجهة القمع والإرهاب!!

ويتكرر المشهد مرات متعددة وبنفس البؤس الفكري والعهر الإعلامي الذي يقل نظيره، فعندما قتل حوالي 250 متظاهرا وجرح حوالي 5000 عند النصب التذكاري وعندما قتل قبل ذلك حوالي 120 عند الحرس الجمهوري لم نسمع منهم تنديدا أو استنكارا لما حدث!! ومع أن الشواهد كلها تدين الجهات الأمنية إلا أن هؤلاء المثقفين من الإعلاميين والكتاب لم يجرؤوا على قول كلمة إنصاف واحدة وليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل إنهم اتهموا المتظاهرين بتلك الجرائم مع أن كل القتلى منهم!! الذي يشاهد تلك المواقف ثم يتذكر ماذا قال هؤلاء عندما قتل أحد المتظاهرين أيام مرسي يصاب بالذهول من هول الفارق بين الموقفين، فالسيد البرادعي ومعه جمع من العلمانيين والليبراليين طالبوا الحكومة بالاستقالة، لأن الحكومة -حسب زعمهم- التي يقتل فيها متظاهر لا تعد حكومة شرعية!!

حسنا يا سادة وماذا عن الحكومة التي يقتل فيها المئات؟! لماذا لا تطالبون باستقالتها؟! صمتوا لأن الصمت هنا يحقق مصالحهم، أما المبادئ فهي تحت الأقدام.. والمظاهرات التي كانت في نظرهم مشروعة حتى وإن كان فيها ما يخالف القانون فقد وقف معها البرادعي فقال عنها: “حتى وإن كان الاعتصام مخالفا للقانون هل يتم فضه بهمجية ووحشية هي في حد ذاتها مخالفة لكل القوانين الإنسانية، ليس هكذا تدار الأوطان”، هذا رأي البرادعي ومجموعته العلمانية والليبرالية قبل الانقلاب ولكن موقفهم جميعا انقلب إلى النقيض، فالمظاهرات السلمية يجب أن تفض بالقوة مهما كانت النتائج، لأن في ذلك مصلحة المواطن والوطن!! والواقع أنهم لا ينظرون إلى مصلحة أحد بقدر نظرهم إلى مصالحهم والتي لن تتحقق إلا بالقوة والقهر.

والعلمانيون -عادة- لا يؤمنون بالدولة الدينية ولكنهم في الحالة المصرية اصطفوا إلى جانب رمزين دينيين يمثلان الديانتين: الإسلامية والنصرانية، بالإضافة إلى رئيس حزب النور وما كانوا ليفعلوا ذلك لولا أن هذا الاصطفاف يحقق مصالحهم!! لقد رفسوا مبادئهم كلها في سبيل تحقيق مصالحهم وهذا يمثل قمة الانحطاط!! أما نفاقهم فحدث عنهم ولا حرج ويكفي أن أنقل ما قالته الصحفية المصرية غادة شريف في مقالها المنشور في “المصري اليوم”، قالت عن السيسي: “هذا رجل يعشقه المصريون، ولو عايز يقفل الأربع زوجات إحنا تحت الطلب ولو عايزنا ملك يمين مانغلاش عليه والله”، أرأيتم أوقح من هذا النفاق؟! وهل ترونه يتفق مع كرامة المرأة التي ينادون بها؟!! بطبيعة الحال هذا مثال واحد وإلا فالأمثلة على بؤس هؤلاء ووقاحتهم كثيرة.

مثقفو مصر من علمانيين وليبراليين يطالبون بطمس هوية مصر الإسلامية، وإلغاء تراخيص الأحزاب الإسلامية، ولأنهم فشلوا في انتخابات الرئاسة وانتخابات مجلس الشورى وكذلك فشلوا في إلغاء الدستور فإنهم لم يجدوا أمامهم وسيلة للقفز على السلطة وتحقيق آمالهم إلا بالتحالف مع العسكر ومع بعض الرموز الإسلامية والنصرانية، هذا العسكر وتلك الرموز التي طالما طالبوا بإقصائها عن السياسة فضلا عن إدارة البلاد!!

النفاق السياسي ليس وقفا على مجموعة كبيرة من مثقفي مصر، بل إن معظم الليبراليين والعلمانيين العرب اتخذوا المنحى نفسه، فوقفوا مع الاستبداد، وصفقوا للعبودية، وأحلوا سفك الدماء، وهللوا لفتح السجون وكبت الحريات، كل ذلك من أجل سلطة زائفة كانوا يعرفون أنهم لن يصلوا إليها إلا بهذه الطريقة البائسة التي جعلت من المثقفين قيمة بائسة مزرية.

مصر بحاجة إلى ثورة على الأهواء والمكاسب الشخصية، وإلى حكومة تبني ولا تهدم، وإلى بعد عن الاستبداد والقهر والرشوة والتزوير، وإلى الالتحام بهويتها الإسلامية والعربية لكي تكون قادرة على القيام بدورها الطبيعي بين الدول العربية والإسلامية.

أما دجاجلة المثقفين والإعلاميين ومدعي التدين فهؤلاء لهم مزبلة التاريخ..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M