سلفية جهادية؟ أم سلفية فاترة متقاعسة؟

12 يونيو 2014 00:08
سلفية جهادية؟ أم سلفية فاترة متقاعسة؟

سلفية جهادية؟ أم سلفية فاترة متقاعسة؟

د. محمد وراضي

هوية بريس – الأربعاء 11 يونيو 2014

لدي موقف شخصي من السلفية بمفهومها المطلق، وبمفهومها المقيد. لقد كانت عبارة عن مشروع كتاب، خلد إلى الراحة في درج من أدراج مكتبتي منذ أعوام، لكنه لم يخلد إليها في ذهني لكثرة ما قيل عن السلفية والسلفيين، من الممتدحين ومن الناقمين، ومن المعتدلين، ومن اللامبالين.

ومما يهمني هنا هو التأكيد على شيئين اثنين: السلفية تراث. وهذا التراث لم يحصل قط أن أصيب بأزمة قلبية، آلت به إلى الموت، حيث ساهم وارثوه في جنازته بالصلاة أو بغير الصلاة عليه!

وإلى القراء تفاصيل ما أجملته، وتقييد ما أطلقته، وتخصيص ما عممته:

لن أبحث عن التراث ولا عن السلفية خارج المعاجم اللغوية العربية، وبعيدا عن المصدرين الأساسيين للدين واللغة والنحو والصرف والبيان والبديع، أقصد الكتاب والسنة. فالإرث كمصدر والموروث كاسم مفعول: تركة أو متروك. إنه بكل تحديد وبكل دقة، ما خلفه المتقدمون للمتأخرين. والمتقدمون هم الجدود، والمتأخرون هم البنون من الجنسين، مع وجوب النظر إلى المتروك، أو إلى الموروث من زاويتين: زاوية اعتباره ماديا كالصناعات والأبنية والتقاليد والأعراف والعادات. وزاوية اعتباره معنويا كالآداب والعلوم والفلسفات والفنون، والأخلاق والملل والأهواء والنحل.

ففي القرآن الكريم ذكر لفعل “إرث” كمصدر بصيغ مختلفة، وبمعان متعددة، كما ورد فيه ذكر للتراث، والوارثين، وميراث، وورثة. بينما وجدنا فيه فعل “سلف” خمس مرات، و”أسلفت” بتاء التأنيث الساكنة مرة. ومثلها “أسلفتم” بضمير الجمع. و”سلفا” كمصدر وحيد في سورة “الزخرف” الآية 56.

والحديث عن السلف يقتضي الحديث عن الخلف بمنطوق العقل، وبمنطوق الحضارة، وبمنطوق الواقع والتجربة. فإن قال عز وجل في سورة الأنفال: “قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين“. فقد قال في سورة مريم: “فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا“.

فيكون الأهم عندنا في الآيتين كلتيهما ما تتضمناه من تواصل ومن لحمة بين الأسلاف والأخلاف. والتواصل هذا من سنن الحياة، ومن لوازمها، ومن مقتضياتها التي لولاها، لأصبحت كل تجارب الماضين مجرد هباء! يعني أن التراث، أو السلفية بمثابة دعائم أو قواعد لبناء الحاضر ولتأسيس المستقبل. إذ لا يمكن أن نتصور إلغاء المنجزات البشرية لأننا أعداء السلفية وخصومها دون ما تحديد دقيق لمدلولها.

والوعي التاريخي بكون الحاضر والمستقبل امتدادين للماضي، تزخر به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فالله أعلم من أي مخلوق بواقع التدافع بين البشر، يعني أن ما يعرف بـ”الدياليكتيك” في الفلسفة المادية وقبلها في الفلسفة المثالية، حقيقة واقعية يؤيدها قوله تعالى في سورة “البقرة”: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين”.

والحديث هنا عن الناس عامة، لا عن جنس من الأجناس، ولا عن قبيلة من القبائل، ولا عن أمة دون أمة، ولا عن شعب دون شعب. مما يدل دلالة قاطعة على أن التدافع حالة طبيعية، تذكيها الدوافع والرغبات وإملاءات العقول ونتائج التجارب الفردية والجماعية عند الإنسان. والله تعالى هو الذي زودنا بقوة تدافعنا، أو محاولة دفع بعضنا بعضا لتحقيق مختلف الأهداف التي يتوقف عليها تحسين وجودنا بحمايته من أية مخاطر تهدده.

وما نحمي به وجودنا، ونحصل به على راحتنا وسعادتنا، لا ينحصر في إزاحة غيرنا كليا من الوجود عملا بنظرية “قانون الأقوى”، أو بنظرية “البقاء للأصلح”! إذ لو كانت هاتان النظريتان هما السائدتان لفسدت الأرض! يعني لأصبحت حياة الإنسان على ظهرها جحيما لا يطاق! فيكون من باب المنطق أن تتفاوت ملكات الناس من حيث احتكامهم إلى أخلاق الدين، أو إلى أخلاق العقل، أو حتى إلى الموروث من العادات والأعراف، التي قد تغدو بمثابة قانون، أو بمثابة حكم شرعي. ومقصودنا الإشارة إلى أن العرف مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، ما دام يحقق مصلحة، ويدفع في الوقت ذاته مضرة.

ثم إنه لا بد من الإشارة هنا إلى أن التدافع بمختلف آلياته حاضر في الدين الإسلامي بكافة أبعاده على الصعيدين: النظري والتطبيقي. ووعي الرسل عليهم السلام به من جملة الصفات الأربع الواجبة في حقهم جميعهم بدون ما تمييز. نقصد الصدق والأمانة، والتبليغ والفطانة. دون أن نضطر هنا إلى الوقوف عند كل صفة بعينها لغاية شرحها على حدة.

فالخطاب الموجه إلى البشرية لتحقيق مختلف مطالبها الحياتية، لا بد أن يتسم موجهه بالصدق. كان مصدره الدين، أو كان مصدره العقل، بحيث يكون لزاما على خلفاء حملة الخطاب أن يتصفوا كسلفهم بنفس صفات صاحبه، وفي مقدمتها الفطانة التي تعني قمة الذكاء، إلى حد القول بأنها حضور للحدوس أو للبصائر في تناول مختلف القضايا الآنية والآتية.

وحاصله أن رسولنا محمد بن عبد الله على بينة تامة من قوله عز وجل: “ما فرطنا في الكتاب من شيء” يعني في نظرنا: كل ما له صلة بمقاصد الشريعة، وإن لم يكن بالتفاصيل التي تولى صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه بيانها، وحتى إن لم يدرك بيانها كلها، وهو على قيد الحياة، فقد ندب إلى صحبه الكرام، وإلى علماء الأمة متابعة النهج القويم، كي يسايروا التجديد الذي يفرضه واقع الإنسان في كل زمن وفي كل مكان.

فقد روى معاذ بن جبل، كيف أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن واليا قال له: “كيف تصنع إن عرض لك قضاء“؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: “فإن لم يكن في كتاب الله“؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: “فإن لم يكن في سنة رسول الله“؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله“! فكان أن خطا معاذ خطوة موضوعية واقعية في سبيل السلفية الحقيقية إلى الأمام. فحق لنا أن نسجل بخصوص هذا الحديث النبوي الشريف ما يلي من ملاحظات:

1- لا يتعلق الأمر بالقضاء وحده، فمعاذ وال يقوم بوظائف متعددة. فالأمور التي تثار في المجتمع المسلم وفي غيره من المجتمعات المتدينة بأي دين كان، تغطي المجال الدنيوي والأخروي في الآن ذاته. وما يؤكد هذه الحقيقة الواقعية المحسوسة قوله عز وجل: “وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا“. والشيء في الآية هو كل موجود يمكن تصوره، سواء كان حسيا أو معنويا، حقيقيا أو ذهنيا.

2- ارتياحه صلى الله عليه وسلم لإجابة معاذ على أسئلته -وهذه ممارسة سلفية- دليل على اقتناعه بعدم توفر كافة الحلول الممكنة للقضايا التي سوف تعترض الإنسان في الحال والمآل، فيكون لزاما عليه بذل جهد عقلي للوصول إليها حتى لا يظل جهله بها عائقا في طريق تكيفه مع الواقع الذي يتغير. ومع تغيره المستمر، لا بد من مواكبته دينيا وعقلانيا بثلاثة أصول تضمن التجديد والمعاصرة. إنها الكتاب والسنة والاجتهاد.

3- إذا كان الاجتهاد مندوبا إليه، فإنه غير مسموح به لمن لا دراية لهم بشروطه وبضوابطه، هذه التي حددها الفقهاء بناء على الاجتهاد ذاته، مع التأكيد على أن الاجتهاد تفعيل للعقل النظري والعملي.

4- فيكون من حقنا الجزم بأن السلفية منذ البداية سلفية جهادية بالمفهوم العقلاني المحض. وذلك حتى لا يدعي المدعون بأن المنتوج الفكري مع السلفيين هو مجرد تكرار واجترار للنصوص النقلية أو تحوير لها. كلا. إنه صلى الله عليه وسلم على وعي تام بما يجري في واقع الإنسان الذي لا يشبه واقع الجوامد التي لا وعي عندها بما حولها وبمن حولها.

5- ودراية نبينا بالواقع البشري يترجم عنه أكثر من حديث له. فعنه عند مسلم في صحيحه قوله: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم“، فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة. قال: “ثم يتخلف من بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته“.

6- وارتباط الدين بالواقع، ومراقبته لما يجري فيه، دليل ناصع على وجوب امتلاك العلماء لفقهين: فقه الأحداث التي يتواصل جريانها وتغيراتها وتنوعاتها. وفقه الدين المستند إلى أصول لا بد من مراعاتها وتحليل الأحداث متواصل مستمر. إذ لولا هاذان الفقهان لما صح الحديث تاريخيا عن متابعة العلماء والفقهاء والقضاة لمختلف النوازل. ثم اللجوء إليهم من طرف الحكام، أو من طرف أي كان. ومواكبة المخول لهم الاجتهاد لما يجري، تمثل الجهاد في سبيل الله كواجب وكفرض كفاية لم يتوقف قط حتى الآن! وهذا الجهاد دونه عقبات، ودون نتائجه ضحايا وتضحيات. وكتاب “الإسلام بين العلماء والحكام” عبر التاريخ، تشخيص لمحنة العلماء العاملين الذين رفضوا بكل إباء وشمم، موافقة حكام السوء المفسدين على مدهم بفتاوى تبيح لهم محرمات، أو مكروهات، أو متشابهات، بحيث إنهم يتلقون مقابلها أبخس الأثماء، وكأنهم يبيعون دينهم بدنيا الآخرين! يكفي التذكير بما خاضه الأئمة الأربعة من مواجهات دفاعا منهم عن الدين الحق الذي لا يرفع بعض الناس على بعض بقوة النفوذ والمال والجاه والسلطان!

وإن نحن استحضرنا أدوار العلماء الصالحين واحترمناهم وقدرناهم من خلالها، في مقابل أدوار العلماء الطالحين، لاتضح لنا منذ عهد الصحابة إلى وقتنا الحاضر، كيف أنهم قاوموا الانحراف عن النهج السليم، وأنهم جاهدوا جهادا مستميتا لرفع راية دين الإسلام الحق خفاقة، لأن الدين في خدمة الإنسان الراغب في الاستقرار والسعادة وراحة البال.

فيكون علينا تأمل قوله عز وجل في سورة الفرقان: “وجاهدهم به جهادا كبيرا“، أي بالقرآن أو بالإسلام لا بالسيف، لأن هذه السورة التي يقصد منها التمييز بين الحق والباطل، مكية لا مدنية. يعني أن الجهاد بمفهومه المادي لم يشرع إلا بعد هجرة الرسول وأتباعه من مكة إلى يثرب.

مما يبرهن على أن المواجهة باللسان والقلم، وقرع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، متقدمة على المواجهة بمختلف أنواع الأسلحة المتوفرة. إذ لم يتم اللجوء إلى اعتماد السلاح من طرف المسلمين إلا عندما وجدوا أنفسهم عرضة لتآمر اليهود والكفار من قريش ومن غير قريش للقضاء على دينهم الجديد الذي يعد خاتما لكافة الأديان التي سبقته! فلا يستعجل المستعجلون، ولا يتسرع المتسرعون لإلصاق تهمة الإرهاب هكذا بدين حمل أتباعه حملا على مواجهة خصومه بالسلاح، وإلا ما كان للأصوات أن ترتفع بذكر الله فوق المآذن وداخل المساجد!!!

فينبغي علينا إذن أن لا نخلط بين الأسماء والمسميات، بحيث إننا ننكر حقائق دينية تاريخية واقعية، لفائدة أطراف سياسية حقودة، تتأفف من مجرد سماع كلمة الجهاد ترن في الآذان! فعندنا أن الجهاد لن ينقطع إلا بفناء العالم، وبمختلف الطرق! فمقاومة المغاربة للاستعمار جهاد! والمقاومون الجزائريون له عرفوا بالمجاهدين! وكل من يقاوم المحتلين لأرضه ووطنه مجاهد! وما كان الأفغان -وهم يقاومون الدخلاء الروس- غير مجاهدين! وما حصل في البوسنة والهرسك من مذابح ومن قتل للمسلمين كان يدعو إلى الجهاد للدفاع عن الأموال وعن الأعراض وعن النفوس المستباحة! لكن غير المسلمين من أمة عيسى عليه السلام، هم الذين تدخلوا لأسباب سياسية محضة، حتى يضعوا حدا لمجازر دينية تذكر إن شئنا بالحروب الصليبية! وما يجري اليوم ببورما من ملاحقة المسلمين وذبحهم وطردهم من أراضيهم يظل سبة عار في جبين أبناء ملتهم قبل كل شيء! بل وسبة عار في جبين المتبجحين بحقوق الإنسان وما له من احترام ومن اعتبار تحمله بنود صدرت عما يعرف بالأمم المتحدة!

كل ما في الأمر هو أن الجهاد فيه تنوع. إنه بالقرآن والسنة والمواعظ والتوجيهات وتبادل الحجج والبراهين. ولا شيء يصح وصفه بالسلفية الجهادية في الوقت الراهن، إلا إن أصر الدعاة إليها على حصرها في حدود الدعوة بإطلاق. وبالمقابل، لا بد أن تدرك الأطراف المهيمنة على السلطة في الدول الإسلامية، كيف أن من حق الدعاة، أو المجاهدين من العلماء العاملين، أن يرفعوا عقيرتهم كغيرهم من بقية أتباع الأحزاب العلمانية، التي لا يقف في طريقها واقف سلطوي لمنعها من التعبير عن قناعاتها، حتى عبر القنوات الرسمية التي تملكها الدولة، والتي تمول أولا وأخيرا بأموال الأمة. لأن السلفيين -بالمفهوم العريض الذي وصفناه- يملكون أفكارا عند تحويلها إلى تطبيقات على الأرض، لاكتسح مفعولها البلاد، لأنها لا تتضمن قضايا خيالية غير مرتبطة بالواقع المرير الذي وجد المسلمون أنفسهم يعيشونه مرغمين في إطار دول علمانية، لم يتم لهم اختيارها، وإنما فرضت عليهم من الأعلى منذ احتلال بلدانهم، ليظل خلفاء الاحتلال متمسكين بها دون أن يقبلوا حتى سماع صوت المالكين لأفكار لا يطالب أصحابها بإذابة حديد الدبابات والمزنجرات والمدافع الرشاشة والصواريخ، لغاية تحويلها إلى سيوف وسهام ورماح!!!

الموقع الإلكتروني: www.islamtinking.blog.com

العنوان الإلكتروني: [email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M