في خطورة علم التاريخ (ح2)

13 يونيو 2014 21:22
في خطورة علم التاريخ (ح2)

في خطورة علم التاريخ (ح2)

ذ. يونس الناصري

هوية بريس – الجمعة 13 يونيو 2014

وفي أهمية علم التاريخ قال ابن خلكان في “وفيات الأعيان”: (فإني بذلت الجهد في التقاطه من مظان الصحة، ولم أتساهل في نقله ممن لا يوثق به، بل تحريت فيه حسبما وصلت القدرة إليه).

وسبحان مجازي المخلصين الصادقين؛ فقد اندثرت تواريخ لا عد لها، واتُهمت أخرى بالمَيْن والضعف وسوء الطوية، وبقيت تواريخ الصالحين طاهرة نقية، تتداولها أيدي الناس بالتصفح والتذكر، ويتوالى عليها ثناؤهم، ومدح أصحابها بحسن صنيعهم.

فانظر إلى ما قيل في الخليفة العظيم هارون الرشيد من تخرص وإفك وسلب للشهامة والمروءة، واتهام بالخنا والفجور، بادعاء رقص القيان على رأسه، ودوران السلافة بين يديه، وجولان المردان وسط نواديه، انظر إلى ذلك لتعلم مقدار جرم الأفاكين، وقبح طويات الدساسين.

وقد حوى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كثيرا من الطعن في الخلفاء الشهام، والولاة العظام، بسرد روايات غير موثوقة الرواة، وقصص توافه ينزه عنها الثقات، ولا غرو فإن صاحبه شيعي جلف كما ذكر الحافظُ ابن كثير، بل وصفه ابن الجوزي بقوله: (ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب “الأغاني” رأى فيه كل قبيح ومنكر..).

اعتبر المستشرقون كتاب “الأغاني” وغيره مما هو مثله من الكتب التي ضمت في ثناياها الغث والسمين، أهم مصادر الحضارة العربية الإسلامية، لما علموا -بمكرهم وخداعهم- من احتوائها على أمور قبيحة سمجة، إن اطمأن إليها الناس وسلموا بها، تطرق الخلل إلى التراث الحق المتين، ودب الشك إلى مصادر الدين القويم.

ولا أدق من كلمة معبرة ذكرها الأستاذ الجليل عباس أرحيلة في مقالة له سماها: “حقيقة كتاب الأغاني في ذاته وموضوعه” لما قال: (فهو كتاب جمع بين الجد والهزل، ونبه على ذلك مرتين في مقدمته، والحق أن أبا الفرج استفاض في الهزل واختار الجوانب الشاذة من حياة المترجم لهم من الشعراء والمغنين وبعض الخلفاء، فأشبع نهمه من المجون والهزل، وأرضى غرائز الوزير المهلبي وندمائه؛ إذ قدم لهم ما يروق ويلهي السمع، فجاء الكتاب حافلا بأخبار الخلاعة والمجون والزندقة، به مساس مكشوف بآل البيت النبوي، وبالخلفاء الأُمويين، وبكثير من الخلفاء والعلماء، بل لا يخلو من استخفاف ووقاحة وبذاءة وافتراء).

إن مما يُستغرب من بعض المثقفين ثقافة علمانية ينقصها التهذيب الديني الأخلاقي الشرعي، اتكاؤهم من غير تروٍ وعلى تؤدة على هذا المصدر، للحكم على كبار أولياء الله المتقين، والخلفاء الشرفاء المجاهدين، ثقة عمياء منهم في أبي الفرج الأصفهاني، الذي ذكرنا بعض صفاته.

إضافة إلى أنه اتسم بالاتساخ الخِلقي والخُلُقي، لا ينظف قميصا مذ شرائه إلى اهترائه كما ذكر المقربون منه في ترجمته.. ولمزيد من معرفة حاله، يرجى الاطلاع على الكتاب القيم المسمى “السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني” للشاعر العراقي وليد الأعظمي، فقد كفى فيه وشفى.

 لقد كان اتهام الأمراء والحكام وغيرهم من كبار العلماء مقصد المغرضين من أعداء تقدم المسلمين في كل العصور، يسعون منه إلى محو الهيبة تجاههم من نفوس الشعوب المسلمة، التي كانت ولا تزال تنظر بإعجاب وتقدير لولاة أمورها وعلماء دينها.

حتى إذا اتُّهِم الحكام والعلماء والمصلحون بما ليس فيهم، واستمرأ القارئ -خصوصا المثقف- تلك السموم، سقطت عدالة الأسلاف وشهامتهم وعلو هممهم، فلم يبق إلا توجيه نظر المسلمين إلى الغرب المتفوق، بالإشادة والمدح، وتلك قاصمة ظهور الأمة الإسلامية، حين يُزدرى أجدادنا، ويرفع شأن من يبغي زوالنا!!

يقول أنور الجندي رحمه الله في كتابه “تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث: السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية”: (ويرجع ذلك كله إلى أن النظرة الأساسية التي قامت عليها كتابة التاريخ نظرة استعمارية ووافدة، وحين فتحت الآفاق لدراسة تاريخ الإسلام، درس على أنه تاريخ الدولة أو الإمبراطورية التي قامت ثم تمزقت إلى دول، وحين عُرض لم يُعرض إلا من خلال خلافات بعض الملوك والأمراء والحكام وصراعاتهم الخاصة.

وكان التركيز شديدا على الخلاف الأول بين الصحابة رضوان الله عليهم (عثمان وعلي ومعاوية) في محاولة لتفسيره تفسيرا ماديا خطيرا بأنه صراع على الحكم.

وغلبت على دراسة التاريخ مذاهب الاستشراق، وهي مذاهب غربية أصلا، قامت في ظل تاريخ أوروبي وغربي، له تحدياته وظروفه، مثل الصراع بين الكنيسة والعلماء، وبين الأمراء والشعب، وصراع المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية، وذلك القتال الرهيب بين الملوك والدول والأمم..).

يتبع إن شاء الله تعالى..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M