دمغجة التراث

23 يونيو 2014 19:06

د. عبد الحكيم درقاوي*

هوية بريس – الاثنين 23 يونيو 2014

ملخص

لا أكاد أجزم حين أقول: إن الذي دفعني لكتابة هذه الورقات، هو ذاك القلق المعرفي من كثرة القراءات التي تجاوزت حد التأويل وإعادة الفهم الإيجابي للتراث عموما والنص الديني الإسلامي خصوصا، إلى حد الانفلات الدلالي عند بعض المثقفين، مجربين بذلك تقنيات (منهجية) غربية، ومن تم تطبيقها على النصين القرآني والسني، دون تكييف أو أقلمت هذه المناهج مع منطق النص وربانيته، وبالتالي الوصول إلى حقيقة مفادها: أن الحداثيين الجدد أحضروا وأدخلوا الأيديولوجي في التأويلي، فأهدروا كُنْهَ ومراد “النص” و”خَرْبَقوا” المُؤَدْلج الأرضي بالمقدس السماوي.

لعل انشغالات النخب الثقافية/الحداثية بقراءة وتأويل النصوص القرآنية والحديثية خصوصا والتراثية عموما، هدفها الخروج من الحاضر المتقهقر المتردي الذي يسود (كل) المجالات: الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية… والنهوض بالواقع المرير الذي يعيشه العالم العربي/الإسلامي. خاصة بعد «أقسى هزائم العرب، ليس بالمعنى العسكري فحسب، وإنما من مختلف الأبعاد الكيانيّة الأخرى»(1).

ولذلك انصب بعض المفكرين/الحداثيين إلى قراءات فتأويلات تفصل بين التراث والحداثة.

ولا خلاف بين الدارسين الأكاديميين أن بعض هذه القراءات المعاصرة للنص الديني، قد سلكت مسلك الإسراف والانفلات في استنباط منطوق النص وبالتالي عدم استكشاف دلالاته المختلفة: العقدية والتشريعية والبلاغية والأسلوبية والفلسفية

ويمكن الجزم أن الداعين إلى الفصل والقطيعة مع التراث يمتطون (منهجين) لا ثالث لهما:

الأول: ضرورة معالجة النص الإسلامي، داخل التقليد الكتابي الذي ينتمي إليه، أي التقليد اليهودي ـ المسيحي، مما يعني عمليا إخضاع هذا النص لمناهج النقد والتأويل التي طُبِّقت على العهدين القديم والجديد، لغرضين مترابطين اثنين هما:

أ- من جهةٍ تبيان تاريخيته، والكشف عن حدود مجاله المرجعي.

ب- ومن جهة أخرى كَسرُ قداسته، وتقويض بنيته الوُثُوقيّة، لفسح المجال أمام القيم الإنسانية التحديثية التي هي شرط الانتماء للعصر، والاندماج في المنظومة الكونية.

الثاني: تطبيق مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة، وفلسفات التأويل الجديدة على هذا النص، من حيث هو خطاب لغوي يستجيب فيما وراء طابعه المقدس الذي يقرُّ به المؤمنون لآليات التفكيك والقراءة التي طُبِّقت على مختلف النصوص، بما فيها النصوص ذات الميثيَّة ـ(ميثولوجية: أسطوريّة)ـ، حسب العبارة الأثيرة لدى محمد أركون(2).

* مفهوم القطيعة مع التراث

لا غرو أن مفهوم القطيعة مع التراث الذي ينادي به مجموعة من المفكرين/الحداثيين، ما هو إلا انسلاخ عن الهوية والفكر العربي/الإسلامي. وانغماس والتحاق بواقع الحداثة الغربية.

ولا شك أن فكر القطيعة هو تقليد للغرب، وهذا ما سماه بعض النقاد في نعوتهم لعقول هذه النخبة الثقافوية بـ«العقل المرتهن» أو «الصاحب الأسمر»(3)، والذي يسميه مالكوم إكس «زنجي البيت»، أو الذي يدعوه جلال آل أحمد «ممسوس الغرب».

وفي هذا السياق يخبرنا نفزات سوجوك «أن المقيم جسديا في الشرق، وعلى الرغم من أنه يستقي روحه من الغرب، يبقى ذاتا غير غربية، محاولا مماهاة الغرب وتجاربه ومآله وتطلعاته. والغرب بالنسبة إليه عالم أكثر إشباعا لعقله ولتطلعاته، وبالتالي يأسره أكثر من الشرق»(4).

«إننا نجد بين أيدينا قراءات للقرآن ينسبها أصحابها إلى الحداثة، لكنها ليست تطبيقا مباشرا لروح الحداثة، وإنما تقليدا لتطبيقٍ سابقٍ، وهو التطبيق الغربي المتمثل في “واقع الحداثة”، ومعلوم أن هذا التطبيق الأخير أراد له أهله أن يبقى قاطعا صلته بأسباب الماضي وآثاره، لما طبِع في ذاكرتهم من أشكال التَّخلف التي عانوها في القرون الوسطى، حتى أنهم أصبحوا يفرُّون من كل ماض، ولو كان ماضيهم القريب فرارهم من موتهم رغم أن هذه الحال لا تنطبق على ذاكرة المسلمين، لأن هذه القرون كانت تشهد على تحضُّرهم، ولو أنهم انحدروا بعدها، فقد أبى بعض الدارسين إلاَّ أن يَبْنُوا على أن الأمَّة المسلمة ينبغي أن تحذو في علاقتها بتراثها وتاريخها حذو الغرب في علاقته بتراثه وتاريخه، فجاءوا بقراءات للقرآن تقطع صلتها بالتفاسير السابقة، طامعين في أن يفتحوا عهدًا تفسيريا جديدا، ولئنْ سلّمنا بأن هذه القراءات تتضمَّن عناصر من الابتكار، فلا نسلِّم بأن هذا الابتكار إبداع حقيقي، لأن من شأن الإبداع الحقيقي أن يكون موصولا، وهذا إبداع مفصول، إذ قطع صلته بتراثه، تقليدا للغير، لا اجتهادا من الذّات، وكل إبداعٍ هذا وصفه لا يكون إلا بدعة»(5).

فهذه القطيعة مع الماضي قامت على مفاهيم “تقدمية” رامت -على حد قولهم- إلى تحول اجتماعي وفكري واعد في المستقبل، في مقابل ماض خرافي غيبي

* قراءة في الجهاز المفاهيمي للحداثة

أ- التاريخانية (Historicisme): مصطلح يعنون به فهم الإسلام ونصوصه في حدود الحقبة الزمنية التي ظهر فيها وفق بُنَى ثقافية واجتماعية معينة. والـتأكيد على عدم صَلوحِية هذه النصوص في الزمن الحاضر والمستقبل.

ب- العقلانية (Rationalisme): الحداثة ترى في العقل المبتدأ والمُنتهَى، فلا تقبل إلا ما يقبله العقل وترفض ما يرفضه. فهو الأداة الوحيدة لإدراك كُنْه الأشياء وسَبْر أغوار مختلف الظواهر.

ج- العلمانية أو العلمنة (Sécularisation): يكثر تحيين (Mise à jour) معاني هذا المفهوم بين الفَيْنة والأخرى. ولا أكاد أجزم أن آخر تحيين للمفهوم، كان لجورج طرابيشي في مقالة له تحت عنوان: “العلمانية كجهادية دنيوية” حيث طرح سؤالا في مستهل مادته ـوقد جزم بمعرفة الجواب ابتداءًـ فقال: «نستطيع أن نطرح السؤال التالي: لئن تكن أوروبا الغربية هي التي سبقت إلى اجتراح مأثرة الحداثة، فهل مرد تقدمها هذا إلى أنها كانت مسيحية، كما يرى ذلك بعض فلاسفة الحضارة ومن طاب لبعض المستشرقين أن يصطاد أطروحتهم هذه في المياه العكرة لما سيسميه صمويل هنتنغتون بـ”صدام الحضارات”؟ أم أن مرد تقدمها ذاك هو إلى أنها كانت هي السباقة أيضاً إلى التعلمن كما نرى نحن؟

وبالفعل، وفيما يخص الإطار الجيو-ثقافي، العربي-الإسلامي، فإن لهذا السؤال أهمية قصوى: فلئن تكن أوروبا الغربية قد تقدمت لأنها كانت مسيحية تحت مظلة كاثوليكية-بروتستانتية مزدوجة أو متناحرة، فهذا معناه أن فرص القارة الجيو-ثقافية الإسلامية-العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستظل معدومة إن لم يكن إلى الأبد، فلأجل غير مسمى من الزمن. بل أكثر من ذلك بعد: فبما أن الإسلام يرتبط ارتباطاً تأسيسياً باللغة العربية، فإن العالم الإسلامي العربي سيبقى مستبعداً من حلبة السباق الحضاري أكثر حتى من العالم الإسلامي غير العربي، باعتبار صميمية علاقته اللغوية بالإسلام، على عكس حال باقي القارة الإسلامية التي قد تستطيع أن تنجز “فطامها” بسهولة أكبر، كما يشهد على ذلك المثال التركي بالأمس والمثال الماليزي اليوم.

أما إذا كانت أوروبا تدين بتقدمها لعلمنتها، لا لمسيحيتها، فهذا معناه أن فرص القارة الجيوـ ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستكون موفورة بتمامها إذا أنجزت هذه القارة نفس سيرورة العلمنة التي أنجزتها القارة الجيوـ ثقافية الأوروبية الغربية، وربما في مسافة زمنية أكثر قابلية للانضغاط بحكم المفعول التسريعي لقانون التطور المتفاوت والمركب.

إذن ما الآليات التي تحكمت بمولد الحداثة الأوروبية؟ بل ما تعريف هذه الحداثة أصلاً؟

بين عشرات التعاريف التي يمكن أن تعطى للحداثة يستوقفنا من وجهة النظر التي تعنينا هنا التعريف الذي اقترحه مرسيل غوشيه عندما أقام بين التحديث والعلمنة علاقة ترادف: الخروج من الدين؛ ذلك أن القارة الجيوـ ثقافية الأوروبية الغربية كانت مسكونة سطحاً وعمقاً بالدين، وما كان لها أن تشق طريقها إلى التحديث إلا بالقطيعة مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى.

وهذه القطيعة هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم العلمنة (Sécularisation)التي يمكن لنا أن نعرِّفها بدورنا، بالتضامن مع تعريف مرسيل غوشيه ولكن بالرجوع هذه المرة إلى مفردات المعجم العربي الإسلامي، على أنها جهاد في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة»(6).

الكلام واضح تبناه جورج، أظن أنه دَمْغَج فيه كل مقومات التدين والهوية واقترح طروحات لتقدم المسلمين ـ ظنا منه أن هذه الطروحات أن صلحت للغرب ستصلح حتى للشرق ـ وهي:

* الانفطام عن كليات الدين لا عن تراثه فقط.

* القطيعة مع اللغة العربية لارتباطها بالإسلام.

* تقديس القطيعة مع النظام المعرفي الديني.

دـ الحرية (Liberté): ويدخل تحت تقرير هذا الأصل، إلغاء كثير من الأحكام الدينية تحت مسمى العقلانية وخصائص الأفراد وحرياتهم.

فهذه المفاهيم الحداثوية -التي قام الباحثون العرب بتطبيقها على النصوص الدينية- ترتكز على النقاط التالية:

– إعلان القطيعة التامة مع الدين، وتجاوز ما يسمونه (سلطة النص).

– التأكيد على قراءة النص الشرعي داخل سياقه التاريخي والمجتمعي.

– الدعوة إلى الاقتداء بالغرب في جميع المجالات واعتبار استعمار واحتلال السيد الأبيض للبلدان العربية/الاسلامية (حملة مباركة)(7).

– تقويض قدسية النصوص والتجرد من هيمنتها بمعنى أن (صاحب النص لا يستطيع أن يفرض على النصوص المعاني التي يريدها، فالعقل يجدد النصوص على نحو دائم… والتفكيك هنا استراتيجية مهمتها إنكار أن يكون لأي نص معنى ثابت ومستقر)(8).

* أمثلة القطيعة مع التراث

تبنى المثقفون العرب هذه المفاهيم وحاولوا إسقاط الفهم الغربي للحداثة على القرآن والسنة والتراث عموما، فقدموا تأويلات على ضوء نظريات تاريخية وفلسفية وإيديولوجية، معتبرين ذلك “إصلاحا وتجديدا في الإسلام“.

نألف أطروحة القطيعة مع التراث جلية في كتابات طه حسين الذي دعا في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) إلى تغريب بلده مصر، مؤمنا بعالمية الثقافة الغربية التي أعتبرها ناسخة لكل الثقافات والحضارات، وعلى الجميع تبنِّيها، لِذا دعا إلى تعليم اليونانية واللاتينية لدراسة هذه الحضارة من جذورها. فهو يقول: (إننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوروبا اتصالا يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءًا منها لفظا ومعنى وحقيقة وشكلا)(9).

وقد عمد الدكتور حسن حنفي إلى معالجة النص الإسلامي وفق مناهج النقد والتأويل التي خضعت لها النصوص اليهودية والمسيحية: واعتبر أن مفكري الغرب (أعطوا العقل حقَّه نسبيًّا… في اعتبارهم العقل أساسًا للنَّقل، ومقياسًا لصحَّة العقائد وأساسًا للعلم… وقد تكُون فلسفة التَّنوير ـ من حيث هي قضاءٌ على الخرافة ـ هي ما نحتاجه أكثر في عصرنا هذا من إيمانٍ بالإنسان، ونداءٍ للحرية، والاتّجاه نحو العالم الحِسِيّ)(10).

وسلك الدكتور نضال الصالح مسلك طه حسين، فأصر على وجود أخطاء لغوية/نحوية في القرآن الكريم، وأن هذه الأخطاء إن دلت على شيء فإنما تدل على تعرُض هذا النص إلى متغيرات دلت على تاريخيته وتاريخية أحكامه، فيقول: (الأخطاء النحوية واللغوية الموجودة في النص الديني الذي بين أيدينا، ومهما حاول المفسرون واللغويون الالتفاف عليها، بالإضافة إلى نسخ بعض آياته سواء زمن الرسول أو بعده كما رأينا من كتب التراث، تدعم فكرة تحول النّص من الإلهي إلى البشري، وتدعم تاريخ النص وأحكامه وتؤكد لنا أن الأحكام تتغير بتغير الظروف التاريخية والاجتماعية(11).

أظن أن الدكتور نضال مقتنع بهرطقة طه حسين ولا أظنه يعلم بأن طه في مراجعاته آخر حياته ندم على هذا القول، ولما سئل عن سبب قوله بـ(وجود أخطاء لغوية/نحوية في القرآن الكريم) أجاب إنه أراد الشهرة من ذلك(12).

لا جرم أن دعاة الانفتاح المطلق لقراءة النصوص، قد أحدثوا فوضى عارمة لَمّا استرشد البعض إلى فلسفة (انعدام المعرفة اليقينية)، فطفِقوا يدورون بالنص في فلك (الشَكِّية)، وهذا ما عبر عنه أحد الدارسين بقوله: (تقودنا فوضى القراءة إلى الشك في كل شيء في نهاية الأمر، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ارتباط نظريات التلقي الجديدة، التي لا تقول بتعدد قراءات النص الواحد، بل بلا نهائيتها، باستحالة المعرفة اليقينية)(13).

وبهذا ينزل النَّص القرآنيّ من رتبة المطلق إلى رتبة النِّسبي، (فيصير النص القرآني نصًّا إجماليًّا وإشكاليًّا ينفتح على احتمالاتٍ متعددةٍ، ويقتبس تأويلات غير متناهية، وفصل النّص القرآني عن مصدره المتعالي وربطه كليًّا بالقارئ الإنسانيّ، ويصبح النَّص القرآني غير مكتملٍ، ولا يبعُدُ احتمال وجود نقصٍ فيه يتمثَّل في حذف كلامٍ منسوب إلى المصدر الإلهيّ عند التَّدوين أو عند وضع المصاحف، ولا يرفع احتمال وجود زيادةٍ قد تخدم مصلحة فئةٍ بحيث تقوي مركزها أو تشرّع سلطتها.

ونجد نصر حامد أبو زيد في قراءته (المعقلنة)، والتي تهدف إلى رفع عائق الغيبيَّة الذي يتمثل في الاعتقاد أن القرآن وحيٌ ورد من عالم الغيب، والآليّة المتبعة في إزالة هذا العائق هي التَّعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النَّظر والبحث التي توفِّرها المنهجيّات والنَّظريات الحديثة، ويتم التَّعامل بواسطة عمليَّات منهجيّة تستند إلى نقد علوم القرآن.

فأبو زيد يعتقد أن هذه العُلُوم التي اختص بها علماء المسلمين تشكِّل وسائط معرفيّة متحجِّرة تصرفنا عن الرُّجوع إلى النَّص القرآني، وتحُول دون قراءة تأخذ بأسباب النَّظر العقليّ كما أكد على ذلك مرارًا في كتابه: «مفهوم النّص: دراسة في علوم القرآن»(14).

ومن وجهة نظر نصر حامد فإن النص القرآني في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، وأنه تشكل في سياق ثقافي واجتماعي في فترة تقرب عن عشرين عاما، ويعتقد أنه للوصول إلى الوعي العلمي والتاريخي للنصوص الدينية، لا بد من الوقوف بوجه الرأي القائل إن الله هو الملقي والمتكلم للنصوص الدينية، وإن هذا النص ملتبس بلباس القداسة وبثوب الميتافيزيقا، والتأكيد على الرأي المقابل القائل إن لهذا النص بعدا تاريخيا وبشريا وثقافيا، ويجب أن نتوجه إلى الواقع التاريخي والثقافي عند استنطاق مفهومه(15).

وأزيدك عزيزي القارئ هذه الزمرة من الأمثلة للتأويلات المعاصرة للنص القرآني والتي تدل على بعض الانحرافات المنهجية والضاربة لأصول العربية وقوانينها في استنباط مغازي النصوص ومقاصدها.

فهذا الدكتور محمد شحرور ـ حينما أراد أن يضع أصولا جديدة للفقه الإسلامي ـ أنفلت من عقال الأصول النقلية المأثورة في كثير من الآيات. ففي قراءة (تجديدية) له لآيات المواريث يرى من الواجب تجاوز (الإطار المعرفي الحسابي الذي حَكَم فهم القرون الماضية لآيات الإرث وتطبيقها، بعد أن وضع ديكارت الهندسة التحليلية، وربط فيها بين الكم المنفصل والكم المتصل، وبعد ظهور التحليل الرياضي في مفهوم المشتق والمتكامل على يد نيوتن، وبعد ظهور نظرية المجموعات في القرن العشرين الذي نعيشه)(16).

فهذه القراءة واضحة الفساد، وفسادها بَيِن في تطبيق (الهندسة التحليلية) الإنسانية/النسبية على آيات ربانية/مطلقة.

ونجده يؤوِّل الشهر في قوله تعالى: {ليْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(17)؛ فادّعى أن الشهر لا يراد به المعنى الزمني المشهور عند الخاصة والعامة، وإنما خرج من هذا المقتضى ليراد به الشهرة والاشتهار، أي: شهرة إنزال أحكام القرآن في هذا الشهر خصوصا، وهذا ـ على حد قول شحرورـ هو معنى الإنزال المذكور في الآية(18).

فالواضح من كلام الباحث محمد شحرور أنه لا اعتبار عنده بمفهوم الزمنية في الآية، فهو بذلك يخالف جمّا من المفسرين الذين تواترت تأويلاتهم بزمنية الشهر، والأكثر من ذلك مخالفته لجملة من النصوص الحديثية التي تتناصُّ وتفسر الآية.

ونلفي شحرور في موطن أخر كلّف فكره ما لا يطيق، لما تسلّق مدارك الغيب التي أُمرنا أن نُؤمن بها بلا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل. فيقول في هذا الصدد: (هناك قول شائع جدا، وبنفس الوقت خاطئ جدا بأن الجنة والنار، أي جنة المتقين ونار الكافرين موجودتان الآن وأنهما تنتظران يوم البعث، وهذا غير صحيح طبقا للنص القرآني حيث أن الجنة والنار ستتشكلان على أنقاض هذا الكون بعد النفخة الأولى. وحتى يحين وقت النفخة الثانية الذي سيحصل فيها البعث، تكون الجنة والنار جاهزتين)(19).

تكلُّف..

إن المعاصرين الحداثيين لم يقدموا نموذجا لفلسفة إسلامية معاصرة، بل غاية ما قاموا به هو تطبيق منهجيات فلسفة الدين الغربية على الحقل الإسلامي.

فأثناء قراءتهم -مثلا- لمصطلحي الوحي والنبوة نجد:

1ـ محمد أركون يولي فكرة الخيال أهمية أنثروبولوجية، أطلق عليها اسم (المخيال). وأرجأ إليها كل قدسية للقيم الإنسانية، ومنه (أي المخيال) تستمر حياة الوحي التراثية، (وعَبْر هذه العملية التاريخية والاجتماعية والنفسانية تَغْتَنِي الذاكرة الجماعية، ويمتحن المخيال الاجتماعي ويظل حيا)(20).

2ـ وتحضر فكرة المخيال والخيال عند أبي زيد أيضا ليصوغ مفهوما للنبوة اعتمادا على مفهوم الخيال، فيقول أن النبوة: (انتقال من عالم المُخَيِّلة الإنسانية التي تكون في الأنبياء ـ بحكم الاصطفاء والفطرة ـ أقوى منها عند من سواهم من البشر… فإن (الأنبياء) و(الشعراء) و(العارفين) قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية (المُخَيِّلة) في اليقظة والنوم على السواء)(21).

3- ودائما نحو مسمى التجديدية التراثية فهما وتأصيلا، يطالعنا عبد الكريم سروش -في قراءاته لآيات الوحي- بفرضية أطلق عليها (فرضية ميتافيزيقية) لا تفصل بين الله والعالم، فيَدين -من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر- بعقيدة الحلول والاتحاد، يقول سروش: (بالنسبة إلى الله تعالى حيث نرى أنه موجود في كل مكان، ولا يوجد مكان أفضل وأهم من مكان آخر بالنسبة إلى وجود الله، ولا يوجد مكان أقرب إليه من مكان آخر، فحينئذ لا فرق في قولنا بأن الله يتحدث من داخل النبي أو خارجه… وبالنسبة إلى جبرائيل أيضا فإنه لا يختلف حاله في باطن النبي أو خارجه)(22).

بل ذهب أبعد من ذلك عندما تحدث عن النبوة في حالتها الوجدانية (الوحي) وغَالَ في التفكير لما اعتبرها تجربة قابلة للامتداد والانكماش، مثلها مثل الشاعرية لدى الشاعر أو فن الفنان أو مهارة التقني، وهو يقول في هذا الصدد: (فليس الأنبياء بل حتى الأشخاص ما دون الأنبياء يشعرون في أنفسهم بمثل هذا الشعور والإحساس…فأنا رأيت مرات كثيرة في عالم الرؤيا شخصا ينشدني بعض الأشعار، وقد كتبت بعض هذه الأشعار بعد الانتباه من النوم)(23).

وفي موقع آخر من كتابه «بسط التجربة النبوية» يقع سروش في فخ التناقض مع فكره السابق، وذلك حينما يقول: (فالنبي وبسبب كونه بشرا جسمانيا وقد دخل إلى عالم الطبيعة فكل شيء في عالم الطبيعة طبيعيّ، بمعنى أنه مطبوع بطابع الطبيعة على جبينه ولا يتمكن من الخروج عن هذا الإطار)(24).

فهذه الاتجاهات التأويلية الظاهراتية حاكمت النص الموحى به والنبي الموحى إليه، ونظرت إلى موضوع الوحي من خارج النص لتقرأه مجرد ظاهرة حادثة في التاريخ، وسلبت منه روحه الديني، فاعتبرت الوحي تَصَعُّدات ذهنية ونفسية تنكشف على عالم الروح بسبب علو وسمو نفس العارف أو النبي.

فالنبي عند بعض الحداثيين كغيره، عبقري فاضت نفسه بذكائها، والوحي في أفضل أحواله، قيمة إنسانية يبلغه كل إنسان عند تسلقه مدارج الصفاء العقلي والفكري…

مثل هذه القراءات الحداثويّة، تستحضر الإنسان كبديل عن المصدر الإلهي للوحي، وترفع القداسة عن الإلهيات، لكي تكون كأي ظاهرة قابلة للنقاش. إنّه منهج (ظواهريّ) يقضي بتحوّل أي حقيقة إلى مجرد ظاهرة يَحْبك الذهن خيوطَ بِسَاطِها، والأنثروبولوجيا التي عليها أن تخترق حرمة المقدّس لتحويله إلى مُجَرد موضوع مُتَحيِّز وقابل للتفكيك والتفسير ثم التحكّم، والتّأويلية المعاصرة التي تنزع الخصوصية عن النّص فتأخذه إلى ميدان النظرة فتشتغل عليه كرمز مشير، أو أسطورة موحية.

وبكل الأحوال، فإن الاستهداف والفعاليّة التي ينصبها المنهج الحداثويّ هو إخراج الأمر عن دائرته المفترضة، وإدخاله حيِّز الذهن البشري الصرف ليتحكم به الذهن بموجب هذه الفعالية، ولا مانع بعدها أن يسموه ما شاءوا: وحيا أو دينا أو غيبا أو إلى ما هنالك من تسميات(25).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ باحث.

1– د. محمد جابر الأنصاري: «مساءلة الهزيمة»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، (ص. 12).

2– السيد ولد أباه: «عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001: الإشكالات الفكرية والاستراتيجية»، الدار العربية للعلوم، بيروت، الطبعة الأولى، 2004، (ص. 104).

3- مفردة أطلقت على بعض الأفراد من أصول القارة الهندية، الذين يتملقون للبريطاني، ويتأثرون بثقافته ونمط حياته.

4- P. Purabi. VS. Naipaul: an Anthropology of Recent Criticism – New Delhi: Pencraft International 2003 p.35.

5- طه عبد الرحمن: «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية» المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، الطبعة الأولى، 2006، ص. 175-176.

6- جورج طرابيشي: “العلمانية كجهادية دنيوية” نشر بتاريخ: 8/07/2012

http://alawan.org/article1165.html

7- علي اومليل: «سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول» مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص. 23.

8- د. أحمد إبراهيم خضر: «الأساس الإلحادي للمفاهيم الغربية»، مجلة البيان، السنة الحادية والعشرين، العدد223، ربيع الأول 1427هـ مارس 2006م، ص. 99.

9- طه حسين: «مستقبل الثقافة في مصر» الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص. 33.

10- حسن حنفي: «من العقيدة إلى الثورة» المركز الثقافي العربي، بيروت، 1999، ج. 1/ص. 19.

11- نضال عبد القادر الصالح: «المأزق في الفكر الديني بين النص والواقع» دار الطليعة، بيروت، 2006، ص. 205.

12- أنظر المحاضرة التي قدمها الدكتور محمد العوضي: «مراجعات» أثناء فعاليات مؤتمر “فور شباب” الرابع.

13- عبد العزيز حمودة: «المرايا المحدبة (من البنيوية إلى التفكيك)»، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ذو الحجة 1418هـ، أبريل 1988م، ص. 105.

14- محمد زاهر جول: «النَّصُّ والتَّأويل: استراتيجيَّات القراءة المحدثة»، مجلة التفاهم، العدد: 24، أبريل 2009.

15- نصر حامد أبو زيد: «مفهوم النص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994، ص. 10-12.

– نصر حامد أبو زيد: «نقد الخطاب الديني»، سينا للنشر، 1994، ص. 188إلى 190.

16- محمد شحرور: «نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي»، الأهالي للطباعة، دمشق، غشت 2000، ص. 223.

17- سورة القدر، الآية: 3.

18- محمد شحرور: «الكتاب والقرآن»، الأهالي للطباعة، دمشق، بدون تاريخ، ص. 208.

19- محمد شحرور: «الكتاب والقرآن»، ص. 241-242.

20- محمد أركون: «القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني» ترجمة هاشم صالح، ط. 1، دار الطليعة، بيروت، 2001، ص. 29.

21- نصر حامد: «مفهوم النص»، ص. 49.

22- عبد الكريم سروش: «بسط التجربة النبوية»، ترجمة أحمد القباجي، ط. 1، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009، ص. 215-214.

23- المرجع نفسه، ص. 225.

24- المرجع نفسه، ص. 220-219.

25- شفيق جرادي: «الوحي من منظور إلهيات المعرفة»، مجلة المحجة اللبنانية، العدد: 25، صيف وخريف 2012، ص. 40.

 

لائحة المراجع

العربية:

1- نصر حامد أبو زيد: «مفهوم النص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

نصر حامد أبو زيد: «نقد الخطاب الديني»، سينا للنشر، 1994.

2- الأنصاري محمد جابر: «مساءلة الهزيمة»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م.

3- محمد أركون: «القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني» ترجمة هاشم صالح، ط. 1، دار الطليعة، بيروت، 2001.

4- نضال عبد القادر الصالح: «المأزق في الفكر الديني بين النص والواقع» دار الطليعة، بيروت، 2006.

5- علي اومليل: «سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول» مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، الطبعة الأولى، 2005.

6- طه حسين: «مستقبل الثقافة في مصر» الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.

7- حسن حنفي: «من العقيدة إلى الثورة» المركز الثقافي العربي، بيروت، 1999.

8- عبد العزيز حمودة: «المرايا المحدبة (من البنيوية إلى التفكيك)»، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أبريل 1988م.

9- شفيق جرادي: «الوحي من منظور إلهيات المعرفة»، مجلة المحجة اللبنانية، العدد: 25، صيف وخريف 2012.

10- محمد زاهر جول: «النَّصُّ والتَّأويل: استراتيجيَّات القراءة المحدثة»، مجلة التفاهم، العدد: 24، أبريل 2009.

11- أحمد إبراهيم خضر: الأساس الإلحادي للمفاهيم الغربية، مجلة البيان، السنة الحادية والعشرين، العدد: 223، مارس 2006م.

12- طه عبد الرحمن: «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية» المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، ط. 1، 2006.

13- عبد الكريم سروش: «بسط التجربة النبوية»، ترجمة أحمد القباجي، ط. 1، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009.

14- محمد شحرور: «نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي»، الأهالي للطباعة، دمشق، غشت 2000.

محمد شحرور: «الكتاب والقرآن»، الأهالي للطباعة، دمشق، بدون تاريخ.

15- السيد ولد أباه: «عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001: الإشكالات الفكرية والاستراتيجية»، الدار العربية للعلوم، بيروت، ط. 1، 2004.

 

الأجنبية:

P. Purabi. VS. Naipaul: an Anthropology of Recent Criticism – New Delhi: Pencraft International 2003.

المواقع العنكبوتية:

ـ جورج طرابيشي: «العلمانية كجهادية دنيوية» نشر بتاريخ: 8/07/2012

http://alawan.org/article1165.html

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M