الدراسات السوسيولوجية حول التدين بين النزعة الوصفية والطموح التفسيري

05 يوليو 2014 14:25
الدراسات السوسيولوجية حول التدين بين النزعة الوصفية والطموح التفسيري

الدراسات السوسيولوجية حول التدين بين النزعة الوصفية والطموح التفسيري

د. رشيد جرموني

هوية بريس – السبت 05 يوليوز 2014

أولا: في الصعوبات الابستيمولوجية لدراسة التدين

تطرح عملية قياس التدين صعوبات منهجية وابستيمولوجية على قدر كبير من الأهمية، ذلك أن طبيعة القيم الدينية، وقدرتها على التخفي والتستر تجعلها غير واضحة ولا شفافة. ولهذا فإن عملية قياسها تطرح إشكالات ابتيستيمولوجية، يجب أخذها بعين الاعتبار حتى لا ننزلق في تأويلات خاطئة، فالباحث السوسيولوجي يقيس ما يصرح به الشخص من اتجاهات وقيم، لا ما يمارسه حقا في سلوكه اليومي.

وبالتالي مهما كانت درجة موافقة المبحوث على قيمة معينة، أو اهتمامه بها فإنها لا تعني بالضرورة امتلاك القيمة والتصرف وفقها. ولهذا يجب الانتباه في عملية قراءة نتائج العديد من الدراسات الإمبريقية لظاهرة التدين.

ولعل هذا الجدل، هو ما قسم الباحثين إلى اتجاهين الأول، يدعو إلى نهج “السوسيوغرافيا الدينية”، والتي هي “عبارة عن نموذج من الوصف للسلوكيات الطقسية والولاء للإيمان، يغلب عليه طابع الرصد العددي، يجري على أساسه تصوير مختلف التنوعات الاجتماعية الدينية (الذين يترددون بشكل دائم على القداس يوم الأحد، الذين يفدون أثناء الفصح فقط أو أثناء اعياد الميلاد، وهكذا دواليك). وتوفر الأشكال الأخيرة العلامات الجلية لتقييم الانحدار أو الثبات لدين الكنيسة في مجال محدد”.

ويثير البعض في مقابل المنهج السوسيوغرافي عدة انتقادات، معتبرين إياه، بكونه ينحو لتسطيح السلوكيات والمواقف بناء على الإحصائيات، وهو ما يتعارض مع حقيقة أنظمة رمزية في منتهى التعقيد. فتلك الأنظمة لا يمكن الإلمام بها إلا عبر إحاطة بالتاريخ الثقافي للجماعة البشرية، وبأشكال التأثير أو التنظيم لدين محدد، وأثر الصياغة المترتبة عن ذلك على المستوى الفردي. ومن هنا برزت فكرة اللجوء إلى المنهج البيوغرافي (منهج السير) لتجميع المعنى الذاتي للسلوك الديني لدى مجموعة من الأفراد وتنقيب تواريخهم ودورات حياتهم، (سابينو أكوافيفا، إنزو باتشي، “علم الاجتماع الديني،2012).

وقد سبق أن تنبه لهذا الاشكال المنهجي في دراسته للتدين بالمغرب وإندونيسيا، الباحث الأنثروبولوجي “كلفورد غيرتز” قائلا: فالإدراك الديني، ونقصد بذلك استخدام الرموز المقدسة لتنشيط الإيمان، إنما يتم ضمن سياق وأوضاع معينة، وإطار طقوس محدد، تتضح عندئذ صعوبة تقديم وصف ظواهري دقيق للتجربة الدينية. فحينما يتحدث علماء الانثروبولوجيا (أو أي شخص آخر ممن يهتمون بالمنهج الامبيريقي التجريبي) إلى الناس عن دينهم- الذي، بغض النظر عن كمية الملاحظات التي نقوم برصدها، أو كمية الكتب التي يجب أن نقرأها إذا أردنا أن نفهم أي شيء- فإنه من المؤكد أن هذا الحديث سيتم في سياق أوضاع بعيدة جدا عن الأوضاع الدينية بقدر الإمكان”، (كليفورد غيرتز،1993). وعليه نخلص مما سبق عرضه، أن طبيعة الدراسة الميدانية الإمبيريقية تطرح نفس الصعوبات سواء كنا في الحقل الديني، أو غيره من الحقول، لكن تزداد الصعوبة أكثر في الحقل الذي يتميز بثقل الحمولات الرمزية والثقافية كما هو الشأن بالنسبة للحقل الديني.

ثانيا: وقفة مع بعض الدراسات السوسيولوجية حول التدين على المستوى العالمي

بالرغم من الصعوبات الابستيمولوجية التي توفقنا عندها سابقا، فإن الدراسات السوسيولوجية حول التدين، والتي انطلقت بداية من النصف الثاني من القرن الماضي، عبر مجموعة من المناطق الجغرافية والحضارية، قدمت عناصر مهمة لفك السحر عن الظاهرة الدينية، وكذا تدقيق مجموعة من المؤشرات الكمية التي تمكن الباحثين من تتبع مسارات ظاهرة جد مركبة وجد معقدة. فما هي أهم هذه الدراسات؟ وما هي الخلفيات السوسيوتارخية التي دفعت إلى التعاطي مع الظاهرة الدينية من خلال التخصص البحثي، السوسيولوجيا؟

شكل البارديغم السوسيولوجي الذي خلفه الرواد المؤسسون للسوسيولوجيا، (دوركايم، فيبر، ماركس)، والذي كان ينطلق من فرضية، أنه كلما اتجهت المجتمعات الانسانية نحو التحديث المتسارع للبنيات والهياكل والأنساق الاقتصادية والصناعية والمادية، كارتفاع حالة التصنيع، وانتشار التمدين، والولوج للمعرفة، وخروج المرأة للعمل، وانخفاض الولادات…، إلا وكانت نتيجة هذه التحولات، تراجعا للتدين، وبروز للفردانية، واختفاء للمقدس، وتشظيا في المرجعيات. وقد كان لهذه الفرضية وجاهتها المعرفية والبحثية، إلى حدود الستينيات من القرن الماضي، حيث بدأت تبرز مؤشرات على التهاوي الجزئي لهذه الفرضية، وقد مثلت تجربة الولايات المتحدة الأمريكية، نموذجا في استماتة التدين وعدم قبوله للذوبان أو الانمحاء (انظر الأبحاث التي سهر عليها كل من “إنكليهارت،1997، أو إنكليهارت وبيبا نوريس،2004).

وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت لفرضية الربط الميكانيكي بين التحديث والعلمنة، فإن أحد أشهر الباحثين في حقل القيم، هو “إنكليهارت”، سيطور نموذجا تفسيريا، يقوم على الربط بين مستوى الدخل القومي والتدين، وهكذا سيعمل -من خلال العمل النوعي والمتميز على تأويل العديد من الدراسات البحثية عبر العالم- على تطوير مقترب “اقتصادوي”، يقسم الدول إلى المجتمعات البشرية إلى ثلاثة أصناف: المابعد-صناعية، والصناعية، والزراعية، وحسب المؤشرات الرقيمة المحصل عليها في الأبحاث التي أنجزها معهد كالوب، سنتي1981 و2001 (wvs) في أكثر من 80 دولة، استخلصا( إنكليهارت، ونوريس)، أن الدول الزراعية هي الأكثر تدينا (ومنها المغرب)، أو التي ينخفض فيها الدخل القومي، بينما الدول الصناعية أو بعد الصناعية تتراجع فيها مؤشرات التدين (كالسويد). لكن هذا التصنيف سيصطدم بوجود حالات شكلت استثناء، ولهذا يمكن أن نفهم سر حيرة الباحثين من استمرار مظاهر التدين في الولايات المتحدة الأمريكية أو في اليابان، وأنهما رغم ما تتمتعان به من مستويات عليا من الرفاه الاقتصادي والدخل القومي المرتفع وارتفاع وثيرة التصنيع، فإن الدين ما زال يلعب فيها دورا بارزا في حياة المجتمع. ولهذا عجزت المقاربة الاختزالية التي انتهجها الباحثين السابقين، عن استيعاب الظاهرة الدينية وتنميطها في التصنيفات التي اعتمدوها في دراساتهما.

وقد استند “جورج قرم (2007)” إلى النتائج التي توصل إليها “إنكليهارت ونوريس”، ليؤكد أن فرضية تراجع الدين تبقى صالحة لقراءة المشهد الديني في العالم المعاصر، وبشكل خاص في العالم العربي، “فهناك ترابط وثيق بين تزايد الشعور بفقدان الأمن والاستقرار وبين اللجوء إلى الدين، خصوصا في مناطق العالم الآخذة في النمو. وهذا التحليل ينطبق تماما على العالم العربي الذي تمزقه الحروب الداخلية أو بين الأقطار العربية نفسها منذ نصف قرن. ويمكننا أن نستنتج من ذلك، أن “قرم” يتبنى المقاربة التفسيرية الاقتصادية، حيث يربط بين الرجوع للدين وبين العامل الاقتصادي والأمن والاستقرار، فحيثما تكون حروب وينعدم الأمن فإن الأفراد والمجتمع يلجؤون للدين، وحينما تنعدم هذه العوامل ويتطور الاقتصاد ويتحقق الرفاه التنموي تقل معدلات التدين. والسؤال الذي يطرح بإلحاح، هل يمكن التماهي الكلي مع هذه المقاربة؟ وما هي حدودها التفسيرية؟

إلا أنه يجمل بنا، قبل التطرق لهذا السؤال، أن نلقي نظرة خاطفة عن بعض المؤشرات البحثية حول التدين في فرنسا؟

ففي هذا البلد العريق سوسيولوجيا، انطلقت موجة من الأبحاث الإمبيريقية على يد “مارسل موس”، الذي جعل من البحث الديني أحد الميادين الخصبة لإثراء المعرفة الإنسانية بصفة عامة. وقد اعتبر أن حالة التدين في فرنسا، يمكن أن تدرس قطعا بالطريقة نفسها التي يدرس بها الإحصائيون الأوضاع الاجتماعية عبر إحصاءات الإجرام. وتابع نفس النهج “كبريال لوبرا” البحث في الدين المعاش(la religion vécue)، وأصدر “لوسيان فابر” و”مارك بلوك” كتابين مهمين: الأول “(مدخل لتاريخ الممارسة الدينية،1945)، والثاني(خريطة الممارسة الدينية في الريف،1947)، (الهرماسي،1990). علاوة على أن المركز الوطني للبحث العلمي أنشا مجموعة البحث في سوسيولوجيا الأديان (وكان لتغيير الإسم من الدين إلى الأديان، دلالة في التحول البحثي من دراسة دين بعينه إلى الانفتاح على كل الأديان)، وكان من ثماره إصدار “أطلس الممارسة الدينية عند الكاثوليكيين الفرنسيين، سنة (1968. “Grace Davie (2003) “.

ومن خلال هذا الجهد المعرفي، أمكن للباحثين الفرنسيين رصد وتتبع الحالة الدينية، حيث أشار (Dnielle.H.Léger2004) إلى انحسار الممارسات الدينية وتناقص أعداد المشاركين في احتفالات الكنائس الأسبوعية، وتراجع أعداد الرهبان بسبب الموت، وقد حصل ذلك في سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، الشيء الذي سمح للباحث للحديث عن انقلاب في المشهد الديني الفرنسي.

لا شك أن الوقوف عند بعض الخلفيات السوسيوتاريخية لتجربة فرنسا في دراسة التدين، تمكننا -ولو جزئيا- من فهم الميكانيزمات البحثية التي انتهجها الباحثون المغاربة لدراسة التدين في البيئة المغربية الشديدة التركيب والتعقيد، فما هي أهم هذه الدراسات؟ وما هي أهم النتائج المتوصل إليها؟ وما هي الآفاق والتحديات البحثية التي تطرحها في المستقبل؟

ثالثا: وقفة مع بعض الدراسات السوسيولوجية حول التدين بالمغرب

قبل أن نستعرض بعض نتائج أهم الدراسات السوسيولوجية حول التدين بالمغرب، لا بد من التنويه، إلى أن المغرب يعد رائدا في هذا التخصص البحثي على الصعيد العربي. حيث يعد اليوم مدرسة بكل ما تعنيه الكلمة، نظرا لما حققه من تراكم وتجربة وخبرة، تؤهله لقيادة بحوث “عبر مناطقية”، أو ما يطلق عيله في العلوم الاجتماعية بمفهوم “Area studies“. وهذا ما من شأنه أن يعمق أكثر من التجربة المحصلة، وأن يستفد مما تقدمه النتائج المقارنة عبر الدول العربية، في تطوير مجموعة من الفرضيات، ولما لا الوصول إلى نظرية سوسيولوجية في مجال التدين.

من الناحية المنهجية، سوف نعتمد في قراءتنا لبعض النتائج الخاصة بالدراسات السوسيولوجية حول التدين بالمغرب، على تقسيم كرونولوجي، يبتدأ من مرحلة الستينيات من القرن الماضي، ثم مرحلة الثمانينيات ثم المرحلىة الاخيرة، والممتدة من تسعينيات القرن الماضي، إلى الآن. ومن جهة ثانية، سنركز في هذا التقسيم على “التيمات” المتداولة في البحث، ونحن نعتقد أننا نقوم بتعسف على هذه البحوث، لكننا نحيل القارئ الكريم على أطروحتنا للدكتوراه، فهي غنية بالمعطيات التفصيلية (الفصل الثاني). (الشباب وتحول القيم والاتجاهات والممارسات الدينية: دراسة سوسيولوجية بعمالة سلا، 2013، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت إشراف، المختار الهراس، غير منشورة).

1- على المستوى الهوياتي والعقدي:

نسجل وجود توجه عام نحو تعزيز الهوية الدينية وحضور قوي للدين في مخيال ووجدان المغاربة، فكل المؤشرات التي أتينا على ذكرها، تبين هذا الأمر بجلاء، فأهمية الدين مثلا تحضر في مختلف الدراسات السابقة، سواء منها الوطنية أو الدولية، وهذا ما يجعلنا نفترض حصول عودة للدين، ربما بشكل سطحي وماهوي واستيهامي، لكن ليس بشكله الواعي والمفكر فيه، اللهم إذا استثنينا بعض الفئات المتعلمة والمنتمية للحركات الدعوية. وعلى العموم فإن هذه الفرضية تبقى إحدى الإشكاليات التي يمكن تجليتها في البحوث المقبلة.

إلا أنه، بالرغم من هذا التحفظ العلمي والإبستمولوجي الذي أبديناه، فإن نتائج الدراسات السابقة، تؤكد وجود تحول في مكانة الهوية الدينية عند فئة الشباب، خصوصا إذا ما أعملنا المقاربة المقارنة بين هذه الدراسات، فعلى سبيلا المثال عندما، نستحضر دراسة سابقة “لأندري آدم1960″، نجد أن نسبة قليلة من الشباب المستجوب، لا تتعدى 5%، هي التي عبرت عن تثمينها لأهمية الدين، مقابل 80% عبروا عن استبعادهم لهذا المكون في حياتهم (رشيق،2000). أما إذا ما قارنا هذه النتيجة مع ما سجلناه في الدراسات السابقة، يتبين مستوى التطور بين مرحلتين زمنيتين مختلفتين، حيث توصل معهد “كالوب” و”بيو ريشيرش” إلى نسب تتجاوز 90%، ممن عبروا عن أهمية الدين في حياتهم. ولعل المثير في هذه النتائج، هو تفوق المغاربة كميا (في أهمية الدين) على مجموعة من الدول العربية الإسلامية، ومنها تلك الدول المنطبعة بحالة التطابق بين التدين الرسمي والتدين الشعبي (حالة المملكة العربية السعودية).

 ونحن إذ نسجل هذه النتائج، نود أن نطرح مجموعة من الأسئلة: هل تعبير المغاربة عن أهمية الدين مثلا في حياتهم اليومية، وتماهيهم مع الهوية الإسلامية، يعبر عن تماه حقيقي أم أنه مجرد تماه عاطفي وظرفي واستيهامي؟ ثانيا إذا اعترفنا بوجود هذه الأهمية سواء العميقة أو السطحية، كيف يمكن فهم أسباب هذا التطور؟ وماهي العوامل الفاعلة فيه؟ وما هي آثاره على تدين المغاربة الواقعي واليومي؟ هذه الأسئلة وغيرها لم تخضع للفحص السوسيولوجي بالشكل المطلوب، مما يحتم علينا في مقاربة ظاهرة التدين، التصدي لهذه الإشكالية، قصد تجلية بعض من أوجهها سواء الظاهرة أو الخفية، وذلك في حدود معينة، لأن السوسيولوجيا بطبيعتها لا تتوصل إلى حقائق ناجزة، بقدر ما تقدم للباحثين ولعموم المستهلكين، خطاطات إرشادية تساعدهم على فك السحر عن الظاهرة.

2- على مستوى العبادات والممارسات:

يتين من خلال الجرد السابق للدراسات السوسيولوجية حول ظاهرة التدين عند المغاربة، أن مؤشرات الخاصة بالعبادات والممارسات الدينية، وقع فيها تطور ملحوظ، فبالرجوع مثلا لدراسة الباحث “محمد شقرون” (1990، بالفرنسة)، الذي توصل إلى أن نسبة الذين عبروا عن أدائهم الصلاة بانتظام لا تتعدى 9% من عينة تشمل أزيد من 1000 شاب وشابة (سنة1989، شقرون). وفي سنة 1996، أنجز ثلة من الباحثين(الهراس، بورقية، وآخرون)، دراسة حول “الشباب والتدين”، توصلوا إلى أن نسبة المصلين بانتظام وسط فئة الشباب، تمثلت في 7,44%. بينما في سنة 2007، توصل فريق البحث حول “الإسلام اليومي” إلى نسبة 41,6%، مما يعني أن هناك تطورا في أداء هذه الشعيرة.

أما بخصوص الموقف من الحجاب، فإنه بدوره عرف تطورا رقميا خلال السنوات الأخيرة، إذ بعد الدراسة التي أنجزها (شقرون1989)، توصل إلى أن نسبة لا تتجاوز 7,36%، ممن يعتبرون الحجاب واجبا، بينما 2,54% لا يرونه كذلك. في حين سيعرف الموقف من الحجاب تطورا رقميا من خلال الدراسة التي أنجزتها كل من “بورقية، الهراس، رشيق، العيادي” سنة 1996، إذ توصلوا إلى نتيجة 58% من فئة الشباب ممن يعلنون مواقف إيجابية من لباس الحجاب. وفي سنة 2007، مع دراسة الإسلام اليومي، ستصل هذه النسبة إلى 8,76% من فئة (18-24سنة) ممن يعبرون عن مواقف ايجابية من الحجاب. وفيما يخص هذا المؤشر المظهري الخاص باللباس المسمى في الأدبيات الإسلامية الحديثة، بالحجاب، فإن الدراسة القيمة التي سهر على إنجازها الباحث بن سعيد (2007)، بينت أن هذه الظاهرة أصبحت عامة وأنها لم تعد تؤشر بالضرورة على انتماء إديولوجي أو سياسي معين، بل إنها أصبحت تجد نوعا من التقبل الاجتماعي، أو ما سماه الباحث “والرستاين” بالامتثال الاجتماعي «social conformity»، مما يعني أن هذا الأمر يدل على نوع من التكيف المرن بين الإسلام المعياري والواقع الاجتماعي والقبول بمتطلبات الحداثة والتحديث.

3- على المستوى الأخلاقي والقيمي:

 لعل المتتبع لكل الدراسات التي صدرت في السنوات الأخيرة، حول قضايا القيم والتدين والأخلاق عند فئة الشباب، أو حتى باقي فئات المجتمع المغربي، يلاحظ أن هذه الأبحاث تتجه لتأكيد معطى أصبح مسلم به عند كل الباحثين، وهو وجود ازدواجية سلوكية بين المعتقد والممارسة، وقد سبق للباحثة “بورقية” أن وسمت هذه الظاهرة “باستراتيجية الازدواجية”، وهي تشرح هذه الفكرة قائلة: “إن الازدواجية أصبحت عبارة عن نسق موجه للسلوكات الفردية والجماعية للشباب، في مجتمع يتحول بسرعة وفي ظروف سوسيواقتصادية جد معقدة، وأن هذا البراديغم الإزدواجي أصبح بمثابة البراديغم الثقافي الذي يعمل على إنتاج وإعادة إنتاج القيم الموجة للشباب، في ظل التعدد المرجعي الذي يميز المغرب” (بورقية، 2000).

ونحن نعتقد أن هذه الخلاصة تبقى جد مهمة، وأنها تمتلك قدرة على توصيف حالة التدين المغربي، لكنها لم تذهب بعيدا في اتجاه تفكيك باقي الأنساق التي يتفاعل معها المغاربة في عملية التنشئة الاجتماعية، وإنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية. ورغم أن الباحثة تحدثت في دراستها السابقة، عن تزحزح دور العلماء وتأثير ذلك على عملية “التدفق وإعادة التدفق” كما عبر عن ذلك “إرنست غيلنر”، وتراجع دورهم في الحياة المجتمعية، وخصوصا دورهم التأطيري، أو من خلال حديثها عن تراجع دور الزوايا والصلحاء في إمداد الحياة الدينية بعوامل الاستمرار والتجدد، أو من خلال مقاربتها السوسيوتاريخية.

لكننا نعتقد أن تجلية بقية عناصر تحليل ظاهرة الازدواجية السلوكية في المجتمع المغربي، يحتاج في نظرنا إلى تحليل أعمق ومقاربة نسقية تستحضر كل الفاعلين في المجتمع، بدءا بالمؤسسات الرسمية، والتساؤل عن مرجعياتهم وبرامجهم وخططهم وأهدافهم ومجالات تدبير للحقل الرمزي، وهل هذا التدبير يتجه في أفق تعزيز الهوية الدينية وإزالة أشكال التوتر أم لا، أم أنها تعمل على تزكية هذا الوضع، ومن جهة أخرى يتوجه الفحص الدقيق للمؤسسات التربوية والتعليمية التي تسهر عليها الدولة، وهل برامجها ومضامينها ومناهجها تصب في بلورة رؤية موحدة أم أنها تعمل على إدامة عناصر التمزق الفكري والمنهجي والتربوي، مما ينعكس على سلوكات الأفراد وفئة الشباب منهم بشكل خاص.

وبجانب هذه المكونات يمكن التوفق عند آثار العولمة وخصوصا الثورة التكنولوجية التي أحدثت بشكل غير مسبوق تصدعات في الحقل الديني، ولعل بروز ما أصبح يسمى بالإعلام الديني، كإحدى الموجات الجديدة التي عملت على إفراز نماذج ومسلكيات وقيم وأطر دينية جديدة.

ولا يمكن إغفال عنصر هام في هذه دراسة هذه الظاهرة، هو البروز القوي للحركات الإسلامية التي عملت هي الأخرى على بسط وإشاعة رهانات مضادة وأفكار ومسلكيات وقيم دينية تنحو نحو التصلب والمعيارية والانتهازية والتلفيقية أحيانا أخرى، بحسب اختلاف توجهاتها ومواقفها، وهذه العوامل مشتملة هي ما يسمى بالمقاربة النسقية التي نحتاجها لدراسة معمقة لظاهرة التدين عند المغاربة، وفئة الشباب تحديدا نظرا لثقلهم الديمغرافي، ولأنهم يشكلون كثلة حرجة في المستقبل. وعليه فإننا نعتقد أننا بحاجة إلى أربعة مداخل أساسية لفهم سوسيولوجي لظاهرة التدين الشبابي بمغرب اليوم، تتوزع على المحددات التالية:

أ‌) مدخل سوسيوتاريخي، يرصد تطور الظاهرة الدينية بالمغرب، وفحص مختلف العوامل الكامنة والخفية التي جعلت الإسلام يحافظ على مكانته في المجتمع، في ظل التحديات التي تعرض لها بدءا من مرحلة الإستعمار مرورا بحقبة الاستقلال وما استتبعها من مراحل سوسيوتاريخية بصمت تطور الظاهرة الدينية بالمغرب، والشباب نموذجا.

ب‌) مدخل سوسيومؤسساتي: وهذا المدخل سيساعدنا على فهم ميكانزمات عمل مختلف المؤسسات الرسمية، كحقل إمارة المؤمنين، أو مؤسسة العلماء، أو وزارة الأوقاف، أو من خلال المؤسسات الاجتماعية الأخرى، كالمسجد مثلا، أو الزوايا، أو الحركات الدعوية الإسلامية ومدى ثقة الشباب فيها. وفحص مكونات المعرفة الدينية التي تنقلها للأجيال الصاعدة، ومدى انسجام هذه المكونات أو تنافرها، وهل هي تشكل رؤية موحدة أم لا. إذن بكلمة واحدة إن المدخل السوسيومؤسساتي سيمكننا في فهم جزء من تحولات المشهد الديني ببلادنا، وبشكل خاص عند فئة الشباب.

ت‌)مدخل سوسيوتربوي: ينصب أساسا على فحص الدور الذي قامت به المؤسسات التعليمية، سواء الحديثة أو التقليدية في إنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية، ومدى تماسكها من عدمه، ومدى حضورها في صلب إشكالية التدين المغربي، والشبابي تحديدا (نظرا لحجم المتمدرسين اليوم أكثر من 6 ملايين ونصف، وأكثر 500ألف طالب بالجامعة المغربية)، ونحن لا نحصر دراستنا في المؤسسات الرسمية، بل يمكن تعميمها على بقية المؤسسات التربوية الأخرى، كالحركات الدعوية التي تشكل محاضن لترويج المنتوج الديني بشكل أو بآخر، أو تلك المؤسسات غير المرئية والتي تتواجد في ربوع المملكة، ولكنها بعيدة عن كل رصد علمي ولا أقول رصد أمني.

ث‌) المدخل السوسيوإعلامي: حيث يمكننا هذا المدخل، من فهم جزء من التعقيد والتركيب والتداخل الذي مس الظاهرة الدينية. فالمنتوج الإعلامي الديني الجديد، والذي كان من إفرازات عصر العولمة وثورة التكنولوجيا، وعبر مداخله الأساسية، ومن هم فاعلوه الأساسيون، الذين عملوا على استثمار منتجاته لترويجها في المجتمع العربي والمغربي بشكل خاص، ومدى مساهمة هذا الإعلام في تعزيز الهوية الدينية وضمان التوازن، أم أنه عمل على خلق هويات ممزقة وتشظي في المرجعيات المؤطرة للحقل الديني.

رابعا: خلاصات وتحديات

إذا كانت نتائج المعطيات السابقة، الخاصة بتدين المغاربة أو فئة الشباب تحديدا، والتي لم نأت إلا على بعض من نماذجها، تبين أننا إزاء ظاهرة شديدة التعقيد والتركيب، فإن مما يمكن استخلاصها منها، هو كونها تفسح المجال لقراءتين متعارضتين، الأولى تعتبره تماهيا مع الإسلام المعياري، والأخرى تعتبره نوعا من السلوك الانتهازي الاستراتيجي الذي يعمل على التلفيق والتنميق بين متطلبات العصر ومقتضيات التراث، مما يولد تصدعات على مستوى الهوية الدينية عند عدد كبير من المغاربة، وبشكل خاصة فئاته الشابة. إلا أننا بغض النظر عن الترجيح بين إحدى القراءتين أو الانحياز المعرفي لوجه من أوجهها، فإن نتائج الدراسات السابقة، تسكت عن الأسباب والعوامل الفاعلة في هذا التحول، وهو ما سنحاول، أن نطرح بشأنه، جملة من الفرضيات الأولية، حتى يكون مجالا للفحص والتدقيق الموضوعي، وأيضا بهدف تطوير مقتربات أكثر تفسيرية وأكثر ملاءمة لواقع الظاهرة الدينية عند المجتمع المغربي.

ونحن لا ندعي أية قدرة على تقديم أجوبة، بل على العكس من ذلك، فنحن إنما نسعى لإثارة النقاش العلمي والأكاديمي مع الباحثين المغاربة قصد التوجه نحو جيل جديد من البحوث، ذات التخصصات المعرفية المتعددة والمتنوعة، أو ما يسمى اليوم بمقاربة متعددة التخصصات، وبمنهجية كمية وكيفية في الآن نسفه، لأنه تبين أنه بقدر ما تكون الآليات الكمية مهمة وتقدم لنا خطاطات عن الخرائط الدينية المتعددة والمتشابكة، فإنها تعجز عن تفسير السلوكات والمواقف والاتجاهات والرؤى، والتي تتطلب مقاربة كيفية بالدرجة الأولى. والتي لا تقف عند حدود الوصف بل تتعداها إلى مرحلة الاستشراف والتوقع ورسم الاتجاهات الكبرى للظاهرة الدينية في الألفية الثالثة، رغم ما يكتنف هذه الخطوة من محاذير ومزالق على قدر كبير من الأهمية.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M