القيم الحضارية المغربية إرث عريق يوجب صيانة ثوابته ورعاية مقدساته
عبد الرحمان سعيدي
هوية بريس – الإثنين 07 يوليوز 2014
المغرب أصيل بعروبته وإسلامه أصيل بقيمه وثقافته:
بلاد المغرب، بلادنا، بلد أصيل بعروبته، أصيل بإسلامه، أصيل بقيمه وثقافته، شريف بسبق فضله وعلو قدره.
فقد وطئت أرضه أشراف الناس من الفاتحين منذ القرن الأول، فحملوا إليه هدي النبوة والقرآن وأناروا فضاءه وأريافه بنور العلم و الإيمان، ونشروا في أرجائه المحبة و الإخاء وروح التعاون والإيثار، فعبق بأديم أرضه أريج الإيمان والإسلام، فلزم ذلك أهله عبر الأجيال والأزمان.
فمن تلك الأريجة نشق المغاربة نسيم الأخلاق، التي قد أتم مكارمها صاحب خاتمة الرسالات، عليه أزكى السلام و الصلوات، فوحدت وجدان أهله من عرب وأمازيغ، فاجتمعوا على كلمة سواء ودانوا جميعا بعقيدة التسامح والسلام، التي أساسها الحياء والبر والإحسان والصلة والمحبة والوئام.
فأصاب المغاربة من ذلك النسيم نفحة طيبة سرت في عروقهم، فأحيت قلوبهم بالإيمان وذكت في نفوسهم الشعور بالحرية والكرامة والعزة والأنفة، التي قومتها قواعد الإيمان، من تواضع ومحبة وإخاء و تقدير واحترام، وبر وإحسان…
فأنتج ذلك شخصية مغربية متوازنة في رغباتها، متواضعة في سمتها، عفيفة في أخلاقها، سمحة في معاملاتها، قوية في عزيمتها ، ابتداء من عصر الفاتحين الأطهار، ومرورا بالعلماء الأخيار، من علماء مراكش وفاس وجهابذة الأندلس الأماجد، وانتهاء بهؤلاء الأشاوس الذين دحروا الاستعمار وأجبروه على الانسحاب.
وقد شكل أولئك الأسلاف من المغاربة الأحرار، الذين تربوا تربية المتنسكين الأطهار والمتعففين الأشراف، منذ القرن الثاني أسرة واحدة متميزة عن الأغيار، طاهرة الأعراق، شريفة الأنساب، يرعاها كل من انعقدت له البيعة عبر العصور والأزمان، غير مختلفين ولا متنازعين، يجمعهم مذهب واحد وتوحدهم عقيدة التوحيد، لم يشذ عنهم ولا خالفهم واحد منهم، على مر تلك الأزمان والأجيال، ديدنهم السمع والطاعة لولاة الأمور من حاملي لواء الإيمان وحماة الشريعة الغراء، وذلك طيلة ما يقرب من أربعة عشر قرنا مضت.
وقد ظل المغاربة تحت سقف هذا البيت العريق، بأصالته وقيمه، متمسكين بقيمهم الروحية، متماسكين فيما بينهم رغم اختلاف أصولهم و أعراقهم، متحدين أمام مكايد أعدائهم، تزيدهم المحن والابتلاءات تماسكا وتوثقا وتشبثا بأصولهم وتفاخرا، فقد وحدهم أصل واحد، الذي لولاه ما اجتمعوا ولا اتحدوا.
من مظاهر الحضارة المغربية عبر التاريخ:
1- إمارة المؤمنين:
كانت دائما الراعي لهذا البلد عبر العصور منذ أن أسس المولى إدريس رحمه الله تعالى عام 172هـ الدولة الإدريسية التي تعتبر ثاني دولة إسلامية مستقلة (عن الخلافة الإسلامية) في المغرب الأقصى بعد دولة الأمويين في الأندلس.
فمنذ ذلك الحين انضوى المغاربة إلى هذا اللواء فاجتمعوا تحته وحافظوا على وحدتهم في ظله، وحرصوا على جمع الشمل وصيانة اللحمة ودفع الشقاق.
وتحت هذا اللواء حافظوا على كيان هذا الوطن، وأسسوا حضارة متميزة امتدت معالمها شرقا إلى ليبيا وجنوبا إلى السنغال وشمالا إلى بلاد الأندلس، وصارعوا وقاوموا الاعتداءات الأجنبية ومحاولات الانفلاتات الداخلية، كما ساهموا في دفع الظلم والعدوان عن الإخوة في العقيدة والدين.
فهذا يوسف بن تاشفين رحمه الله يجيب نداء المعتمد بن عباد الذي استغاث به واستنصره، يقول : ” أنا أول منتدِب لنصرة هذا الدين”.
وهكذا بقيت الدولة المغربية في ظل هذا اللواء صرحا شامخا متينا متميزا كامل السيادة، الأمر الذي أهل المغرب لأن يكون منتدبا لنصرة الإسلام في الجزء الجنوبي الغربي لحوض المتوسط، فقد حكم المغاربة أنفسهم بأنفسهم، وتمتعت دولتهم بما يشبه الحكم الذاتي في التعريف المعاصر، وذلك باستقلال سياسي تام عن الخلافة في بغداد وبعدها عن الخلافة العثمانية، من غير أن يخرجوا عن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، فقد أخذوا على أنفسهم أن يخدموا هذا الدين وينصروه.
وقد دام الحال على هذا النحو من الاستقلال والسيادة والالتزام بنصرة الإسلام طيلة ما ينيف عن ثلاثة عشر قرنا من الزمان، وذلك رغم اختلاف الإمارات المتعاقبة، لكنها كانت كلها تجتمع على هذا الأصل وتحافظ على نفس الهوية وتحمل نفس اللواء وتتعهد بنفس العهد وتحافظ على نفس الالتزام.
2- القيم الإسلامية:
إن الأساس الذي استند إليه المغاربة في تكوين كيانهم والذي ضمن لهم الحفاظ على هويتهم و شكل محور حياتهم لم يكن سوى دين الإسلام، فمنه استمدوا مشروعية مرجعيتهم السياسية تلك، وبه ربطوا خيوط علاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية.
فالمغاربة لم يكونوا يوما في منأى عن تعاليم الإسلام، فبه أسسوا هذا المجتمع منذ القرون الأولى لمجيء الإسلام، وهو الذي ضمن وحدتهم فجمع شملهم وقوى لحمتهم، وكون منهم بقوة العقيدة ورسوخها في نفوسهم بنيانا مرصوصا متماسكا متكافلا، جعل منهم رباطا صلبا قويا، صمد في مواجهة الصليبيين طيلة تلك القرون الخالية، فأبطل أطماعهم.
وقد شكل الإسلام محور حياة المغاربة في جميع معايشهم، فمن هديه استلهموا مناهجهم في مختلف شؤون الحياة الفردية والجماعية، العامة والخاصة، وعلى أحكامه وقوانينه بنوا معاملاتهم الاجتماعية والاقتصادية، تجلت في الأعراف والعادات المستمد من الشريعة، والتي تبلورت في قواعد فقهية شكلت أساس المذهب المالكي الذي عرف به المغاربة بالخصوص، حيث ظهرت مدارس وجامعات تدرس أصوله وتبحث في فروعه، وأوجدت هذه الجامعات والمدارس جهابذة من العلماء والفقهاء في الفقه والأصول والتفسير والحديث والسيرة، كما في الفلسفة و الرياضيات وغيرها من علوم الأحياء، فكان المغرب منارة العلم في الغرب الإسلامي، وذاع صيت المغاربة في القضاء والفكر وعلوم الشريعة كلها، حتى بلغ أقصى مشارق بلاد الإسلام، فكانوا قدوة وأساتذة للعالمين، تركوا تراثا علميا وثقافيا خالدا فريدا ومتميزا.
وقد رسخت القيم الإسلامية في المجتمع المغربي، فتجلت بشكل كبير وجلي في المظهر الاجتماعي، إذ من الإسلام أخذ المغاربة أسماءهم، وعلى قواعده أقاموا العلاقات الأسرية التي تجلت في أعراف مشهورة ومعلومة، وحافظوا على الأنساب والصلات، وبشعائره يستقبلون المولود الجديد ويودعون من فارق الحياة إلى دار البقاء، وبهذه الشعائر يبدءون أعمالهم وينظمون أوقاتهم، ويحيون مواسمهم المختلفة.
كما أوجدوا مؤسسات اجتماعية لتقوية روح التعاون والتكافل، فلا تخلوا حاضرة ولا قرية من أملاك الأوقاف التي كانت تسبل منفعتها للفقراء والمساكين والمعوزين وأبناء السبيل، بل إن المرافق العمومية كلها كالمساجد والمدارس والقناطر والمقابر والطرق وغيرها كانت من هذا القبيل.
وإن التمسك بأسس القيم الإسلامية هو الذي صقل الشخصية المغربية حتى قويت بالإيمان ودانت لرب العالمين وتشبعت بروح العزة والحرية والكرامة والحياء والحشمة والإخاء والتكافل والإيثار، وحافظت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي القيم التي ضمنت للمغرب وحدته وتماسكه عبر كل تلك القرون.
ولا شك أن الأسس السابقة كانت أهم العوامل لنمو حركة اقتصادية نشيطة، وظهور مراكز تجارية كانت منبعا لهذه الحركة، التي أدت إلى ربط العلاقات التجارية بين المغرب وغيره من البلدان المجاورة، وساهمت هذه العلاقات في إدخال الإشعاع الحضاري المغربي الإسلامي إلى تلك البلاد، خاصة السنغال ومالي والنيجر.
ولا يجب أن ننسى المظهر الفني للحضارة المغربية الذي كان ثمرة جهود المغاربة، التي استقوها من ينابيع القيم السابقة، فقد اهتموا كثيرا بالفن المعماري، وبلغوا فيه مبلغا من البراعة والتمييز لم يبلغه غيرهم.
مخالفة القيم الحضارية للأمة شذوذ لا يقدح في أصلها:
فإن خالف بعض أبناء هذا البيت العريق تلك القيم، التي على أساسها أقيم صرحه الشامخ وقويت الصلة بين أفراده، فذلك شذوذ يوجب على العقلاء من بقية أبنائه، الحريصين على صون عرضه وكرامته، أن يحذروا غيرهم مما قد ينتج عنه من المفاسد والشقاق الذي قد يقوض ما بناه الأسلاف وشيدوه من صرح القيم والثقافة والأخلاق، و يذكروا أهل الشذوذ والشرود بأصل طينتهم وصحة أصول أسلافهم، التي تمردوا عنها، ويجتهدوا في إقناعهم بما يزيل عنهم الشبه ويظهر لهم الحق ويردهم إلى جادة الصواب.
محاورة المتطرفين من المخالفين للثوابت فرض على العلماء وأهل الرأي والفكر:
فهذا شأن العلماء المتخصصين الذين يتعين عليهم أن يجادلوا أولئك بما تقتضيه قواعد الشريعة و بما يزيل الإلتباس والشبه ويظهر الحق و الصواب، من غير قذف ولاتجريح ولا تفسيق ولا تكفير، منعا لكل جدال عقيم قد يذكي الصراع و يوسع الهوة ولا يفضي إلى القصد الجليل، فهذا علي رضي الله عنه لما سئل عن حال أهل الجمل وصفين قال: إخواننا بغوا علينا.
وإن العمل بقواعد الشريعة في محاورة كل من يحاول الطعن في الثوابت والمقدسات، في إطار مؤسسات الدولة الحامية للدين، هو أنجع وسيلة لإظهار الحق وصيانة الثوابت ودرء المفاسد والفتن.
وعلى الجميع أن يعلم أن هذا البيت بيت شريف بأعراقه، جليل بقدره، متماسك اللحمة، قوي الأسس والبنيان، فعلى الجميع أن يحافظ على هذا الشرف ويصون هذا العرض ويراعي هذا القدر ويقوي هذه اللحمة ويذود عن هذه الأسس وهذا البنيان، لعلنا ننال قسطا من الشرف والفضل الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» صحيح مسلم كتاب الإمارة.
فالمراد بالغرب على الراجح هو المغرب، كما صرح به في حديث آخر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضا، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» مستخرج أبي عوانة.
فعلينا، لنحصل على هذا الشرف، أن نأخذ بما أخذ به الأسلاف، حيث اجتمعوا على منهج واحد فوحدهم وجمع كلمتهم فحصل لهم فضل السبق في البناء الحضاري الإنساني والكوني، فاستحقوا بذلك هذا الشرف الذي شهد لهم به العدو قبل الصديق والبعيد قبل القريب.