موعدنا العشر فهل سنلتقي؟

14 يوليو 2014 19:03
موعدنا العشر فهل سنلتقي؟

موعدنا العشر فهل سنلتقي؟

د. رشيد نافع

هوية بريس – الإثنين 14 يوليوز 2014

من رحمة الله بالعباد -وهو الغني عنهم- أن جعل أفضل أيام رمضان آخره إذ النفوس تنشط عند قرب النهاية، وتستدرك ما فاتها رغبةً في التعويض، والعشر الأواخر هي خاتمة مسك رمضان ونحن على أبوابها، وهي كواسطة العقد للشهر لما لها من المزايا والفضائل، التي ليست لغيرها ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفي بها احتفاءً عظيماً، ويعظمها تعظيماً جليلاً، وما ذاك إلا لعلمه بفضلها وعظيم منزلتها عند الله تعالى؛ وهو أعلم الخلق بالله وبشرعه المطهر.

نلتقي هذا اليوم على أعتاب العشر الأخيرة من رمضان! نلتقي ونحن نتذكّر ذلك الفرح الذي عم قلوبنا بالأمس بلقاء هذا الشهر، واليوم نقف على أعتاب عشره الأخيرة، وهو ماضٍ بصفحاتنا، راحل بأعمالنا، فماذا يا ترى لدينا في أيام الوداع؟ إن المتأمّل في هذا الشهر يجد دون تروٍّ أن هناك حكمة عظيمة من وراء شرعيته، لقد جعله الله تعالى على قسمين، عشرون من أيامه جعلها الله تعالى فرصة لأخذ مزيد من الطاعة، وترقى بنا خلال هذه العشرين في فضائل الأعمال التي جاءت في لحاف البشائر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعل الله تعالى هناك فرصة مضاعفة من فاته شيء من الفضل، جعل الله تعالى هذه العشر الأخيرة بمثابة مسك الختام للوداع، واختصها الله تعالى بليلة القدر، تلك الليلة التي تعدل ثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر في تاريخ الإنسان.

لن آتي بجديد لو قلت عن رمضان أنه ربيع العام وصفوة الشهور وبهجة الزمان، فذلك معلوم بداهة دلت عليه نصوص الوحي ووقائع الدهر وأحوال الناس، إقبالاً وعبادة والتزاماً، إلا أن مواسم الطاعات والنفحات يفضل بعضها بعضاً، ويسمو بعض الزمان على بعض، وقد تقرر بالاستقراء عند العلماء أن الأوقات الفاضـلة والأزمان المباركة أواخرها أفضل من اوائلها، فيوم الجمعة أعظم أيام الأسبوع، لكن أبرك ساعاته وأرجاه قبولاً للدعاء فيه آخر ساعة منه، وأفضل الليل ثلثه الآخر، والسحر وهو السدس الآخر من الليل منَّوهٌ بشأنه.

وهكذا فليس رمضان ببدع في ذلـك، فرمضان موسم إلا أن عشره الأخيرة هي صفوة الشهر، والعبرة بالخواتيم وهذه العشر خاتمة الشهر ودرَّته، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها، فكان يشوب العشرين بمنام وقيام، وأما هذه الليالي فيحييها كلها صلاة وتلاوة وذكراً، وفي الحديث: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره” رواه مسلم.

وتصف أم المؤمنين عائشة حاله فتقول: “كان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله“، ومن دقيق عنايته بها انقطاعه فيها عن دنيا الناس للاعتكاف، فمذ هاجر إلى المدينة إلى أن توفاه الله سبحانه ما ترك الاعتكاف، بل لتأكد هذه السنَة قضاها في شوال لمَّا لم يعتكف سنة في رمضان، ومن المؤسف جداً غفلتنا عن غنائم هذا الشهر وانشغالنا عن فضائل هذه الليالي، ولا أدل على ذلك من زحام الأسواق والطرق بالغادين الرائحين في تضييعٍ لزهرة من العمر إن ذهبت قد تعود أو لا

ها هي العشر الأواخر من رمضان على الأبواب، ها هي خلاصة رمضان، وزبدة رمضان، وتاج رمضان قد قدمت.

فيا ترى كيف نستقبلها؟

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر الأواخر بعدة أعمال.

ففي الصحيحين من حديث عائشة: “كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله“، ولفظ لمسلم: “أحيا ليله وأيقظ أهله“، ولها عند مسلم: “كان رسول الله يجتهد في العشر ما لا يجتهد غي غيرها“.

ولها في الصحيحين: “أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله“.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: “نهى رسول الله عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟

قال: وأيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني“.

فمن خلال هذه الأحاديث نرى أن النبي كان يجتهد بالأعمال التالية:

1- أيقاظ أهله: وما ذاك إلا شفقة ورحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في هذه الليالي العشر.

2- إحياء الليل: فإنه إذا كان رمضان كان يقوم وينام، حتى إذا ما دخلت العشر الأواخر أحيا الليل كله أو جله، فقد أخرج أصحاب السنن بإسناد صحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه: “صمنا مع رسول الله في رمضان فلم يقم بنا شيئا منه حتى بقي سبع ليال، فقام بنا السابعة حتى مضى نحو من ثلث الليل، ثم كانت التي تليها… حتى كانت الثالثة فجمع أهله واجتمع الناس فقام حتى خشينا الفلاح. فقلت: وما الفلاح؟ قال: السحور”.

3- شد المئزر: والمراد به اعتزال النساء كما فسره سفيان الثوري وغيره.

4- الاعتكاف: وهو لزوم المسجد للعبادة وتفريغ القلب للتفكر والاعتبار.

5- الوصال: وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل شيئا أبدا لمدة أيام وهذا من خصائصه. ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم، فقيل: إنك تواصل، فقال: “إني لست مثلكم إني أُطعم وأُسقى“، ولهما من حديث أبي هريرة “وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني“، وعند مسلم من حديث أنس “أن النبي نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا، واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: “لو تأخر لزدتكم” كالمنكل لهم. وفي لفظ عند مسلم “لو مد الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم..”.

فمن هذه الأحاديث نعلم أن الرسول كان يواصل الصيام في العشر الأواخر بدليل أنهم رأوا الهلال وهذا لا يكون إلا في آخر الشهر. وأيضا شدة حرص الصحابة على الاقتداء به. وأيضا أن المراد بالإطعام والسقاء ليس هو طعام وسقاء حقيقي بل المراد ما يغذيه الله لنبيه من معارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب ونعيم الروح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمن.

ما أحوجنا اليوم في ظل هذه العشر وقبل الوداع أن نحسن الإقبال على الله تعالى، وأن نستدرك أيام التفريط، وأن نعوّض ما فات، أتراني أطلب منكم مستحيلاً حين أقول من الواجب على الفطن العاقل اليوم في ظل هذه العشر أن يحسن ملازمة الطاعة، وأن يتكرّم على نفسه بالورود إلى حياض المكارم ولو لهذه اللحظات الغالية، وكيف أطلب من نفسي وإياك مستحيلاً وهذه العشر لا تأتي في العام إلا وهله.

إنني أريد من نفسي ومنك أن نتشبه بحال السابقين، وأولى هؤلاء السابقين نبيك صلى الله عليه وسلم حين تخبر زوجه عائشة رضي الله تعالى عنها فتقول: “وجد وشد المئزر“، وكان علي رضي الله عنه يقول: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان” رواه الترمذي وصححه الألباني؛ فها هو رسولنا عليه الصلاة والسلام يعلم ما في هذه العشر فيتعبّد فيها ما لا يتعبّد في غيرها.

إن أول صورة تتراءى في الذهن لاجتهاد هذا النبي الكريم هي صورة إقباله صلى الله عليه وسلم على الصلاة، واهتمامه وتعلقه بها تلك صورة من حافظ عليها واهتم بها لقي في قلبه عوالم الأرواح الحقيقية، ولما لا تكون كذلك وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: لا يتوضأ أحدكم فيحسن الوضوء ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يبشبش أهل الغائب بطلعته” رواه ابن خزيمه وصححه الألباني، وبوب الإمام ابن خزيمة على هذا الحديث فقال: “باب ذكر فرح الربّ تعالى بمشي عبده متوضأ”، وفي حديث ميثم رجل من أصحاب النبي صلى الله علي وسلم قال: “بلغني أن الملك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد، فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل إلى منزله” رواه ابن أبي عاصم، وأبو نعيم والمنذري وصححه الألباني.

فأي مواقف تقفها يا عبد الله في هذه العشر؟ وإذا كان الله تعالى يعجب منك، ويتبشبش إليك، والملك يصحبك برايته فماذا تنتظر غير النعيم العظيم جعلنا الله تعالى من أهله؟

إن الفرصة تبدو كبيرة في ملازمة محراب المسجد اليوم بالذات في مثل هذه العشر، حرصك على صلاة الجماعة مع الإمام، وكثرة النافلة المقيدة والمطلقة، سر من أسرار الموفقين في هذه الأيام، أما الليل فحدث عنه حديث المحبين، وصدق من قال: دقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة ! يكفي أن الله تعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه ينزل في ثلثه الأخير إلى السماء الدنيا فيقول: “هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟” متفق عليه.

أدعوكم دعاء المحب لحبيبه، دعاء الناصح لأخيه، أدعوكم أن تعتبروا هذه العشر الفرصة التي قد لا تعود، والحياة التي قد لا تتكرر مرة أخرى.. كونوا إيجابيين، وانظروا إلى الفرص بعين المتسابق التي يتمنى أن تلوح له؛ ضاعفوا الاجتهاد في هذه الليالي.

يا أيها الراقـد كـم ترقـد***قم يا حبيبا قد دنا الموعدُ

وخذ من الليل وساعاته***حظا إذا هــجع الـرُّقَـــُد

أكثروا من الذكر… أكثروا من تلاوة القرآن… أكثروا من الصلاة، أكثروا من الصدقات، أكثروا من تفطير الصائمين، ففي صحيح مسلم: “أن رسول الله كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها“.

وفي الختام كأني بالعشر تقول:

أيها المسلمون: إني لم أكن في يوم من الأيام وقتاً للنوم والبطالة وملء البطون والنوم والكسل إلا في هذه الأزمنة المتأخرة..

فهلا رجعتم إلى تاريخ أسلافكم العظام لتروا ما صنعوا في الأيام التي قبلي… فلا تنسوا معركة بدر، وفتح مكة، واليرموك وحطين، إنها بطولات تحققت في رمضان.. ولم تكن هذه البطولات والانتصارات لتتحقق في أرض الواقع، لو لا أنها تحققت أولاً في نفوس أولئك المؤمنين، على أهوائهم وشهواتهم فمتى انتصرتم أيها المسلمون اليوم على أنفسكم وأهوائكم، نصركم الله على أعدائكم، وعاد لكم عزكم ومجدكم المسلوب.

ولا ينبغي أن ننسى في هذه العشر أن لنا إخواناً في فلسطين والعدو قد أحاط بهم وتربص، ونزلت بهم نوازل عظيمة، فلا ينبغي أن ننساهم ولو بدعاء خالص صادر من قلب مقبل على الله تعالى، وصدقة نكون نحن أول من يغنم أجرها، ولا ننسى كذلك الفقراء والمساكين خاصة وأن العيد مقبل عليهم.

أسأل الله تعالى التوفيق في هذه العشر، وحسن استغلال الأوقات، والتجاوز عن السيئات، وإقالة العثرات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

سائلاً الله تعالى لك الهداية والتوفيق والسداد.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M