مَرْسـى آسفي عَبْــرَ التـاريــخ (ح2)

15 يوليو 2014 18:22
مَرْسـى آسفي عَبْــرَ التـاريــخ (ح2)

مَرْسـى آسفي عَبْــرَ التـاريــخ (ح2)

إعداد: عبد الله النملي

هوية بريس – الثلاثاء 15 يوليوز 2014

“إذا كان حضور الصحراء في التطور الحضاري للمغرب قد حظي ولا يزال باهتمام الدارسين والباحثين، فإن دَوري الجبل والبحر ظلا بمنأى عن السبر والتناول العميقين. فباستثناء قلة من الدراسات التي تناولت سيولة الحركة التجارية في بعض المدن المرفئية، لا نكاد نعثر على أعمال جادة تتيح فرصة توضيح مساهمة البحر في تخصيب الحياة السياسية والاجتماعية والذهنية للمغاربة عبر مختلف الحقب والعصور (..) لقد ارتبط تاريخ المغرب منذ أقدم حقبه وعصوره بالبحر، ولهذا السبب بالذات، فإن أية قراءة لهذا التاريخ لا تستحضر العمق البحري للمغرب تعد ناقصة إن لم تكن غير ذات جدوى..”، الحسين بولقطيب “المغرب والبحر خلال العصر الوسيط”.

…………………………

وقبل التوجه إلى العاصمة السياسية مراكش كان المبعوثون البريطانيون كباقي السفراء الأجانب ينزلون بآسفي، وهكذا أصبحت آسفي ميناء دبلوماسيا للدولة السعدية. كما تَعَرّف عليها التجار الإنجليز قديما إلى أن صاروا اختصاصيين في شؤونها. حيث ظهر التأثير العمراني والتجاري بالمدينة، خصوصا عندما أقام الإنجليز شرق قصر البحر مركزا تجاريا انجليزيا مبنيا بالحجارة والخشب والقرميط على الطريقة الإنجليزية في ساحة مولاي يوسف حاليا، هذه البناية الأثرية تم تدميرها في بداية الثمانينات من القرن العشرين.

ومن جملة البضائع التي كان الإنجليز يأتون بها، الأسلحة والرماح وتجهيزات لصناعة السفن، وكذا بعض المعادن والأقمشة. ومن أهم المواد التي كانوا يقتنونها السكر والتمر واللوز. وكانت أول بعثة ابريطانية قدمت إلى ميناء آسفي سنة 1551م بقيادة طوماس ويندم Thomas windham، تلتها ثانية في السنة الموالية، بقيادته أيضا. وكانت البعثة الثانية مكونة من ثلاثة مراكب ومئة وعشرين شخصا (..) وبعد إفراغ كميات من القماش والعاج والعنبر والفحم المعدني، انتقلت إلى أكادير لإفراغ الباقي(16).

وفي سنة 1577م قام الرحالة الكبير فرانسيس درييك Francis Drake بأول جولة له حول العالم، فتوقف بآسفي خلال شهر دجنبر بأسطول متكون من خمس سفن، وأزيد من مئة وخمسين شخصا (..) وفي شتنبر من سنة 1589م أَرْسَت ثلاث بواخر بقيادة هنري روبرتس Henry Roberts الذي توجه إلى مراكش رفقة بعض التجار الذين كانوا يقيمون بالمغرب، مثل ريتشرد ايفرز Richard Evars وإدوارد سالكوت Edwaed Salcot (..) وفي سنة 1605م قدم أنثوني شرلي Anthony Sherly في سفارة لحساب ملك النمسا لدى السلطان أبي فارس، وأقام بآسفي مدة خمسة أشهر رفقة ثلاثة عشر شخصا(17).

 وقام جون هاريسن John Harrisson بعدد من الزيارات لأسباب مختلفة. كانت أول زيارة له في يونيو 1610م في مهمة لدى مولاي زيدان بهدف الإفراج عن مواطن انجليزي من جهة، وضمان الامتيازات التجارية من جهة أخرى. وكانت زيارته الثانية في أبريل من السنة الموالية، رافقه فيها المبعوث المغربي لدى الملك البريطاني وممثل المغرب بهولندا، سمؤال بلاش. وفي أبريل من سنة 1614م وصل صحبة سمؤال هذا في زيارة أخرى بهدف إقناع مولاي زيدان بالدخول في تحالف ابريطاني هولندي ضد اسبانيا (..). وفي زيارته الرابعة في دجنبر 1616م اضطر إلى المكوث فوق باخرته بسبب تأزم العلاقات آنذاك، فلم يطأ قدمه أرض آسفي، حيث أخذ يتنقل من باخرة انجليزية إلى أخرى طيلة ستة عشر شهرا(18). وفي سنة 1630م نزل هاريسن بآسفي قادما من سلا لتسليم رسالة من تشارلز الأول إلى مولاي عبد الملك(19).

وفي 19 شتنبر 1637م أبْحَرت الباخرة البريطانية “الفهد” The Leopard من ميناء آسفي بعد إرسائها به سبعة وعشرين يوما، وكان على متنها السفير روبرت بلييك والسفير المغربي جودر بن عبد الله، اللذان كانا مكلفين بالسهر على انجاز اتفاقية تم إبرامها بين محمد الشيخ الأصغر وتشارلز الأول سنة 1638م، ومن بين الأمور المنصوص عليها في هذه الاتفاقية السماح بإنشاء شركة تجارية بريطانية بمراكش وآسفي، أو أي موقع آخر عند الضرورة. وتم بالفعل إنشاء الشركة المغربية The Barbary Company مباشرة بعد ذلك(20).

وقد نجح الإنجليز في احتكار التجارة في آسفي، حيث أجّر السلطان محمد الشيخ مداخيل آسفي لتاجر انجليزي هو Robert Blake سنة 1636م، وحاول تركيز كل التجارة الأوربية فيها. وقد استدعى اتخاذ الترتيبات اللازمة لتنفيذ الاتفاق، توجيه سفارة مغربية إلى بريطانيا، أسفرت عن إصدار المجلس الاستشاري البريطاني قرارا يلزم السفن الإنجليزية بأن ترسو في آسفي أول ما تصل إلى السواحل المغربية، وأن تقضي بالمرسى المذكور 20 يوما، فإن لم تنفذ بضائعها، كان من حقها استعمال مراسي أخرى. لكن محاولة الإنجليز احتكار التجارة بآسفي انتهت بالفشل، وعادت الدول الأوربية البحرية إلى التعامل مع آسفي (..). وفي هذه الفترة وصل إلى المدينة التاجر الهولندي Adriaem Matham وترك في مذكراته وصفا دقيقا لمعاملاته في آسفي(21).

تنظيم جمــركي إداري بميناء آسفــــي

وإذا كانت مدينة آسفي في منتصف القرن 17 أهم الموانئ المغربية التي تضم بيت مال المسلمين لتقديم أجور العساكر، كما كان التجار يحلون بها عند قدومهم إلى المغرب، فإنها أصبحت في حاجة ماسة إلى مراكز جمركية قارة بالمدينـة.

و قد ارتبط بهذه المرسى نشاط جمركي كبير اشتهر بـ”الديوانة”، كان يتصل ب دار الديوانة أو مركز الديوانة، ويسميها أحد الأوربيين “دار النصارى” وهي بحسب وصفه، تتخذ شكل فندق كبير، يتكلف أحد أعوان القايد من المخازنية، بفتحه في كل صباح وغلقه في كل مساء، وكل دولة لها علاقات تجارية مع ميناء آسفي، تمتلك به محلا، فيه يسكن ويعيش ممثلوها من الفرنسيين والإنجليز والهولنديين وغيرهم، وكذا المغامرين النشطاء في ميدان التجارة(22).

وفي هذا الصدد يقول ابراهيم حركات ( أصبح آسفي أهم مركز جمركي ابتداءا من سنة 1653م لجباية الضرائب، وكان بميناء المدينة تنظيم جمركي إداري أكثر إتقانا من المراكز الجمركية الداخلية، فهناك رئيسي الأمن ومساعدوه المباشرون، كما يوجد عمال يتقاضون رواتب قارة، ومهمتهم شحن البضائع وتفريغها ونقلها إلى الفنادق التي يقيم فيها التجار الأجانب).

الدولة العلوية ومحاولات تطوير مرسى آسفي

و خلال القرن الثامن عشر أخذ الميناء ينتعش بفضل اعتناء الأمير مولاي عبد الله به، وقد كان يومئذ خليفة بمراكش، وتواصل الانتعاش والازدهار خلال القرن التاسع عشر، وقد زاد السلطان في تعميرها وإصلاح شؤونها، وأخذت آسفي تستقطب شخصيات علمية وأدبية ذات الشهرة الكبيرة من أقطار أوربا(23).

ومن فرط اهتمام سيدي محمد بن عبد الله بآسفي وعزمه على تطوير مينائها، جلب مهندسا انجليزيا اسمه جيمس كريك الذي استقر بآسفي، وقام بدراسات وأبحاث لتشييد رصيف لرسو السفن بها، لكن أعماله فشلت رغم رغبة السلطان الأكيدة في جعل آسفي من أحدث موانئ المغربية.

ومع ازدياد حجم حركة التجارة المغربية مع القوى الأوربية في القرن التاسع عشر وبعده، تصاعد الضغط الأجنبي على المخزن المركزي حتى يباشر إصلاحات وتوسيعات بالموانئ الأطلنتية، ومنها ميناء آسفي، وقد ذكرت تقارير القناصل الأجانب أن مرسى آسفي، كانت تشكو (..) من عدم كفاية قوارب الشحن والإفراغ ومنها تقرير للسفير الفرنسي، مؤرخ في العاشر من يونيه 1890م، ورد فيه أن عددها لم يكن يتجاوز ستة عشر قاربا(24). وقد أجابهم المخزن المركزي بصنع مزيد منها(25)، وأكثر من ذلك باشر تشييد فرضة أي ورف wharf، تربط شاطئ المرسى بالسفن الراسية داخل البحر المقابل، وقد انتهى العمل منها سنة 1908م، لكن موج البحر حطمها، ثم عاود السلطان المولى عبد الحفيظ تشييدها سنة 1910م، وعهد بإنجازها إلى شركة فرنسية باسم “الكمبانية المغربية compagnie marocaine” فشيدت ورفا جديدا، في شكل جسر معدني ضيق passerelle، بلغ طوله مائتي وثمانية وعشرين مترا، بحيث تجاوز خط مكسر الموج ligne des brisants، وبفضله أصبح بالإمكان شحن السفن أو إفراغها من أو في القوارب، عن طريق آلة رفع عصرية le treuil ركبت فوقه، لكن العواصف البحرية لم تلبث أن عبثت به كسابقه، وكسرت جزءا منه، لتعطله نهائيا سنة 1912م(26) ثم أعيد ترميمه بتوصيله بجسر إلى اليابس(27). وفي سنة 1926م كان انهياره التام بسبب عاصفة بحرية عنيفة(28). الأمر الذي دفع بسلطات الحماية الفرنسية إلى التخلي عن هذا الميناء العتيق، والتحول إلى الميناء الجديد المجاور، التي كانت الأشغال فيه قد قطعت شوطا مهما(29).

وحتى عشية الحماية الفرنسية كانت السفن تقصد المرسى القديمة لآسفي، من موانئ كبيرة معروفة بأوربا والعالم، بقوة حركتها التجارية واتساع علاقاتها ومعاملاتها التجارية، ومنها على سبيل المثال نابولي وجنوة ومارسيليا وبوردو ولوهافر ودانكرك وأنمفرس وروتردام وأمستردام وبريم وهامبورغ ولندن ونيوكاستيل ولفربول ومن الجزر الخالدات وغيرها. كما أن مرسى آسفي وبحكم نشاطها التجاري الواسع مع الخارج، فإنها كانت مستقرا لعدد من الشركات الملاحية، قارب عددها العشرة عشية الإستعمار الفرنسي(30).

ما يشبـــه الختــــم:

وإذا كانت بعض المراسي والموانئ لها إسهامها الكبير في بناء بعض المدن، فكذلك الشأن لمرسى آسفي التي اضطلعت بأدوار بارزة في تاريخ المغرب لازالت حتى الآن نسيا منسيا. ويمكن القول بأن مدينة آسفي، تدين في وجودها واستمراريتها منذ غابر الأزمان وحتى اليوم، وفيما عرفته وتعرفه حتى اليوم من ازدهار تجاري وإشعاع اقتصادي وتوسع عمراني، إلى ميناءها وما يشهده قديما وحديثا وراهنا، من حركات وضع ووسق تجاريين(31).

 وكانت وزارة الثقافة قد أعلنت في يوليوز 2013 عن اكتشاف موقع اركيولوجي في قاع البحر بآسفي يعود للعهد السعدي. وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن ما نجهله عن النشاط البحري لميناء آسفي قديما، أكبر بكثير مما نعلمه. وقد سبق للأستاذ محمد أبو طالب في عرض له بالملتقى الفكري الأول لآسفي سنة 1988 تحت عنوان “تحركات ابريطانية في ميناء آسفي” أن تقدم باقتراحين في هذا الصدد: أولهما العمل على إنشاء معهد للدراسات البحرية بآسفي يكلف بمهمة وضع تاريخ الملاحة المغربية، وثانيهما القيام بعمليات تنقيبية للبحث عن بقايا البواخر القديمة التي لم تتمكن من مغادرة ميناء آسفي، عسى أن يُسْفر ذلك عن توضيحات لجوانب وكنوز مغمورة من تاريخ آسفي والمغرب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامـــــــش المقال الجزء الثاني:

 (16) محمد أبوطالب، “تحركات بريطانية في ميناء آسفي”، آسفي دراسات تاريخية وحضارية؛ أعمال الملتقى الفكري الأول لمدينة آسفي؛ 23-25 يونيو 1988، (ص:83).

(17) نفسه، (ص:85-86).

(18) نفسه، (ص:86).

(19) نفسه، (ص:87).

(20) نفسه، (ص:90-91).

(21) عبد اللطيف الشاذلي “مرسى آسفي في العصر الحديث” آسفي دراسات تاريخية وحضارية؛ أعمال الملتقى الفكري الأول لمدينة آسفي؛ 23-25 يونيو 1988، (ص:29).

(22) إبراهيم كريدية، “المرسى القديمة”، (ص:18).

(23) أحمد بنجلون، “آسفي بين الأمس واليوم”، آسفي دراسات تاريخية وحضارية؛ أعمال الملتقى الفكري الأول لمدينة آسفي؛ 23-25 يونيو 1988، (ص:43).

(24) إبراهيم كريدية، “بصمات المحيط الأطلسي”، (ص:14)، نقلا عن albert castellin , le port de safi, revue : notre maroc, numéro spécial sur safi, mai 1949, p. 25

(25) نفسه، Antona la region des Abda,p.163, et timoule, p.157 et 158

(26) Ibid.p.158

(27) Ibid

(28) Albert castellin,p.26

(29) إبراهيم كريدية، “بصمات المحيط الأطلسي”، (ص:15).

(30) إبراهيم كريدية، “المرسى القديمة”، (ص:36).

(31) نفسه، (ص:09).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M