الاعتدال في نقد الرجال.. (ح2)

15 أغسطس 2014 20:55
الاعتدال في نقد الرجال.. (ح2)

الاعتدال في نقد الرجال.. (ح2)

ذ. حماد القباج

هوية بريس – الجمعة 15 غشت 2014

آداب النقاش وضوابطه

بعد تحديد موضوع البحث ومجال النقاش؛ لا بد أن نحدد آدابه وضوابطه الأخلاقية(1).

وجماع هذه الضوابط: اجتناب الأحكام الجاهزة وأسبابها وتفادي العنف اللفظي.

الحكم الجاهز؛ هو نتيجة استقرت في مخيلة أو ظن أو يقين صاحبها، بناء على مقدمة أو مقدمات غير صحيحة، أو بناء على هدف أو أهداف غير بريئة.

ومثاله في موضوعنا:

أن يظن طالب علم أن العالم الفلاني خارج عن السنة بسبب تبنيه لأقوال معينة؛ بناء على أن من قال بتلك الأقوال؛ خارج عن السنة.

والحال أن المقدمة غير صحيحة؛ بمعنى أن تبني العالم لتلك الأقوال لا تجعل ذلك الحكم عليه صحيحا.

تطبيق للمثال:

الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عالم كبير من علماء أهل السنة المنتسبين لمدرسة أهل الحديث؛ وهو محدث حافظ فقيه علامة مجتهد متفنن.

ومع منزلته العلمية؛ أخذ بأقوال في أبواب من المعتقد تخالف الحق.

وقد نبه على بعضها؛ صاحب الفضيلة العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى؛ في تعليقه على المجلدات الثلاثة الأولى من كتاب “فتح الباري” للحافظ، ثم أكمل عمله المفيد أحد طلبته؛ وهو الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل وفقه الله تعالى في كتاب سماه: “التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري”.

وقد كان ذلك بطلب ملح من سماحة الشيخ بن باز.

ومن عبارات المؤلف في حق الحافظ: 

“وعلى كل حال فالله أسأل أن يعفو عنه وأن يبدل سيئاته حسنات ويعظم له المثوبة والأجر ويرفع درجته ويمحو حوبته”.

وقال: “وقد عزم علي سماحته بالشروع في ذلك ولكنني هبت وأحجمت عنه في أول الأمر لعظم الفتح وجلالته ومكانة الحافظ وعلمه”.

وقال: “أسأل المولى جل وعلا أن يعظم للأئمة البخاري وابن حجر وابن باز أجرا ويرفع  لنا ولهم في الدارين ذكرا ويورثنا معهم المنازل العلا من الجنة”(2).

وقد قدم للكتاب الأئمة ابن باز وابن عثيمين وابن منيع والفوزان وغيرهم.

هذا سلوك العلماء المعتدلين ومن سار على دربهم من طلبة العلم النجباء المهتدين.

أما الغلاة المتطرفون المتنطعون؛ فقادهم الغلو إلى الحكم على الحافظ بالخروج من السنة، وعلى كتابه؛ بوجوب الإحراق!

تتمة الكلام في الحكم الجاهز:

قد يصدر أحدهم ذلك النوع من الأحكام (الحكم الجاهز) دون مقدمات؛ وإنما لأهداف شريرة يتغياها؛ كاستهدافه شخصا لإسقاطه لكونه ينافسه أو يهدد مصالحه ونفوذه أو نحو ذلك من الأسباب التي ترتبط بالعامل الأخلاقي (حسد أو تنافس على شهرة..)، أو العامل السياسي (كون المستهدف يخالف توجها سياسيا ..).

وبناء النقد والرد، على الأحكام الجاهزة؛ كما أنه من مظاهر افتقاد الضوابط الأخلاقية؛ فإنه يؤدي إلى الإخلال بالضوابط العلمية التي تلزم أصحابها ببناء الأحكام على الأهلية أولا وعلى التحري والبحث العلمي المنهجي ثانيا.

تحرير معنى الوصف بالحركية والإخوانية:

ومن إفرازات تبني سلوك إصدار الأحكام الجاهزة؛ إطلاق أوصاف غير محررة المعنى؛ وهو باب واسع من أبواب التلبيس والتدليس، كما فعل أعداء الأمة بوصف الإرهاب ..

ومثاله في موضوعنا الوصف ب: الحركي والإخواني ..

ومن المستغربات؛ أنك ترى البعض بمجرد أن يقال له: فلان حركي أو إخواني؛ يسارع إلى عده من المنحرفين الضالين دون تحرير معنى الوصف وحدوده وما يترتب عليه، ودون النظر في أهلية من أَطلق عليه الوصف ومراده!

من الواضح أن الذين يطلقون هذه الأوصاف العائمة؛ يعنون بالحركي من ينتسب إلى الحركة الإسلامية؛ وهنا نضطر لطرح أسئلة شرعية مهمة:

عن أي الحركات الإسلامية يتحدثون؟

ومتى كان الانتساب لحركة إسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة؛ سببا للقدح؟

وهل يعتبر التعاطف والتعاون مع حركة من الحركات الإسلامية أمرا محرما شرعا؟

وهل يلزم من ذلك التعاون؛ تبني كل أطروحات الحركة أو تصوراتها؟

قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:

“الحركة الإسلامية التي نشطت في أول هذا القرن وفي آخر القرن السابق؛ تبشر بخير وهي بحمد الله حركة منتشرة في أرجاء المعمورة وهي في مزيد وتقدم.

والواجب على المسلمين دعمها ومساندتها والتعاون مع القائمين بها، ولا شك أن القائمين بها يجب أن يدعموا ويساعدوا وأن يحذروا من الزيادة والنقص ..

فعلى أهل العلم والبصيرة أن يدعموا هذه الدعوة وأن يوجهوا القائمين بها إلى الاعتدال والحذر من الزيادة حتى لا يقعوا في البدعة والغلو، والحذر من النقص، حتى لا يقعوا في الجفا والتأخر عن حق الله، وأن تكون دعوتهم وحركتهم إسلامية مستقيمة على دين الله، ملتزمة بالصراط المستقيم”. [مجموع فتاوى ابن باز (27/ 329)].

وقال:

“يجب على الدعاة إلى الله أن يستغلوا هذه الحركة الإسلامية بالتعاون مع القائمين عليها والمذاكرة معهم والحرص على إزالة الشبه التي قد تعرض لبعضهم؛ عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}” اهـ [مجموع فتاوى ابن باز (4/171)].

وهكذا نقول عن وصف (الإخواني):

هل هو وصف لمن شكر مجهودات جماعة الإخوان المسلمين وناصرها في حال ظلمها والعدوان عليها؟

وهل هذا محرم شرعا؟

إذا كان الجواب: لا؛ فلماذا يطعن به في من يؤدي ذلك الواجب الشرعي؟

وإذا كان الجواب: نعم؛ فهو طعن في أئمة السلفية؛ لأنهم تتابعوا على شكر صواب الإخوان ونقد أخطاءهم دون طعن ولا طرد من دائرة أهل السنة؛ وهذه مقالة توثق هذا المعنى:

https://howiyapress.com/index.php/kotab-alraey/2673-2053.html

العنف اللفظي:

الملاحظ أن الذين يتبنون الأحكام الجاهزة؛ يكثر فيهم إطلاق العنان لألسنتهم بالسب والطعن في المخالف المعين.

وبهذا يجمعون بين سلوكين يُفقدان النقد مصداقيته:

1 إصدار الأحكام الجاهزة

2 ممارسة العنف اللفظي

نماذج من الأحكام الجاهزة والألفاظ العنيفة:

الحكم على المخالف وقناعاته بقول أحدهم:

“المغالطات الصارخة، والتناقضات الواضحة”!

“جاء ليطب زكاما فأحدث جذاما”!

“استكثار وإبهار للقارئ بوهم وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، ويعتقده الجاهل ارتواء” ..!!

أقول لهذا الأخ هداه الله وأصلح أخلاقه:

إذا كنا نستعمل هذه الألفاظ مع المخالف القريب؛ فما هي الألفاظ التي سنستعمل إذا أردنا الشدة في الرد على الملاحدة والقبورية والعلمانيين؟؟!

ولنفترض أن هذه الأحكام الجاهزة القاسية تنطبق فعلا على المخالف؛ فهل يكون رجوعه إلى الصواب بهذا العنف وبهذه الأحكام القاسية؟؟

إن هذا المنهاج لا يمت بصلة للكتاب ولا للسنة ولا للسلفية:

قال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].

وقال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34،35].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك، ففهمتها فقلت: “عليكم السام واللعنة”.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله».

فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فقد قلت: وعليكم” [متفق عليه].

وفي رواية في الصحيح أيضا:

«يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله».

وفي رواية أخرى في الصحيح أيضا: “يَا عَائِشَةُ لَا تَكُونِي فَاحِشَةً“.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء» . [رواه الترمذي وقال الألباني: “حسن صحيح”].

قال سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى؛ في بيان كيفية الرد على المخالف:

“يكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة، ودون تهجم أو تجريح أو شطط في القول قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا».

فالذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم أو تلفظت به ألسنتهم مما كان سببا في إفساد قلوب بعض الشباب وشحنهم بالأحقاد والضغائن وشغلهم عن طلب العلم النافع وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال والكلام عن فلان وفلان والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين وتصيدها وتكلف ذلك”. [مجلة البحوث الإسلامية (34/311)].

وقال:

“الذي أوصي به جميع إخواني من أهل العلم والدعوة إلى الله عز وجل؛ هو تحري الأسلوب الحسن والرفق في الدعوة وفي مسائل الخلاف عند المناظرة والمذاكرة في ذلك، وأن لا تحمله الغيرة والحدة على أن يقول ما لا ينبغي أن يقول مما يسبب الفرقة والاختلاف والتباغض والتباعد، بل على الداعي إلى الله والمعلم والمرشد أن يتحرى الأساليب النافعة والرفق في كلمته حتى تقبل كلمته وحتى لا تتباعد القلوب عنه، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

وقال سبحانه لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، والله يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ويقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه» ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله».

فعلى الداعي إلى الله والمعلم أن يتحرى الأساليب المفيدة النافعة وأن يحذر الشدة والعنف؛ لأن ذلك قد يفضي إلى رد الحق وإلى شدة الخلاف والفرقة بين الإخوان، والمقصود هو بيان الحق والحرص على قبوله والاستفادة من الدعوة، وليس المقصود إظهار علمك أو إظهار أنك تدعو إلى الله أو أنك تغار لدين الله، فالله يعلم السر وأخفى، وإنما المقصود أن تبلغ دعوة الله وأن ينتفع الناس بكلمتك؛ فعليك بأسباب قبولها وعليك الحذر من أسباب ردها وعدم قبولها” اهـ. [مجموع فتاوى ابن باز (5/156)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- أما المنهاج العلمي؛ فنحن متفقون على أن بحثنا هو في إطار أصول المنهاج السلفي المبارك وتنزيلاتها من علماءه المتفق على علمهم وامامتهم.

2- تأمل جمعه في الذكر بين البخاري وابن حجر وابن باز، وقارنه بجمع شيخنا أبي عامر بين القرضاوي والألباني والعثيمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M