تهافت التافهين على حديث البخاري المتين

20 أغسطس 2014 20:23
تهافت التافهين على حديث البخاري المتين

تهافت التافهين على حديث البخاري المتين

ياسين ﮔـني

هوية بريس – الأربعاء 20 غشت 2014

يعتبر صحيح البخاري أحد أهم الكتب في العالم انتشارا وقيمة لدى المسلمين وغيرهم، وقد استند إليه جمع كبير من علماء المسلمين وغيرهم في كتبهم، ويعتبر أحد أهم المراجع التي تزخر بها لائحة المراجع والمصادر في كتب منتمية لحقول معرفية مختلفة، وقد أخذ صحيح البخاري قيمته أساسا من المنهج الذي اعتمده البخاري في وضعه أحاديثه وتصنيفها وقبولها ووضع سندها ما سبقه في صرامته احد قبله، وقد يطول بي الحديث عن مميزات هذا المنهج والشواهد التي توضح صرامته وتضييق باب مرور الحديث من سيف حكمه، وهذا منتشر وموجود في الكتب والمصنفات، بل وفي المقالات والمنتديات الشبكية مما لا عسر في الوصول إليه والاطلاع عليه تعرفا وتبصرا واستزادة مما يغنينا عن إيراده في مقال ليس مكانه ولا توقيته.

وضع البخاري رحمه الله مصنفه بين القرن الثاني والثالث للهجرة على أصح الروايات بعدما انتشرت الاحاديث واختلط صحيحها بضعيفها، فكان ذلك مدعاة للرجل أن يضع مصنفا يكون حكما توضع على ميزانه الأحاديث، وقد أجمعت الامة على صحته ووجوب اتباع أحاديثه جملة لأسباب منهجية بعيدة عن المذهبية والطائفية والحزبية، التي لم تكن قد توطدت في جسد الأمة الإسلامية وقتئذ.

خلال السنوات القليلة الماضية تعالت الأصوات المشككة في صحيح البخاري سواء من أهل الفكر والعلوم الإنسانية أو من أهل العلوم الدينية، أو من طرف رجال الإعلام والصحافة، أو حتى من المدونين والفنانين وجمع كثير من الذين لا تستقيم جملة مفيدة على ألسنتهم، وهذا ليس بالشيء الجديد طبعا، فقد تعرض صحيح البخاري لحملات في الماضي القريب أو البعيد، خلال فترة ما سمي بالنهضة العربية التي انطلقت بعد حملة نابليون بونابارت على مصر وانتقال العرب والمسلمين للدراسة في الخارج وتعرفهم على مؤلفات المستشرقين بدرجات أكبر من تلك التي كانت متاحة لهم في أوطانهم، واستمر ذلك متعاظما إلى اليوم، أما قديما فقد تعرض صحيح البخاري للتشكيك والهجوم من طرف المذاهب المختلفة مع أهل السنة والجماعة خاصة من المذهب الاثنا عشري الشيعي، أو حتى من بعض الفرق المنتسبة إلى أهل السنة والجماعة على باب توسيع المذاهب المنتمية إليهم، وقد شهدنا اليوم رجالا من جامعات إسلامية مرموقة يشككون في صحيح البخاري، على رأسهم رجالا من جامع الازهر، فهل يعتبر وضع صحيح البخاري على مختبر النقد والتجريح والتشكيك أمرا مقبولا ام لا؟؟

إن الإجابة على هذا السؤال تكون بالاستشهاد بماضي الامة وعلمائها، وفي هذا الباب نجد أن جمع كبير من العلماء قد سلطوا نقدهم على صحيح البخاري، فحكم جلهم بصحة الكتاب وعلوه بين كتب الحديث الموجودة في وقتهم، ومن أهم هؤلاء الشافعي ومسلم وموسى بن هارون ورجاء المروزي والترمذي والحاكم والنووي وغيرهم من أئمة الحديث كثير، ويمكن الرجوع إلى شهاداتهم المنثورة بين متون الكتب والأسفار وصفحات الشبكة العنكبوتية، وحتى الدارقطني الذي استدرك على البخاري أحاديث قليلة فإن علماء النقد والتجريح قد انتصروا للبخاري، وهنا يمكن أن نقول إجمالا أن نقد صحيح البخاري مسموح استنانا بسلف الأمة من كبار علمائها، لكن هذا النقد لم يشتغل به عبر التاريخ إلا رجال الحديث والنقد والتجريح من كبار علماء الأمة المتمكنين في علم الحديث ومصطلحه والعلوم المساعدة في فقهه، وما شهدنا ناقدا من غير أهل العلم إلا في زمننا هذا، فكما لا يعقل أن يشرح الطب غير الطبيب والهندسة غير المهندس فمن باب أولى أن لا يعمل بالحكم على الحديث إلا أهله المتمكنون منه، بل إن نقد البخاري لا يتاح لكل المشتغلين بالحديث لما ناله من شهادات تجعل الاقتراب منه غير متاح إلا بالاطلاع على ما كتب فيه وحوله عبر التاريخ الإسلامي الطويل، حتى لا يقع المشتغل في شبهات ماتت بالرد عليها فيعيد إحياءها سفها أو جهلا.

إن الذين يشككون في صحيح البخاري يتهمون المدافعين عنه أنهم يقدسون البخاري المؤلف، وهذا من باب جهلهم وسوء اطلاعهم على التاريخ ورجال العلم الأفذاذ الذين كتبوا في الحديث، فقد كتب في الحديث مالك وهو أمام دار الهجرة وكتب في الحديث الترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم من الرجال الذين يفوقون مكانة البخاري أو يضاهونها، ورغم ذلك فإن كتابه قُدّم على كتابهم، ولعل أبسط دليل على ذلك مكانة الإمام مالك عند المسلمين، فلو كان الأمر بالرجال لقُدم الموطأ على الصحيح، لتقدم مكانة مالك على البخاري عند غالب أهل الاسلام، لكن العلم والمنهج والشمول هو الذي دعا أهل التصنيف إلى تقديم الصحيح الجامع على الموطأ، وعلى الرغم من مكانة الموطأ الكبيرة ومكانة صاحبه ظل صحيح البخاري محافظا على صدارته لدواعي منهجية علمية بحتة، وكذلك الشأن بالنسبة بأصحاب السنن.

بالعودة إلى التاريخ المعاصر نجد إمام الحديث ومجدد الزمان في مجال الحديث الإمام الألباني رحمه الله حقق العديد من الأحاديث، فضعّف وحسّن وصحّح عددا كبيرا منها بمنهج واضح وصارم، وقد أقر بصحة البخاري ومكانته وفضله على بقية كتب الحديث، بل وأفرد له مؤلفا سماه بالمختصر، قسم فيه الاحاديث إلى موصولة ومعلقة، وهو دليل على مكانة الكتاب وليس على قدسيته كما يدعي المغرضون الذين يقولون إن أهل السنة يقدسون البخاري الشخص ولا يجرؤون على بيان ضعف أحاديث كتابه.

اختصارا إذن نقول إن صحيح البخاري نال أهميته من منهجية كتابة أحاديثه الصارمة وليس من مكانة الشخص، وهذا لا يعني أن مكانة البخاري في التقوى تقل عن مكانته في العلم، فهو أهل للعلو علما وتقوى، ولولا هذا لما نال مكانته، إلا أن هناك تقاة كثر كتبوا في الحديث فوفقوا لكنهم لم يضاهوا صحيح البخاري، كما أن العدد الهائل من العلماء الذين مر من بين يديهم الصحيح وأقروا به يمنح قيمة له ويجعله في مقدمة كتب الحديث.

نقول في الأخير أن البخاري إنما هو حلقة قوية في سلسلة المراجع الدينية ومن شأن هدمه تتابع انهيار الحلقات الأخرى، وهذا ما يجعل الحملة تستعر ضد هذا الكتاب، وخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أغلب من يشكك في الصحيح إنما هو من غير أهل الاختصاص أو من المذاهب المناوئة لأهل السنة والجماعة أو للإسلام عموما، ويبقى أي منتوج علمي قابل للنقد شرط أن يكون النقد ملتزما بالشروط العلمية والمنهجية لهذا العلم، أما ما دون ذلك فسيلاقي المصير الذي لاقاه المشككون الذين لفظهم المجتمع قبل التاريخ.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M