قراءة في كتاب: «التأويل الحداثي للتراث: التقنيات والاستمدادات» للشيخ إبراهيم بن عمر السكران

10 أكتوبر 2014 16:28
قراءة في كتاب: «التأويل الحداثي للتراث: التقنيات والاستمدادات» للشيخ إبراهيم بن عمر السكران

قراءة في كتاب: «التأويل الحداثي للتراث: التقنيات والاستمدادات» للشيخ إبراهيم بن عمر السكران

د. البشير عصام

هوية بريس – الجمعة 10 أكتوبر 2014

بطاقة الكتاب:

العنوان: “التأويل الحداثي للتراث: التقنيات والاستمدادات”.

المؤلف: إبراهيم بن عمر السكران.

دار النشر: دار الحضارة للنشر والتوزيع.

عدد الصفحات: 444.

سنة النشر: 1435.

*******************************************

بسم الله الرحمن الرحيم

حين يجتمع الاطلاع الواسع، والذكاء في الجمع والتفريق، والأناقة في العرض والترتيب، فإن النتيجة الحتمية تكون كتابا عظيم النفع، يجدر بالمثقف أن يحرص على قراءته والاستفادة منه.

وهذا بالضبط هو ملخص تقويمي الإجمالي لهذا الكتاب الذي أعرضه اليوم للقراء، راجيا أن يكون كلامي حافزا لقراءته، فإنه من المؤلفات العصرية القليلة التي تنمّي الحس النقدي، وتعمق المدارك المعرفية.

فكرة الكتاب

ينطلق الكتاب من مشاهدة الغزو الفكري الجامح على جزيرة العرب -خصوصا- خلال العقد الماضي، وأن هذه الأفكار الوافدة تدور على ”إعادة قراءة التراث”، وأنها تنقل معتنقها بسرعة إلى إدمان القراءة في الموروث الفلسفي الغربي، مع ما يقتضيه ذلك من تأثر بالمناهج الغربية في التعامل مع النصوص.

ويقرر المؤلف أن مشروعات التأويل الحداثي للتراث تستمد مناهجها ومادتها من الأعمال الاستشراقية، ويبرهن على ذلك خلال محاور الكتاب المختلفة، كما يرجع مآل مناهج المدرستين -الناقلة والمنقول عنها- إلى تقنيتين، يسمي الأولى: تقنية التوفيد، ويدعو الثانية: تقنية التسييس.

أما التوفيد فالمراد به رد علوم التراث الإسلامي إلى ثقافات سابقة، كتابية أو فارسية أو غير ذلك.

وأما التسييس فيقصد به رد هذه العلوم إلى كونها حصيلة صراع سياسي، لا نتيجة نظر موضوعي في أدلة علمية.

فالمؤلف يقرر في كتابه أن مدرستي ”التأويل الحداثي للتراث” و”الاستشراق الفيلولوجي” متفقتان في تقنيتين تفسيريتين: توفيد الأصيل وتسييس الموضوعي.

محاور الكتاب

ينطلق الكتاب أولا من بيان الإطار النظري والتاريخي لهاتين المدرستين، وذلك ببيان صعود الفيلولوجيا في الفكر الغربي خلال القرن التاسع عشر، وتأثر الاستشراق بالآليات الفيلولوجية في التعامل مع التراث الإسلامي. ثم يعقد المؤلف فصلا نافعا جدا في التسلسل الزمني لحقل ”تاريخ التراث” انطلاقا من جرجي زيدان، مرورا على أحمد أمين، ثم المفكرين ذوي الخلفية اليسارية (خاصة حسن حنفي والجابري)، وصولا إلى أصحاب الرؤية الحداثية الجزئية للتراث (أركون، فهمي جدعان..).

أما الباب الثاني، فيخصصه المؤلف لتقنية التوفيد، وفيه فصل للتوفيد في الاستشراق الفيلولوجي، وفصل آخر لإعادة التصنيع العربي للتوفيد، ثم فصل ثالث لمناقشة بعض النماذج التفصيلية. ويعتمد المؤلف الترتيب نفسه في الباب الثالث المخصص لتقنية التسييس.

ويعجبني قول المؤلف -في فصل التوفيد- في وصف حال المستشرقين (ص:143):

(.. إن كان ما في القرآن يوجد له مشابه في التوراة والإنجيل فمحمد صلى الله عليه وسلم اقتبسها منهم، وما لم يكن في التوراة والإنجيل فهو تفسير خاطئ لعبارة ملتبسة! هذا هو البحث العلمي في العقلية الاستشراقية!).

ويلخص المؤلف نقده لتقنية التوفيد بقوله (ص:163):

(فالتوفيد كجهاز علمي في البحث الموضوعي أو كما استعمله علماء المسلمين في دراسة الفرق والأفكار، هو (توفيد الأجنبي) أي رد العناصر الأجنبية في الخطاب إلى مصادرها.

أما التوفيد كما نجده لدى المستشرقين الفيلولوجيين وشراحهم الحداثيين العرب فهو (توفيد الأصيل) أي رد العلوم الأصيلة التي أنتجها الخطاب إلى ثقافات سابقة بتكلف الربط بين أي تشابهات شكلية عابرة).

كما ينقل (ص:192) عن الجابري نصا معبرا عن حقيقة ما وصل إليه القوم من غلوّ في التسييس:

(في التجربة الثقافية العربية يجب أن نضع السياسة مكان العلم في التجربتين اليونانية والأوروبية الحديثة..، فاللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها ”العلم”، وإنما كانت تحددها ”السياسة”).

وأما الباب الرابع، فهو أطول أبواب الكتاب إذ يمتد لنحو 185 صفحة، وهو خاص بقضية خلق القرآن ومحنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. ويطرح المؤلف في هذا الباب إشكالا مبنيا على تناقض غريب: كيف سعى المستشرقون إلى الدفاع عن المعتزلة الذين اضطهدوا الإمام أحمد وغيره من العلماء، مع أن هؤلاء المستشرقين ينتمون إلى حضارة تدّعي الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان، وتحارب الاستبداد والقهر السياسي؟

ويركّز المؤلف على عمل المستشرق الألماني جوزيف فان إس، الذي ”حول الجلاد إلى ضحية، ورسم المعتزلة في صورة المظلومين”، ويحلل هذا العمل بتفصيل ويبين ما فيه من أغلاط منهجية قاتلة. ثم ينتقل في الفصل الثاني إلى كتاب فهمي جدعان عن المحنة، ويبين ما فيه من سرقة مفضوحة لأفكار فان إس. أما الفصل الثالث ففيه مناقشات رفيعة للثغرات المنهجية في القراءة الاستشراقية للمحنة.

بعض نقاط القوة في الكتاب

يزخر الكتاب الذي بين أيدينا بكمالات منهجية معتبرة، وأبحاث علمية جيدة، تفتح أمام القارئ آفاقا حسنة للتفكر.

من ذلك، فصول تأريخية جيدة في الباب الأول للفيلولوجيا والاستشراق ومدارس تاريخ التراث، تدل على اطلاع واسع، وقدرة حسنة على الجمع والترتيب.

ومن مجالات القوة المنهجية للكتاب: تفطّن المؤلف لخطورة الاستشراق الذي يظن بعض الناس أن أثره انتهى منذ زمن (يعبر المؤلف عن هذا المعنى بـ”خطأ أسطورة موت الاستشراق”).

يقول المؤلف -حفظه الله- في ص:13: (فاستكشاف وتحليل هذه العلاقة غير المبرزة بين ”التأويل الحداثي للتراث” و”الاستشراق الفيلولوجي” هو سؤال البحث في هذه الدراسة التي بين يديك..).

ومن المباحث الحسنة: تحقيق مذهب ابن أبي دؤاد وهل كان جهميا أم معتزليا؟ وكذلك: تحقيق بعض مجالات الغبش في تاريخ المعتزلة وفي تعريف الاعتزال، وتحرير معنى ”مرجئة المعتزلة” ونحو ذلك من المسائل.

ومن المقاطع اللطيفة في الكتاب، والتي تستحق وقفات تأمل ومناقشة، قوله في ص:402: (فإذا تأمل الباحث الموضوعي هذا الجوهر النبذي الإقصائي في الفكر المعتزلي الذي يبلغ التكفير والاضطهاد والقتل للمخالف وإهانته والاستعلاء عليه، تستولي عليه الدهشة كيف اقتنع المستشرقون وشراحهم الحداثيون العرب بأن المعتزلة أنسب ممثل لليبرالية؟! وكم في دهاليز الأبحاث من غرائب العقول!).

وقوله في ص:411: (وهذه العلاقة بين النفس البشرية وطبيعة اللغة أحد أعمدة التمحيص البشري: هل تحمل النفس البشرية ذاتها على المعالي فإذا قصّرت عاتبت ذاتها؟ أم تفزع إلى (التأويل التطويعي) للخطاب الشرعي نتيجة ما تتيحه طبيعة اللغة من الاحتمال الدلالي؟).

وعلى العموم، فالكتاب نفيس جدا، في المنهج البحثي وأسلوب العرض -على هنات لغوية يسيرة-، وفي الحمولة الفكرية التي يقترحها على القارئ، فتسمو به في فضاء معرفي يجمع المتعة والفائدة.

يسر الله لقارئي هذا المقال الاطلاعَ على هذا الكتاب.

والله الموفق.

www.facebook.com/aissambachir

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M