خطاب الممانعة

21 أكتوبر 2014 18:34
خطاب الممانعة

خطاب الممانعة

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الثلاثاء 21 أكتوبر 2014

ابتهج المغاربة -هذه الأيام- بموقف رسمي يعبر عن حقيقة علاقة الغرب بدول الجنوب، عبر خطاب حقيقي مكنوف بالجرأة، صادع بصلف الغربيين الذي تجاوز الحدود، شاكيا تجاوزاتهم ضد المسلمين بصفة عامة، والدول التي رزحت تحت الاستعمار بصفة خاصة.

موقف لم يصدر بين جدران مدينة معزولة، ولا داخل أسوار دولة منبوذة، وإنما هو موقف قصف آذان ملوك ورؤساء دول العالم، جسده خطاب الممانعة لأمير المؤمنين محمد السادس -حفظه الله- في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها التاسعة والستين، التي انعقدت أواسط الشهر الماضي، ذلكم الخطاب البديع، المتسم بالجرأة في قول الحق، الناصع بالحجج الدامغة على سوء تقدير الغرب لقدرات المسلمين والدول النامية، واستهتاره بمقدَّرات هذه الدول، مما يفسر قصد تحقيق مصلحته هو لا مصلحة هذه الدول، مما جعل المحللين يصفون الخطاب بالخطاب الثوري، الذي يدعو إلى مراجعة العلاقات القائمة بين الغرب ودول الجنوب، والذي يشكل قطيعة مع الخطابات المعتادة في الهيئات الدولية، وأنه مرافعة حقيقية من أجل انبثاق دول نامية جديدة، متخلصة من بقايا السياسة الاستعمارية الموتورة.

ركز الخطاب على أن أي تعاون بين الغرب والمغرب، لا بد أن يضع في الحسبان حقوق الأجيال القادمة، والقيم الحضارية للشعب المغربي، وخصوصياته الوطنية، وأن أية علاقة بينهما  يجب أن تنبني على إنصاف الدول النامية.

ولعله لأول مرة في التاريخ، نسمع تحت قبة الأمم المتحدة، أن النموذج الغربي ليس الوحيد الذي يجب أن يحكم الدول الأخرى. يقول الخطاب: “إن تحقيق التنمية المستدامة، لا يتم بقرارات أو وصفات جاهزة، كما أنه ليس هناك نموذج واحد في هذا المجال”.

ونبه الخطاب الجريء إلى أن على الغرب أن لا يتيه في مسارب الكبرياء والعظمة، ويعتبر عقول الدول الأخرى قد عُقمت أن تنجب نماذج جديدة للتنمية والتقدم، تتوافق وخصوصيتها الدينية، والتاريخية، والجغرافية، وأن زمن الاستعمار والتحكم قد ولى بعد أن قويت إرادة المسلمين في تحقيق استقلالها، ونبذ التبعية لغيرها، ومن تم كانت هذه الصرخة التي اهتز لها الحاضرون إعجابا وتنويها.

يقول الخطاب: “إن أول نداء أتوجه به من هذا المنبر، هو ضرورة احترام خصوصيات كل بلد، في مساره الوطني، وإرادته الخاصة، لبناء نموذجه التنموي، لاسيما بالنسبة للدول النامية، التي ما تزال تعاني من آثار الاستعمار”.

وكان لا بد من كلمة موجعة، تنفذ إلى قلوب وعقول الذين اغتنوا عن طريق استعمار الدول المستضعفة، واستغلال خيراتها، ونهب ثرواتها، واستنزاف سواعد أبنائها، مع ما صاحب ذلك من زرع أسباب التفرقة والنزاعات بين الجيران، مما لا زلنا نعاني منه إلى يومنا هذا، واعتبر الخطاب هذا التصرف الاستعماري البغيض فتنة فرقت بين الشعوب، وسلبت حريتها واعتمادها على عقول وعطاءات أبنائها. استمع إلى هذه النبرة القوية، التي تصدع بما لم تتعود الدول الغربية سماعه في مثل هذه المحافل الدولية الكبيرة.

يقول: “لقد خلف الاستعمار أضرارا كبيرة للدول التي كانت تخضع لحكمه؛ فقد عرقل مسار التنمية بها لسنوات طويلة، واستغل خيراتها وطاقات أبنائها، وكرس تغييرا عميقا في عادات وثقافات شعوبها، كما رسخ أسباب التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وزرع أسباب النزاع والفتنة بين دول الجوار”.

لقد آن الأوان لنستفيق من غفلتنا، ونرجع إلى رشدنا، ونوقن بأن الاعتماد على الغرب ما هو إلا سراب واغترار، بعد أن جلى الخطاب أن ما آلت إليه كثير من الدول الفقيرة من وضعية مأساوية، تغذيها النزاعات والحروب، ويعضها الفقر والاحتياج، وينهشها الجهل والأمية، إنما هو بسبب الاستعمار.

يقول: “فرغم مرور العديد من السنوات، فإن الدول الاستعمارية، تتحمل مسؤولية تاريخية، في الأوضاع الصعبة، والمأساوية أحيانا، التي تعيشها  بعض دول الجنوب، وخاصة بإفريقيا..”.

وحتى إذا تظاهرت الدول الغربية بمساعدة الدول الفقيرة، فإن هذه المساعدة تكون مشروطة بقوانين تحكمية، وشروط تعسفية، لا تزيد تلك الدول إلا تأخرا وتبعية، وفقرا وتخلفا.

يقول الخطاب: “لكن بعض الدول الغربية، التي لم تطلب الإذن من أحد لاستعمار بلدان الجنوب، بدل تقديم الدعم اللازم لشعوبها، تتمادى في فرض شروط صارمة عليها، تعرقل مسارها الطبيعي نحو التقدم.. فهي لا تعرف سوى تقديم الكثير من الدروس.. أما الدعم فهو ضعيف جدا، ودائما ما يكون مشروطا”.

   ولعله لأول مرة في التاريخ -أيضا- تصدم الدول الغربية بالحقيقة التي تغضبها، وتسخر الإعلام بكل حمولته لإقناع العالم بضدها، وهي أن الغرب هو المسؤول الأول عن العنف العابر للقارات، والنزاعات التي تذكي الكراهية، وتزرع الأحقاد، وتولد المآسي والويلات، بسبب الإحساس بالظلم، والتمييز، والتفقير، والتهميش.

يقول الخطاب: “إن العالم اليوم في مفترق الطرق: فإما أن يقوم المجتمع الدولي بدعم الدول النامية لتحقيق تقدمها، وضمان الأمن والاستقرار بمناطقها، وإما أننا سنتحمل جميعا، عواقب تزايد نزوعات التطرف، والعنف، والإرهاب، التي يغذيها الشعور بالظلم والإقصاء، والتي لن يسلم منها أي مكان في العالم”.

ستـظـل طائـفـةٌ عـلى إيـمانها***منصورةً تبني الكـيان الأكـبـرا

يا أمة الإسلام وجهكِ لم يزل***بالرغم من هول الشدائد مسفرا

هذه السياسة التي تنهجها الدول الغربية بدقة، هي التي جعلت 37% من سكان العالم الإسلامي يعيش تحت خط الفقر، أي أزيد من 400 مليون مسلم لا يستطيع العيش الكريم، الذي يحجزه عن المسألة، وهي التي جعلت بعض الدول الفقيرة تدفع 30% من صادراتها مقابل الديون التي عليها.

وتذكر الإحصائيات أن كل طفل إفريقي يولد اليوم، هو مدين بقرابة 350  دولاراً للدول الغربية، حتى أصبح من المستحيل أن تسدد 58 دولة ديونها، على الرغم من أن الدول الفقيرة تدفع يومياً قرابة 700 مليون دولار، أي ما يعادل  500 ألف دولار في الدقيقة لتسديد الديون.

وهذه السياسة هي التي مهدت الطريق لـ56000 شركة غربية، لتهيمن على ثلثي التجارة الدولية للبضائع، ولتمتلك 80% من الأراضي الزراعية في العالم، وهي التي جعلت الدول الغنية تتحكم الآن في أزيد من78% من واردات العالم، و49% من صادراته، مقابل ارتفاع معدلات الفقر بشكل مفزع، وهي التي جعلت 40 ألف طفل يموتون يومياً في مختلف أنحاء العالم بسبب سوء التغذية، والأمراض المتصلة به، أي: 15 مليون شخص في السنة، يضاف إليهم كل سنة 4 ملايين جائع، في الوقت الذي يموت فيه بعض الأغنياء في الدول الكبرى بالتخمة.

فقد أشارت إحصاءات الأمم المتحدة نفسها إلى أن 10% فقط من ثروات أصحاب المليارات في العالم  تكفي لسد حاجات المليار فقير وجائع من الغذاء، والماء، والدواء، علماً بأن حجم ما ينتجه العالم من غذاء يكفي لضعف سكان الأرض، حيث يوجد في دولة كبرى واحدة فائض غذائي يكفي لإطعام الجوعى في قارة أفريقيا بكاملها، ومع ذلك يصطنعون الأسباب لازدياد غنى الأغنياء، ومضاعفة فقر الفقراء، وعند الله تجتمع الخصوم.

 قال تعالى: “وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ“.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M