الأشاعرة بين إشكالية الإكمال وتقية الحماية

03 نوفمبر 2014 20:55
الأشاعرة بين إشكالية الإكمال وتقية الحماية

الأشاعرة بين إشكالية الإكمال وتقية الحماية

ذ. محمد بوقنطار            

هوية بريس – الإثنين 03 نونبر 2014

لم تستطع الأشعرية كفكر مستنبت دخيل أن تبوئ نفسها مكانة متقدمة كممثل وناطق باسم الفكر العقدي لأمة الإجابة، ذلك أن الأمر احتاج من رموزها المتقدمين كما يحتاج اليوم من خلفهم المتأخرين أول ما احتاج إيجاد الثوب السندسي الأخضر الذي يستطيعون أن يلفوا فيه جسمها الفكري الذي تشخصه وتتبناه ونعني به علم الكلام.

فقد أثبت التاريخ بعيدا عن الدعاوى والمزايدات التي فقدت منذ استهلالها الأول وإلى اليوم لفيف الإشهاد وأدلة الإثبات على أن هذا العلم أي علم الكلام قد وجد صعوبة ومشقة وعسرا في أمنية اقتحام عقبة التداول الإسلامي، وخاصة في أوساط من يشكلون الأكثرية الغالبة من جماهير معشر المكلفين في دائرة التكليف وحقيقة بلوغ الحجة، حجة قبول حمل أمانة التنزيل والإرسال.

 ولا غرابة بعد هذا العسر والإباء أن تجد المتكلمة في كتبهم قد تواطأ لسان محبورهم على موقف شاذ من العوام والمقلدة أي فاقدي أدوات النظر الذي هو عندهم أول واجب على المكلف، حيث دار التوصيف بين التفسيق والتكفير، ولن نمل في إثبات هذا الشذوذ من الرد إلى أصول تحريره وإن وجدنا سلفا بعد طول تكرار اجتراره نفوسا لاهية وآذانا غير صاغية، إذ ينظر في تحقيقه والتحقق منه حتى لا تخفى منه خافية إلى «أصول الدين» للبغدادي وشرح السنوسي على «أم البراهين» وشرح «بدء الأمالي» لأبي بكر الحنفي و«التمهيد لقواعد التوحيد» لمحمود بن زيد اللامشي الماتريدي و«المسامرة» لابن همام الحنفي وشرحها «المسامرة» و«منهج أهل السنة».

والواقع أن سلف الأشاعرة كما خلفهم اليوم لم يملوا بعدما ووجهوا بحقيقة أن الدين قد كمل والنعمة بلغت من التمام والكمال نصاب الإقناع في مقام إقامة الحجة بضابط قوله تعالى في باب الأمر «فذكر فإنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» وقوله سبحانه لنبيه بعد حسن البيان ونصح التبليغ «فما أنت بملوم».

لم يملوا إذ كان الإحساس بكبيرة التولي عن الزحف والارتداد عن فكر نشأ الكثير منهم على تعظيم القائلين به دون مزية الوقوف مع تفاصيله ونخل فلسفته ومراجعة ركامه المستورد بكل تجرد ودون مركب حرج، لقد كان الإحساس ثقيلا يجثم على النفس ويكتم الأنفاس، فكان المخرج هو إيجاد المبرر الذي يرفع في وجه الخصوم من أهل الحديث كمسوغ وقاعدة تبرير تشرعن؛ ليس لجواز تبني علم الكلام؛ ولكن لوجوب تبنيه ونقيصة التخلي عن الاحتماء بقلاعه الحصينة زعموا.

تبنيه ليس كمكمل لكامل الدين وتمام النعمة؛ وإنما كحامي مدافع منافح عن هذا الكمال والتمام، ولترسيخ وظيفة الحماية كان لابد من سلك مسلك التهليل والتهويل بوجود عدو صائل معربد يبغي إفساد عقيدة أهل السنة والجماعة.

وهكذا ستطفو إلى السطح بحسبهم الحاجة الملحة إلى وجود فكر ونظر لمواجهة هذا الخطر المحدق بالدين بله بأصوله، وبطبيعة الحال لم يكن من مؤهل لشغر هذه الوظيفة والقيام بهذا «الركز المبارك» سوى علم الكلام.

 وربما احتجنا أن نشير إلى أن المسلمين عند انبعاث نبتة الكلام كانوا يومها في أعلى مراقي القوة المادية والروحية مما يلزم منه أن الكلام عن قضية التأثير والمسيس المستقطب هي أقرب للطرف الأضعف المغلوب منها إلى الطرف الأقوى الغالب، فأي صائل كانت الأمة تخشاه وشأنها كان على وفق ما ذكرناه من سلف قوة مادية ومنعة روحية.

ثم إن حقيقة وجود شبهات تتهدد محراب العقيدة وتتوعد بإقعاد صراط الله المستقيم لم تكن وليدة ظهور الأشعرية كفكر؛ بل الأمر أنف.

فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام وهو يتكلم عن شبهة الدور في الخلق الذي له تعلق بتوحيد الربوبية الذي دارت رحى المحاججة في دائرته من أجل تقريره وإثباته كما هو الزعم، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله».

فهل كان النبي عليه الصلاة والسلام مطففا إذ لم يفزع إلى التحليل المنطقي والفلسفي في مواجهة هذه الشبهة وتركها تصول وتجول وتزبد وتعربد وهو الذي ينم كلامه صلوات ربي وسلامه عليه على أنه يعلم أنها شبهة وجدت لتبقى وتتجدد إذا قال صلى الله عليه وسلم «لا يزال الناس يتساءلون…».

أم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن الوسوسة سلاح الكائد الخناس كما علّم أصحابه عندما شكوا إليه بعض خواطرهم حيث قال: «الحمد لله الذي رد كيده إلى وسوسة»، فيكون عليه الصلاة والسلام قد ترجح لديه وهو الحريص الناصح المحذر الأمين أن الإعراض عن الشبهة كفيل بدفنها في جبانة السحيق، وأن فتح باب الجدال أمامها يمنحها فرصة ترادف أجناسها وتراكم ظلماتها بعضها فوق بعض.

ثم ألم يكن أمر مواجهة هذه الشبهة التي يمكن أن يسبب انقداحها تشويشا وتشغيبا على اعتقاد المسلم داعيا إلى إظهار الوجه الكامن للأشعرية إذا ما نحن سلمنا أنها عملة بوجهين، وجه ظاهر ظهر مع أبي الحسن الأشعري ووجه خفي كامن عاش في جوف الكتمان مع النبي عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- ومع أصحابه معه ومن بعده رضوان الله عليهم أجمعين وحاشاهم؟؟؟

وهب أن المخالف في الباب اعترض بدعوى أن الأشاعرة حقا وصدقا قاموا بحماية العقيدة الصحيحة من شبهات المعتزلة كما هو الزعم، فيجاب على هذا بقول الإمام السجزي في كتابه «الرد على من أنكر الصوت والحرف» إذ قال: «والمعتزلة مع سوء مذهبهم أقل ضررا على عوام أهل السنة من هؤلاء، لأن المعتزلة قد أظهرت تمذهبها ولم تموّه… وكثير من مذهب الأشعري يقول في الظاهر بقول أهل السنة مجملا ثم عند التفسير والتفصيل يرجع إلى قول المعتزلة فالجاهل يقبله بما يظهره والعالم يكشفه بما منه يخبره، والضرر بهم أكثر منه بالمعتزلة لإظهار أولئك ومجانبتهم أهل السنة وإخفاء هؤلاء ومخالطتهم أهل الحق نسأل الله السلامة من كلّ برحمته».

ثم متى كان من دواعي ممارسة وظيفة الحماية البحث عن فطرة أخرى غير تلك التي ألهمنا الله إياها مصداقا لقوله تعالى «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» وعلّق الصبغة على الكسب بين الفلاح والخيبة مصداقا لقوله جلّ جلاله: «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها»، فهذا الرازي في أساس التقديس يحرر قائلا: «ونختم هذا الباب بما روي عن أرسطا طاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات»: «من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى».

ولم يقف الرازي عند حدود النقل بل تعداها ليسجل انطباع مذهبه وتقرير اتفاقه إذ قال: «وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة… وكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى وعقلا آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات».

وربما بعد هذا النقل احتجنا أن نتمنى على الله الأماني…

فيا ليت للخلف من زراع المستنبت الدخيل صفرة وجل وحمرة خجل وهم يرفعون اليوم لواء حماية الجبل بله امتلاك الأصيل.

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M