ورقة المرور!

28 نوفمبر 2014 23:34
ورقة المرور!

ورقة المرور!

عثمان جمعون

هوية بريس – الجمعة 28 نونبر 2014

كان صعباً عليَّ أن استوعب أنّي لن أرتاد المدرسة مجدداً مثل أصحابي، كما كان صعباً أن أقبل أنّي لن ألج إلى الجامعة مثل الأقراني، أيّام صعبة حقيقة، خصوصاً في مجتمع لا يرحمُ بالمرّة، وفي وسط علمك مقرون بمستواك الدّراسي، كثيراً ما تهرّبت من مجالس العائلة وقطعت صلة الرّحم لكي لا أسمع ذلك السّؤال المزعج، والأصعب من هذا كلّه عندما تجدُ شاباً تفوقه بكثير لكنّه يعامل بشكل أحسن منك وينظر إليه بنظرة أكبر منه، ليس لأنه الأحسن ولكن لأن له “شهادة”.

لا زلت أذكر تلك الليلة التي قال لي فيها صاحبي: “عندك الكرطونة هدر معايا!”، ولو ناقشته في أبسط المسائل لما أجاب، ولطأطأ رأسه يقيناً، فقط ساعده القدر ولم يتلقى له بمثل ما تلقّى لي ولأمثالي، وللأسف!!

ليست هذه الفكرة السّائدة لدى العوام من النّاس فقط، لكنّها اندرجت إلى من يحسبون على العلم والثقافة والفكر، وكأنهم لا يعلمون أن كثيراً ممّن يتبجحون بشهاداتهم لم يحصلوا عليها إلا بغش قبيح أو شراء فضيع، بل يعلمون ولا يهمهم هذا، المهم أن تكون عندك “الشهادة”، نعم، ممكن اليوم تكون من أراذل القوم وأسافلهم، وتشتري “شهادة” غداً فتصبح من الملأ مع عليّة القوم، (أنا) اقرأ كثيراً، اتنقل من كتاب إلى آخر، أبحث عن هذه المسألة وأناقش ذلك الحُكم وأنام على مكتبي، وذلك الذي يحمل “شهادة” لا شيء من هذا يفعله، نوم وسهر، كَسَلُ وشَخر، ومع ذلك هو الأحسن، عجيبٌ أمرهم!

عندما أواجه هذا الواقع الأليم، تتلاشى من ذهني كلّ ما قرأته سابقاً من أن علمك هو ما تحفظه لا ما تكتبه وتسجّله، أذكر أنّي قرأت كلمةً لأحدهم يقول فيها: (علمك ما دخل معك المرحاض)، وأن: (العلم ما حصل في الصّدور، لا ما حفظ في السطور)، ربّما كان هذا في زمن المؤلفين أو من رووا عنهم، أما في زماننا فقد فلا شيء من ذلك، والواقع خير شاهد، ولا يمكن تكذيبه، في حين يعاني أمثالي في صمت، يعاني أصحاب الشهادات في صراخ عقيم، مظاهرات ومسيرات، في مسرحيات الفرّ والكرّ اليومية، لم تدم فرحتهم طويلاً، جاءت السياسة الجديدة للبلد بما يسمّى بـ”المبارات” فعرّت أصحابنا وكشفت إخواننا..

قرأت عن قريب حواراً لـ”لازلو بوك”، رئيس قسم التوظيف في شركة “جوجل” العالمية يقول في جزء منه: “عندما تنظر إلى الأشخاص الذين لا يذهبون إلى الجامعة، ويشقون طريقهم في العالم بالاعتماد على أنفسهم، إن هؤلاء بشر استثنائيون. وعلينا أن نفعل كل ما بوسعنا للعثور عليهم”، وقد صدق وأحسن فيما قاله وفعله، وقد أثبتت الدراسات على أن الذين ينقطعوا مبكراً من الدراسة النظامية يتفقون ذكاءً ويزدادون إبداعا أكثر ممن واصلوا واستمروا، واقرؤوا “عظماء بلا مدارس” حتّى تصدّقوا هذا وتتيقنوا منه، ولاشكّ أن ذكاءهم هذا يلاقون من أجلهم ابتلاءات وامتحانات أولها الانقطاع عن المألوف، والشذوذ عن المعروف، وقد أوذيت كثيراً في سبيل هذا، مرّة قال لي أحد مشايخي السّابقين: “أنت لا تصلح للعلم الشّرعي، أدرس الطّب أو الهندسة”، مع أنّي بعيدٌ جداً عن ما ذكره، ولو كنت أخذت برأيه لكنت ألقيت بنفسي للهاوية.. النماذج كثيرة والجِراح عميقة، لكن من رحم هذه الجراح تولد الهمة ويأتي النجاح، و”ربّ ضارّة نافعة”..

إن الذين يحسبون أنفسهم وطئوا الثريا لأنهم حصلوا على تلك الشهادات التي وهموا من خلالها أنهم أذكياء، وهؤلاء زمانهم قد ولّى بلا شكّ، فلا مستقبل إلا للكادحين والباحثين وطلبة العلم المجدين، أما الشهادة فما هي إلا ورقة مرور لخداع النّاس وقد كُشفت، فأدركوا أنفسكم وجِدّوا في الطّلب وأخلصوا في المطلب، قال رجل لآخر: بم أدركت العلم؟ قال: طلبته فوجدته بعيد المرام، لا يصاد بالسهام، ولا يرى في المنام، ولا يورث عن الآباء والأعمام، فتوسلت إليه بافتراش المدر، واستناد الحجر وإدمان السهر، وكثرة النظر وإعمال الفكر ومتابعة السفر، وركوب الخطر: فوجدته شيئا لا يصلح إلا للغرس، ولا يغرس إلا في النفس، ولا يسقى إلا بالدرس. أرأيت من أشغل نهاره بالجمع وليله بالجماع، هل يخرج من ذلك فقيها؟ كلا والله.

إن العلم لا يحصل إلا لمن اعتضد الدفاتر، وحمل المحابر، وقطع القفار، وواصل في الطلب الليل والنهار..

لا يَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلا بَازِلٌ ذَكَرٌ***وَلَيْسَ يُبْغِضُهُ إِلا الْمَخَانِيثُ

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M