“من غشنا فليس منا”

25 يوليو 2013 23:58

ذ.جواد أمزون

هوية بريس – الخميس 25 يوليوز 2013م

انتهت امتحانات الباكالوريا بدورتها العادية والاستدراكية، مرت بما لها وما عليها؛ مرت بعد أن كانت حديث القاصي والداني في المقاهي والمنتديات والتجمعات والمواقع الإلكترونية؛ مرت بما عرفته من فضائح التسريبات في الامتحانات والحالات المضبوطة في الغش.

مرت في جدل كبير خاصة بما رافقها من الشد والشد المضاد؛ مرت في جو عصيب لا أبالغ إن قلت أنه انعكس سلبا على مستوى التحصيل والنجاح؛ مرت في جو من التهريب من الضبط في الغش دون إعداد التلاميذ لذلك؛ مرت وقد  أدلى كل بدلوه فحلل وناقش، واستنتج واستخلص، لذا كان لزاما علينا أيضا أن نقف معها وقفة فنقول:

 إن الغش في الامتحان تزوير ممقوت، وخُلُق سمج، وتطبع إجرامي، بل إن الغش جريمة في حق المجتمع، لأننا نخرج طلاباً زوراً وبهتاناً، ولأننا سنخرج أطباء مزوَرين ومهندسين مزوَرين بل ومعلمين مزوَرين، فيموت الإبداع في كل مجال، ويولى الأمر إلى غير أهله، فتشيع الخيانة، وينتشر الضعف في كل مجال، فيُعلى علينا ولا نعلو، ونُهزم ولا ننتصر، لأن مراكز العلو، ومراكز الإنتاج قد تولاها غشاشون مزوَرون لا كفاءة لديهم، ولا إبداع.

إلا أن الذي ينبغي التنبه إليه أن الغش كلمة عامة في كل شيء، والله أمرنا بالصدق، ونهانا عن الخيانة، والغش في الامتحان خيانة، والغش في البيع والشراء خيانة، والغش في العمل المهني خيانة، والغش في المصنع خيانة، وكلها صور محرمة بنص حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من غشنا فليس منا” أي كل من غش المسلمين فليس منهم، وفي رواية عند الترمذي صححها العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1765) قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من غش فليس منا” أي أن من غش أيا كان فليس من جماعة المسلمين، ولذلك انعقد إجماع العلماء بأن الغش حرام.

ولا ينحصر الغش في صورة ذاك التلميذ المسكين الذي يغش في الامتحان، أقول مسكينا لأنه ضحية منظومة تربوية ومجتمعية فاشلة، إذ ماذا تنتظر من تلميذ تعوّد الغش من اليوم الأول الذي  عرف الحياة فيه؟

ماذا تريد من تلميذ يمارس عليه الغش ليل نهار في القنوات والجرائد والمجلات؟

ماذا تريد من تلميذ يرى الغش أمامه يوميا في قطاعات الدولة المختلفة من تعليم وصحة وسكن وو…؟

ماذا تريد من تلميذ يرى الغش جهارا في التسيير العمومي في مدينته وقريته؟ يرى الغش والتزوير في الانتخابات وفي بناء المرافق العمومية من مدارس ومستشفيات وقناطر وتعبيد طرق وبناء مساكن؟؟

ماذا تريد من تلميذ يسمع يوميا عن حالات الغش والمحسوبية والزبونية ولا يتحرك أحد…؟

فلا غرابة أن نرى تلميذا يغش في الامتحان؛ فما هو إلا نتاج للمناهج التربوية المتبعة في هذه البلاد السعيدة التي لا تعليم فيها ولا منهجية ولا تربية؟

برامج خاوية، فتات الغرب نقتات منه، برامج تخلت عنها حتى أفقر الدول الإفريقية وتمسكنا بها، والواقع كما سماه أحدهم: “من بوكماخ إلى بوكلاخ”.

إن الدولة إن سنت قوانين لردع الغشاشين فلن تنجح أبدا ما لم تبن على أسس متينة وواقع شريف، فلا يعقل أن تعتقل تلميذ يغش في امتحان لا فائدة منه، وتترك الغشاشين الحقيقين الذين ينهبون مال الشعب جهارا نهارا..

لا يعقل أن تعاقب من يغش ليحل عملية حسابية لا طائل منها سوى الحصول على نقطة أو نقطتين، وتترك من غش في الانتخابات ويتقاضى الملايين في الشهر الواحد.

ليس من العدل في شيء أن تطرد تلميذا غش في مسألة وتترك أشباحا يغشون البلاد والعباد سنوات وسنوات جاثمين على صدور الفقراء والمستضعفين في هذه الأرض…

ليس من الإنصاف محاكمة تلميذ وترك من أكل المال العام ونهب الصناديق الوطنية التي ملئت من جيوب الضعفاء المساكين!!

ليس من الغيرة في شيء أن تحرم تلميذا بسبب غشه في مادة سيكتشف فيما بعد أن لا قيمة لها وتغض الطرف عن اللصوص الذين يتمتعون بخيرات البلاد دون رقيب ولا حسيب..

والله عار وأي عار على الحكومة أن نتطاول على الضعفاء المساكين، وتترك الغشاشين الحقيقيين.. عار عليها أن تعاقب تلميذا نشأ في منظومة مغشوشة أصلا وتصفح عن المفسدين..

إن كلامي ليس دفاعا عن الغش، ولكن هو زفرة مهموم على واقع مرير، وإلا فإن الغش حرام حرام لا تبرره الظروف لما له من آثار سيئة على الفرد والجماعة؛ فبسببه تُنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث، أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء.

وختاما أقول: إن الإنسان إذا نجح بالغش في حياته فإنه لا يستحق هذا النجاح وكل ما يحصل عليه في المستقبل من شواهد ووظائف ليس نتيجة لمجهوده الخاص ولا علامة على تفوقه وجهده وعمله الشاق، بل إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى تزوير للحقيقة وادعاء كاذب بالتفوق والنجاح، إنها حقيقة مخجلة ومرة ومؤلمة أن يحصل الإنسان على شيء لا يستحقه، وقد نتساءل جميعا في شيء من السذاجة والبلاهة: كيف يمكن أن نبني مجتمعا صالحا في ظل استفحال هذه الظاهرة المشينة وانتشارها يوما بعد يوم؟؟

بل كيف يمكن للإنسان أن يكون إنسانا عندما يقدم على ارتكاب هذه الحماقة؟؟

كيف ينسى الأخلاق والقيم التربوية والدينية؟؟

وكيف ينسى ما قاله حبيبنا صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا”؟؟؟

لذا لا بد من تعاون الجميع من أسرة ومجتمع ومدرسة لمقاومة هذه الظاهرة، كل بحسب استطاعته وجهده؛ فالأب في بيته ينصح أبناءه ويرشدهم ويحذرهم، والمعلم والمرشد في المدرسة والجامعة والخطيب في مسجده، وربّ العمل في معمله، والتاجر في سوقه كل من مكانه.. 

بهذا فقط سنبني التلميذ الإنسان الصالح وسنضع حدا لمشاريع غشاشين في المستقبل.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M