قراءة في رسالة راهب فرنسا لأمير سرقسطة ورد الباجي عليه

24 ديسمبر 2014 21:26
قراءة في رسالة راهب فرنسا لأمير سرقسطة ورد الباجي عليه

قراءة في رسالة راهب فرنسا لأمير سرقسطة ورد الباجي عليه

ذ. طارق حمودي

هوية بريس – الأربعاء 24 دجنبر 2014

من المناظرات[1] التي حصلت بين النصارى والمسلمين على المستويات العليا الرسمية منها والعلمية مراسلات تمت بين كبير رهبان فرنسا وهو رئيس دير كلوني (cluny) وبين الأمير المقتدر بالله من بني هود حاكم سرقسطة[2]، وقد كانت رسالة الراهب رسالة تبشيرية خالصة، وتولى الرد عليها العلامة أبو الوليد الباجي (474هـ)، وهي رسالتان حفظت نسخهما المخطوطة في دير الإسكوريال بضواحي مدينة مدريد، وتولى بعض المستشرقين إخراجهما للنور دراسة وتحقيقا؛

وأعاد الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي إخراجهما مع مقدمة مهمة عن الرسالتين ومضمونهما[3]، مناقشا من سبقه من المستشرقين فيما صنعوه في دراسات لهم متعلقة بالرسالتين،[4] ولم أستطع الوقوف على دراسات أولئك المستشرقين، لكنني استطعت أن أقف على كتابات عن هذا الراهب وعن ديره وعن شيء كتبه أحد الدارسين الغربيين عن الرسالتين أعانني على إعادة تصور الحالة الفكرية والسياسية للمناظرة غير المباشرة التي قامت بين راهب فرنسا الكبير وأبي الوليد الباجي على لسان أمير سرقسطة.

وقد قمت بقراءة الرسالتين قراءة شبه متأنية، واستخلصت منهما زيادة على ما ذكر الشرقاوي ما يلي:

1- جملة ما في رسالة الراهب

أظهر الراهب المودة (الصديق الحبيب-الأمير العزيز) والتواضع والتقدير اللازم في حق المخاطب لكن مع نوع تنبيه (دولة هذه الدنيا-أمرك الرفيع في الدنيا-الملك الشريف) عارضا عقيدته منذ أول السطور في الرسالة (يسوع ابن الله سيدنا).

أعلن الراهب قصده من الرسالة وهي دعوة الأمير إلى النصرانية، ووصف عيسى بقوله: (هو الإله الذي اتخذ حجابا على صورتنا لينقذنا بدمه من هلكة إبليس!) وتحدث عن (الالتحام المقدس)، وجاهر بالطعن في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فيقول: (فشبه على بني إسماعيل (أي إبليس) (في أمر الرسول الذي اعترفوا له بالنبوة، فساق بذلك أنفسا كثيرة إلى عذاب الجحيم)!! مع نوع من التزيين والتشجيع بقوله: (ومتى قبلت دعوتنا… لم نتوقف عن الالتحاق بك)، ووصف الملك بأنه متورط إلى الآن في حبائل الشيطان، ثم أظهر له الدعاء بالنجاة من ذلك، بل وصل به الأمر إلى أن يعرض عليه النفاق والتقية مع المسلمين بعدم إظهار تنصره بأن يسر بذلك من يبعثهم الراهب.

2- جملة ما في رسالة الباجي

نبه الباجي على ما وصفت به رسالة الراهب فذكر (نصيحته) و(إظهار طويته) و(مودته).

أشار إلى رسالة سابقة من الراهب لم يعبأ بها بسبب ما احتوته كما ذكر الباجي من قدح في الأنبياء والرسل وأن الملك رد عليه بخطاب موعظة لا محاججة كما قال الباجي: (منهج الخطب والرسائل لا على طريق البراهين والدلائل) مع الرفق في الخطاب واللين في الموعظة.

وأول ما بدأ به الباجي الرد أن قصد دعوى الراهب في بنوة عيسى لله.. فاستدل على حدوث عيسى بأعراضه من تغير وسكون وحركة… وأن هذا معارض لصفات الإله القديم.. وأنه على افتراض ألوهية عيسى مع وجود أعراض الحدوث لم يمكن دعوى حدوث غيره بوجود أعراضه ثم بين عقيدة أهل الإسلام في عيسى ونفى عنه الألوهية بقياسه على آدم قياس الأولى فكما أن آدم ليس إلاها مع صوره عن تراب من غير أب وأم فعيسى من باب أولى لأنه صدر عن أم بلا أب.

وأبطل أن تكون معجزات عيسى دالة على نوع من الألوهية لأنه يشارك غيره من الرسل في جنسها ومع ذلك لم يدعى فيه نوع من الألوهية، وشاكل الباجي صنيع الراهب في وصف الدنيا وبيان دناءتها وحقارة قيمتها، ودعا مع الراهب (ونرجو أن الله تعالى ينجيك بالإسلام…) ومدح القرآن الكريم مقابلا بذلك ذكر الراهب للتوراة وغيرها، وقد استعمل بعض مصطلحات اللاهوت النصراني (ملكوت رب العالمين) وتحفظ عند استعمالها أحيانا (الناسوت عندكم) (الأب عندكم)، وصرح له بتقدم المسلمين في معرفة علم اللاهوت (وعندنا من علم شريعتكم واختلاف أخباركم.. ما لو أبدينا.. اليسير منه لحيرهما وبهرهما وعلما أن عندنا.. ما لم ينته إليه أحد من أهل ملتكم).

بل خاطبه بذلك نفسه فقال: (لو كنت لدينا لأريناك في هذا من كلام متقدمي أهل ملتك ثم من تقريع المسلمين على ذلك وتتبع الحجج بما لم يبلغه قط أحد منهم ولأسمعناك من غرائبه وعجائبه وتلفيقاته وتناقضاته وفضائحه واضطراب رواة الأناجيل ما يملأ سمعك ويطيش له لبك لكن الكتاب لا يحتمل التطويل…) (ص:85).

وضرب لتناقضات رواة الأناجيل أمثلة، ووصف الراهب من طريق التعريض والتصريح بالجهل والتناقض والكذب والخروج عن مقاصد المناظرة ..واستعمال التمويه والتلفيق، وانتقد استعمال الخطابة في الرسالة من قبيل وصف نفوس النصارى بالنيرة بأن كل صاحب ملة كذلك يزعم حتى البراهمة والدهرية، وانتقد زعمه أن عيسى بذل دمه ليؤمن الناس، وأنه آمن به قليل أقل ممن آمن بالرسل والأنبياء غيره وعلى رأسهم نبينا عليه الصلاة والسلام، واستنكر على الراهب وصف الإله بوجود دم فيه والدم من المحدثات، ووصف حال الراهب في فساد العقيدة المبنية على المحال بأنه إما سالك مسلك الآباء فلا يخرج عنه أو أنه يعرف فسادها لكنه يؤثر البقاء عليها ترضية لعامة أهل ملته لكيلا تنحط رتبته عندهم.

وقد سلك الباجي أسلوب الثناء والقدح في آن واحد فيقول: وإني لأعجب على ما ينقل إلينا من فضلك في قومك وتقدمك عند أهل ملتك مما يبدو من فرط غفلتك وعدم معرفتك، وانتقد على الراهب جعله مراد إبليس أنفذ من مراد الرب الذي بذل دمه لصلاح الناس فلم يؤمن إلا القليل… في قوله: (إن إبليس اللعين يقدر أن يضل من شاء الله أن يهديه)، وذكر له إعجاز القرآن الكريم وتحديه للعرب وذكر بعضا من شرائع الإسلام وآدابه وشيئا من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا صدقه، وذكر حرصه على هداية الراهب وأنكر عليه التلاعب بالمصطلحات التي لا يعرف هو نفسه معناها كـ(الجواب الروحاني) ثم عرض بعرضه التقية على الأمير بقوله: وقد أودعنا صاحبيك الواردين علينا سرا وجهرا وبدءا وعودا ما نعتقده مما أعزنا الله به من الإسلام.

قراءة في رسالة راهب فرنسا لأمير سرقسطة ورد الباجي عليه

3- وقفات مع الرسالتين:

قد يستشكل بعض الناس جرأة راهب على مخاطبة أمير من ملوك الطوائف بهذه الطريقة، ويزول هذا الاستشكال بمعرفة كون هذا الراهب كبير رهبان دير كلوني في شرق فرنسا، وهو القديس هوغ الأكبر[5]، سليل نبلاء بورغوني، وهو دير مشهور[6] لا يزال الفرنسيون يحتفون به ويتذكرون موقعه الفكري والسياسي في تشكيل أوروبا الحديثة، ولذلك احتفل بألفية الدير سنة 1910م.

وهو دير كبير بقيت معالمه قائمة إلى الآن والذي تمت آخر توسعاته وهي الثالثة بأمر من القديس هوغ. ولمعرفة قدر هذا الراهب الفرنسي يكفي أن نعرف بأنه أحد أكثر الرهبان تأثيرا في أوروبا النصرانية بسبب نشاطه الملاحظ في توسعة نفوذ الدير فكريا ودينيا، فقد وصل الأمر بهذا الراهب إلى أن كان الملك هنري الثالث يستشيره، بل كان له مكانة وهيبة في نفوس باباوات روما مثل البابا ليون الرابع ونيكولاس الثاني وإيتيين الخامس وجورج السابع وأوربان الثاني مهندس الحملة الصليبية الأولى سنة 1095م!!!!

وقد وصل نفوذ هذا الراهب إلى ممالك شمال إسبانيا، فكان محل تقدير عند ملوك القوط خاصة ألفونسو، وقد سافر هذا الراهب إلى إسبانيا مرتين، وكان تحت نفوذه نحو 10000 راهب في نحو 350 ديرا في غرب أوروبا، ولذلك كان خطابه للأمير خطاب ند ومماثل تقريبا لما عرف له من السيطرة الفكرية على غالب كنائس أوروبا.[7]

وينبغي استحضار الشرف الديني والتاريخي الذي حظيت به فرنسا بكونها حامية النصرانية في أوروبا بعد الانتصار الذي حققه الجيش الفرنسي بقيادة شار مارتيل على المسلمين في بواتيه (114هـ/732م) قرب مدينة تور على مشارف باريس بنحو 340 كلم، بقيادة القائد عبد الرحمن الغافقي الذي استشهد في المعركة، وهذا أمر يعطي للراهب الكبير أهلية الحديث باسم الكنيسة الأوربية متجاوزا في ذلك بابا روما.

كما أنه قد يستشكل البعض طريقة الباجي في الرد على الراهب، فقد ظهر عليها الأسلوب الاستعلائي الملكي، ولا وجه للاستشكال لأن الباجي كان يتكلم باسم الأمير، وكذلك سيقرؤها الراهب.

ويبقى السؤال المهم.. لماذا يحرص الراهب الفرنسي على استمالة الأمير السرقسطي، والجواب أن هذه المحاولة تأتي في سياق المراحل الأولى لحروب الاسترداد القوطية للمناطق المأخوذة منهم، فإنه بعد مدة قصيرة ستسقط طليطلة[8] عاصمة بني ذي النون بيد الإسبان سنة (477هـ/1084م) بعد حصار خانق، ويحول الجامع الكبير إلى كتدرائية تابعة للتوجه الكنسي الكلوني الفرنسي[9]، وقبلها كانت فاجعة مدينة بربشتر في أقصى الشمال الشرقي للأندلس سنة (456هـ/1064م).

لا يعرف متى أرسلت الرسالة، لكن المعروف أن هذا الراهب كلف إدارة الدير من سنة 1049م إلى 1109م وهي سنة وفاته، وهو الراهب السادس من 59 راهبا تعاقبوا على إدارة الدير منذ سنة 910م ميلادي إلى 1800م. ومع ملاحظة أن الأمير المقتدر بالله توفي سنة 1081م يمكن تضييق المجال الزمني المحتمل لتبادل الرسائل بين الطرفين.!

فإن علمنا أن الرحلة الثانية للراهب إلى إسبانيا كانت سنة 1090، فيغلب الظن حينها على أن رسالته كانت خلال رحلته الأولى في حياة الأمير السرقسطي… لكن المثير في كل هذا أن الفترة الزمنية التي أرسلت فيها الرسالة كانت مرحلة انتقالية في تاريخ إسبانيا النصرانية، وكان لهذا الراهب اليد العليا في توجيه السياسات التي أنجحت بدايات حرب الاسترداد… وأقترح مزيد اشتغال على دور هذا الراهب في ذلك فإنه جدير بالملاحظة، وقد تختزن حياته إجابات مثيرة عن أسئلة ربما تثار عند قراءة أحداث تلك المرحلة.

ومن الأمور التي ينبغي الانتباه لها في هذه الرسائل هو دور العلماء المسلمين في هذه الحوارات الرفيعة، وتفويض السياسيين لهم في مثل هذه الأمور، وبيان خطورة الجانب الفكري في العلاقات السياسية بين الدول. وهو أمر يدل على أن الجمع بين الإدارة السياسية والفكر والعقيدة والشريعة هو الطريقة الأنسب والأفضل في بناء الأمن القومي والروحي لأي بلد، وأن الفصل بينهما قد يعرض البلاد والعباد لتدمير الهوية وإفساد السلم الاجتماعي وتقويض الأمن الروحي لهم.



[1]– سميتها مناظرة لأنها احتوت على مناقشات بين مختلفين, بل قد صرح الباجي بما يفيد ذلك فقال مثلا: (حملنا ذلك منك على ما عهدناه من أهل ملتك من قلة العلم, والبعد عن مقاصد المناظرة) وقال: (ويعوضك علم الحقائق وصحيح المقاصد وأدب المناظرة التي تفضي بك إلى السبل اللائحة والحقائق الواضحة).

[2]– أحمد بن سليمان بن هود، توفي سنة 474هـ.

[3]– طبعها باسم: (رسالة راهب فرنسا إلى المسلمين، وجواب القاضي أبي الوليد الباجي عليها) سنة 1406هـ المرافق لسنة 1986م.

[4]– يقول الدكتور الشرقاوي واصفا قيمة الرسالتين (ص11): (فهاتان وثيقتان بالغتا الأهمية، لأنهما تكشفان عن جانب من العلاقة الثقافية، أو الجدلية الدينية أو الحضارية بين المسلمين في الأندلس والنصرانية في أوروبا الغربية في القرن الخامس الهجري)

[5]– أنظر كتاب (la vie de saint hugues )لـ(huillier) في نحو 700 صفحة و(le grand dictionnaire historique/p179).

[6]– أنظر (le millénaire de cluny)، هي مجموعة محاضرات عرضت في ندوة في الموضوع سنة 1910 بباريس، ومثله كتاب (histoire de cluny) لـchaumont.

[7]– أنظر الاستشراق لزقزوق (ص:24).

[8]– سيسترد المغاربة الموحدون طليطلة بعد انتصارهم في الأرك سنة (591هـ/1195م) من يد ألفونسو الثامن.

[9]– فما محل وسياق رسالة المدعو رشيد المغربي المتنصر من مخاطبة الملك محمد السادس؟

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M