كم قارض للأعراض، وعرضه بين شقي المقراض؟ (ح2)

20 فبراير 2015 21:49
كم قارض للأعراض، وعرضه بين شقي المقراض؟ (ح2)

كم قارض للأعراض، وعرضه بين شقي المقراض؟ (ح2)

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الجمعة 20 فبراير 2015

وقفنا -في المقال السابق- عند أحد أعظم أسباب التحصين الداخلي للأمة الإسلامية، وهو ضرورة حسن الظن بالناس، والترفع عن اتهامهم بغير بينة، وترك الطعن فيهم بمجرد الشبهة. وتبين لنا أن تنكب أن اقتراض الأعراض بركوب سوء الظن مدعاة إلى زرع الخصومات، وإثارة الأحقاد والعداوات، وإشعال فتيل التارات، ونشر الفرقة والمناوشات، وإذكاء روح الخلافات، مع أن حرمة المسلم في ديننا محفوظة، وكرامته موفورة، مما استوجب ترجيح جانب الخير فيه قبل التمضمض باتهامه، ونشر حسناته قبل التلمظ بسيئاته، إذ حقيقة الظن -كما قال الإمام النووي-: “تهمةٌ تقع في القلب بلا دليل”، فهو عملٌ الخطأُ فيه مأزور، والصواب فيه غير مأجور.

ولا بأس من تعميق النظر في هذا الملمح، علنا نقع على النهج القويم لاتِّزار سلامة الصدر بسربال الظن الحسن، ودفع اشتمال النفس بدثار الظن السيء، الذي ما اعتور قلبا إلا أفسده، ولا جسما إلا أنهكه، ولا عقلا إلا أسقمه، وذلك من خلال بيان بعض أنواع حسن الظن:

1- حسن الظن بالله -عز وجل-:

فالله – تعالى – أحقُّ مَن حَسن ظنُّ المؤمن به، ولا يسيء به الظن إلا كافر، أو مشرك، أو منافق. قال تعالى: “يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ“. وقال تعالى: “وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ“.

أما المؤمنون، فقد أمروا بأن تكون آمالهم في عفو الله كبيرة، ورغبتهم في رحمته جسيمة، وآمالهم في نصره عظيمة. قال تعالى في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاءصحيح الجامع.

وأعظم ما ينفع حسن الظن بالله تعالى عند الموت. فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجلمسلم.

فلا تَظْنُنْ بربك ظنَّ سَوء *** فإن اللهَ أولـى بالجـمــيل

وليس معنى هذا أن يتكل المسلم على حسن ظنه بربه، فيترك العمل والاجتهاد في فعل الخير. قال الحسن البصري -رحمه الله-:”إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم حسنة، يقولون: نحن نحسن الظن بربنا..  ولو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل”.

2- حسن الظن بالناس عموما، والنظر إليهم بعين التفاؤل، التي تلمح الخير فيهم وتنشره، وتغمض عن جانب الشر وتستره، مع دوام النصح بالتي هي أحسن.

يقول رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أو أَهْلَكَهُمْمسلم، لأن هذا من باب إطلاق العنان للسان يفري في أعراض الناس بلا خجل أو ورع. يقول ابن القيم -رحمه الله-:”وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول”.

يقول قعنب بن أم صاحب:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا***مني وما سمعوا من صالح دفنوا

صم إذا سمعوا خـيرا ذكـرت بـه***وإن ذكـرت بسـوء عـندهـم أَذِنوا

فيا أيها المؤمن، سارع إلى التصون لنفسك، والتحفظ لقلبك، وإِنْمَاءِ جانب الخير فيك، ولا تعامل الناس إلا بمثل ما تريد أن يعاملوك به، حينها تعرو نفسَك الراحة، وتملأُ جوانحَك السعادة، وتغمرُ حياتَك الطمأنينة.

فعَن ابْنِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي وَفِيَّ ثَلاثُ خِصَالٍ: إِنِّي لآتِي عَلَى الآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَوَدِدْتُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ مِنْهَا. وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلَعَلِّي لا أُقاضِي إِلَيْهِ أَبَدًا. وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ، وَمَا لِي بِهِ مِنِ سَائِمَةٍ“.

هكذا المسلم، يدفعه حسن ظنه أن يفرح لفرح إخوانه، وأن يحزن لحزنهم، لا يبغضهم، ولا يحسدهم ويتمنى زوال نعم الله عليهم، ولا يتجسس عليهم ليفضحهم، ولا يخاصمهم ليشمت بهم.

أخرج البُخَاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إلا أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ“. حتى والمسلم يجلد في حد من حدود الله لا يساء به الظن، ولا يسب أو يلعن، فالله تعالى أعلم بخفايا القلوب والضمائر.

ذكر ابن الملقن في طبقاته قال: “كان معروف الكرخي قاعدا يوما على دجلة ببغداد، فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون، فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ ادع عليهم. فرفع يديه إلى السماء وقال: الهي وسيدي، كما فرحتهم في الدنيا، أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له صاحبه: إنما سألناك أن تدعو عليهم، ولم نقل ادع لهم. فقال: إذا فرحهم في الآخرة، تاب عليهم في الدنيا، ولم يضركم هذا“.

وقد قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -رضي الله عنه- فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا. فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: “اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْمتفق عليه، فكان أن جاؤوا مسلمين.

هذا الذي ينفع المسلم في سائر حياته، بل وعند موته -أيضا-.

فهذا أبو دجانة -رضي الله عنه-، دخلوا عليه في مرضه ووجهه يتهلل، فقالوا له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: “ما من عملِ شيءٍ أوثقَ عندي من اثنتين: كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا“. بماذا كان سيحس لو أنه كان يظلم هذا، ويعتدي على هذا، ويغتاب هذا، ويتتبع عورة هذا، ويفتش عن أمر هذا، ويسيء الظن بهذا، ويتهم هذا..؟

إذا رمتَ أن تحيا سليماً من الأذى***ودينك موفور وعِرْضُكَ صَيِّنُ

لِسَانَـكَ لا تَـذْكُرْ بِهِ عَـورَةَ امـرئ***فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْـسُـنُ

وَعَــيـنـكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَـيكَ مَعَايِـباً***فَصُنْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّـاسِ أَعْينُ

3- حسن الظن بين الزوجين:

إن من أعظم الأسباب المؤثرة في السير العادي للأسر، هو سوء الظن الذي يستشري بين أركانها، وبخاصة بين الزوج وزوجته، حيث تشيع الاتهامات، وتتناسل الظنون، وتعظم الوساوس والشكوك، فترى أحدهما يراقب الآخر بالعين والتجسس، والتسمع والتحسس، ليعرف مداخله ومخارجه، ومصادره وموارده، وكأن الأسرة تعيش حربا باردة ما تفتأ تقفز إلى السطح لتستحيل صراخا، وضوضاء، وعنفا، وخصومة، ومقاطعة ثم طلاقا وافتراقا.

ولقد حسم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوابت استقرار الأسرة، بنزع فتيل الشك من أركانها، وسد منافذ الشيطان في جنباتها. فقد جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ. فَقَالَ له النبي -صلى الله عليه وسلم-: “هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟”. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “مَا أَلْوَانُهَا؟”. قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: “هل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ (أسمر)”. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟”. قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. قَالَ: “فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌمتفق عليه.

وأوصى -عليه الصلاة والسلام- بأن لا يتجسس الرجل على زوجته ويسيء بها الظن، فيدخل البيت من ليل أو نهار، فجأة وبلا استئذان.

 فعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً، يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْمسلم. بل عليه أن يصك أذنيه عن كلام الناس، فلا يعبأ بالمشوشين، ولا يلتفت إلى الواشين، وأن يكون متغافلا في بيته، لا يكثر السؤال والتفتيش، والتتبع والتنقيب، ومن التمس عيبا وجده، فالأولى به التغاضي والتجاوز، إن خرج من بيته أَسِد، وإن دخله فَهِد، لا يسأل عما عَهِد، فذاك ملح السعادة الأسرية، ووقود العلاقات السمحة الطيبة. أما التشكك وسوء الظن من غير ريبة، فهما الهلكة التي يذكي نارها الشيطان، فلا يرتاح حتى يفرق بهما بين الزوجين.

وحسبنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:”إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ، فَيَلْتَزِمُهُمسلم.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M