طغيان العلمانية والعلمانيين؛ إلى أين؟ وإلى متى؟

24 فبراير 2015 17:48
طغيان العلمانية والعلمانيين؛ إلى أين؟ وإلى متى؟

طغيان العلمانية والعلمانيين؛ إلى أين؟ وإلى متى؟

د. محمد وراضي

هوية بريس – الثلاثاء 24 فبراير 2015

ضعوا أيها القراء خريطة العالم السياسية في القارات الخمس أمامكم، فإنكم سوف تجدون لا محالة التهارش الغربي منذ قرون على كل ما يشبع نهمه إلى استعباد واستغلال واستغفال الملايين!

وتساءلوا -من باب حب الاطلاع وطلب الحقيقة- عن آلاف مؤلفة من الزنوج الذين حملوا حملا إلى الدول الاستكبارية للنفخ في ثروات الإقطاعيين، قبل النفخ في ثروات البورجوازيين الرأسماليين!

ثم تساءلوا عن عدد السنين التي خضعت فيها دول أفريقية بعينها للاحتلال المقيت! إنكم لن تجدوا غير شعوب قضى الاستعمار على أراضي بعضها أربعة قرون! وثلاثة! وقرنين! وقرنا ونيفا كحال الجزائر، التي جرى احتلالها منذ عام 1830م! والتي لم تخرج تحت وطأة الغزاة الفرنسيين إلا في حدود عام 1962م! مع أن استقلالها كان مشروطا بحق الفرنسيين في إجراء التجارب النووية على أراضيها الصحراوية لفترة، تم الاتفاق عليها بينهم وبين المتفاوضين باسم الشعب كما يدعون!

وأغلب الظن كما يقال: هو أن التجارب النووية التي تخص الدولة العبرية، إنما جرت جنبا إلى جنب مع التجارب الفرنسية في نفس المنطقة! دون أن نخوض في النبش بخصوص مفاوضات المغاربة مع المحتلين في إيكس ليبان؟ فقد تركت قضية استعادة أجزاء من ترابنا في شرق بلدنا دون الانتهاء بشأنها إلى حل! تلك التي كان المستعمرون يضمونها واحدة تلو أخرى إلى الجزائر معتقدين نحن من طرفنا أن الجزائريين بعد استقلالهم سوف يعيدونها إلينا عن طيب خاطر! فإذا بالأيام توضح كيف أن طمعهم في إضافة صحرائنا المسترجعة إليها -أي إلى أراضينا الشرقية المنهوبة- تقوي من شدة لعابهم الذي سال ولا يزال يسيل على مياه المحيط الأطلسي!

ثم تساءلوا أيها القراء عن ملايين الأرواح التي أزهقت في الغرب الأوربي، والصراع بين العلمانيين والكنائس صراع لم ينقطع لقرون! ولا لسنوات! ولا لأجيال! مرة طرفاه البابا والإمبراطور! ومرة طرفاه ملك ورهبان الكنائس هنا وهناك!

تساءلوا عن لب الصراع الذي نؤكد لكم بأدلة قاطعة، كيف أنه لم يكن قط بين المناصرين للأحكام الدينية الشرعية المنزلة -لأن الأناجيل كما نقول ونكرر لا تتضمنها- وبين الرافضين لها من طرف من لا يرون غير الاحتكام إلى العقل والأهواء! وتأكدوا بأن الصراع أساسه الكهنوت الذي جرى ابتداعه من طرف رجال الكنيسة، والذي وصف بالسلطة الروحية، وبين من يرفضون الخضوع لتلك السلطة التي مثلت حجر عثرة أمام خروج الغرب الأوربي من ظلاميات العصور الوسطى!

اسألوهم كي يخبروكم بأن قوانينهم الوضعية حتى أواخر القرن الثامن عشر، كانت تميز “بين الأفراد ولا تعترف بالمساواة بين المحكومين (بل إنها) كانت تميز بينهم في المحاكمة وفي توقيع العقوبة وفي تنفيذها! وكانت المحاكم متعددة تبعا لتعدد طوائف الأمة! فللأشراف محاكم خاصة وقضاة من طبقة معينة! ولرجال الدين محاكم خاصة! وللجمهور محاكم خاصة! ولكل من هاتين الطائفتين قضاتها! وكانت الجريمة الواحدة يعاقب عليها أمام هذه المحاكم بعقوبات مختلفة! وكان لشخصية الجاني اعتبارها في القانون! فالعمل الذي يأتيه الشريف ويعاقب عليه بأتفه العقوبات، يعاقب الشخص العادي إذا أتاه بأقسى العقوبات! وكانت العقوبة تنفذ على الشريف بطريقة تتفق مع شرفه! ولكنها تنفذ على رجل الشارع بطريقة تتفق مع ضعته وحطته”!

ونحيلكم أيها القراء الأفاضل على كتاب الحدود في صحيح البخاري حيث تقفون على قوله صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد (= عاقبوه). وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع محمد يدها“!

وإن سألتمونا أيها القراء الكرام عن كون المساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية، جرى ويجري حتى الآن تطبيقها بالكامل في العالم الغربي، لأخبرناكم بأنها -على العكس مما يدعي العلمانيون- لم تطبق بالكامل!

فالقوانين الوضعية تميز دائما “بين رئيس الدولة الأعلى، ملكا كان أو رئيس جمهورية، وبين باقي الأفراد، فبينما يخضع الأفراد للقانون، لا يخضع له رئيس الدولة، بحجة أنه مصدر القانون، وأنه السلطة العليا، فلا يصح أن يخضع لسلطة هي أدنى منه وهو مصدرها”! والحال أن رؤساء الدول وملوكها وأمراءها، طالما امتدت اعتداءاتهم إلى ممتلكات الغير، وإلى أموال الأمم وخيراتها بواسطة الجلاوزة المحترفين، الذين يرتدون أكثر من لباس! ولا يستطيع المعتدى عليه أن يرفع دعوى ضد رئيس الدولة أيا كانت صفته أو لقبه؟

وتعتبر “بعض الدساتير ذات الملك مقدسة كالدستور الدانمركي، والدستور الإسباني قبل الجمهورية. أما الدستور الإنجليزي فيجعل ذات الملك مصونة لا تمس، ويفترض أن الملك لا يخطئ! وفي بلجيكا ومصر (قبل الثورة)، ذات الملك مصونة لا تمس، وكذلك كان الحال في إيطاليا ورومانيا قبل إلغاء النظام الملكي”!

وقد لا ندعي زورا وبهتانا، إن نحن أكدنا كيف أن نظرية المساواة التي هي من ضمن مبادئ ديننا، لم يتم نضجها وتكوينها في القانون الوضعي الحديث إلا في أواخر القرن الثامن عشر، أي بعد أن أدركت في الشريعة الإسلامية أقصى مداها! يكفي المفكرون المثاليون الباحثون عن المساواة التامة، أن يرجعوا إلى الشريعة الإسلامية، فإن المساواة التي يبحثون عنها قائمة فيها، فقد قررتها من يوم نزولها على إطلاقها “فلا قيود ولا استثناءات، وإنما مساواة تامة بين الأفراد، ومساواة تامة بين الجماعات، ومساواة تامة بين الرؤساء والمرؤوسين، لا فضل لرجل على رجل، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي”. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كرئيس دولة، لا يدعي لنفسه قداسة، بل إنه كان يقول: “إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي“. وكان قدوة لخلفائه من بعده. فعندما دخل عليه أعرابي، فأخذته هيبته قال له صلى الله عليه وسلم: “هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق“!

وهذا عمر بن الخطاب يقول: “لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقا وغربا. فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه“! فقال له طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟ قال عمر: “القتل أنكل لمن بعده“!

دون أن نخوض هنا في تناول بعض مما يعرف لدى العلمانيين اليوم بالقيم الكونية، والتي هي من قيم الإسلام التي جرى اعتمادها قبل أن ينسبها من يجهلون تاريخنا إلى الثورة الفرنسية. فالأخوة والحرية والمساواة والشورى، لم تكن عن ديننا غائبة، لكنها كانت غائبة عن بقية أمم العالم طوال القرون الوسطى! وحتى عندما أقرتها الثورة الفرنسية. وأقرها من تأثروا بها، وجدناها غير ناضجة تمام النضج.

فالأخوة والتسامح اللتان يدعي الغرب التحلي بهما، انطلاقا من مضمون الأناجيل الأربعة، أو حتى انطلاقا من العقل الناقد المتبصر، لا نجدهما في الواقع الذي يقدم لنا التهافت والتهارش على الملذات والماديات إلى حد الدخول في حروب أتت، ولا تزال تأتي على الأخضر واليابس، حتى ولو كان الأوربيون هم وقودها! فالتسابق لاحتلال ما أمكن احتلاله من بلدان العالم، ترجمة مباشرة للحصول على مصادر الثروة واليد العاملة بأقل ثمن، أو بأقل كلفة! ومن أجل هذه المصادر، ومن أجل التعالي والزعامة، قامت الحرب العالمية الأولى والثانية.

ولتسألوا أيها القراء إن شئتم عن ضحايا هاتين الحربين، وعن مختلف نتائجهما بعد أو وضعتا -في الظاهر على الأقل- أوزارهما. فخسائر الحرب العالمية الأولى 8 ملايين و700 ألف نسمة. بصرف النظر عما تم تدميره من موانئ وجسور، ومعامل، ومصانع، ومعاهد، ومطارات، ودور آهلة بالسكان. أما عدد الجرحى في نفس هذه الحرب فقد فاق 22 مليون نسمة. ووصل عدد الأسرى والمفقودين إلى 8 ملايين نسمة. دون استبعاد من جندهم المستعمرون من أبناء الدول التي تم لهم احتلالها عن الإحصاء العام للخسائر البشرية! إذ كانت بعض الدول مرغمة على مساعدة أطراف من المتحاربين حتى لا تتعرض لأكبر الخسائر المحتملة، كحال بلجيكا وفرنسا وبريطانيا مع مستعمراتها الأسيوية والأفريقية. بحيث تكون لعنة العلمانية قد نزلت بثقلها على كاهل جل الدول الأوربية، بل حتى على كاهل دول وشعوب لم تكن لهم في تلك الحرب الهمجية الملعونة لا ناقة ولا جمل!!!

أما خسائر الحرب العالمية الثانية فبلغت 26 مليون نسمة! وحتى الآن لا يزال بعض ممن شاركوا فيها مكرهين من أبناء الدول المحتلة كبلدنا على قيد الحياة. مما يعني أنه في ظرف 23 سنة، هلك من الأوربيين ومن غير الأوربيين 34700 مليون نسمة! بصرف النظر عن المعطوبين والأسرى والمفقودين الذين لم يتم إحصاؤهم في الحرب العالمية الثانية؟ وبصرف النظر عن أكبر مجزرة حصلت في الصين ما بين عام 1949م وعام 1965م! فقد أباد عهد ماو تسي تونغ ما يعادل 27 مليون نسمة! انتصارا منه لوجه من وجوه العلمانية المقيتة يعرف بالشيوعية أو بالاشتراكية الثورية! ما عدا عشرات الألوف الذين قتلوا خلال مسمى الثورة الثقافية عام 1966م. والتي كان اليسار العلماني عندنا نحن العرب والمسلمين، يصفق لها بحرارة فائقة! وبصرف النظر -قبل ذلك- عن القنبلة الذرية التي ألقاها الأمريكيون على هيروشيما في 6 غشت 1945م. والتي خلفت وراءها 91 ألف قتيل! و10 آلاف بين جريح ومفقود! وبصرف النظر عن القنبلة الذرية الثانية التي ألقيت على مدينة ناغازاكي في 9 غشت من نفس العام! فذهب ضحيتها 73884 ألف قتيل! و60 ألف بين جريح ومفقود! وبصرف النظر عن أكبر مجزرة في الاتحاد السوفياتي، والتي جرت ما بين عامي 1936م و1938م. والتي قام بها النظام البوليسي الذي أراد تطهير الفئات المناوئة له. وبلغ عدد ضحايا تلك المجزرة 10 ملايين نسمة! ثم نذكركم بأن النازيين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية بين عام 1940م وعام 1945م 6 ملايين يهودي من بين الثمانية ملايين ونصف المليون الذين كانوا يعيشون في البلدان التي احتلتها ألمانيا. وتعود الأسباب الظاهرية إلى التصنيف العرقي الذي وضعه هتلير!!َ!

وليس معنى هذا أن جرائم العلمانية والعلمانيين قد توقفت عند حدود انتهاء الحربين العالميتين، وإنما حول المنتصرون فيها (وهم في الحقيقة منهزمون إنسانيا) بوصلة تهارشهم على خيرات الدول المستضعفة إلى اتفاق غير معلن، مؤداه تقسيم النفوذ الذي يحول دونهم وتكرار المواجهات الدامية المدمرة في عقر الديار! مما يعني أن عملية الاستغلال والاستبداد وجني الثمار، لا بد أن تتحول إلى خارج أوربا! وقوامها الأساسي، وضع مختلف العراقيل أمام الدول النامية وشعوبها، حتى لا تتخلص من الخضوع المادي والفلسفي الأوربي الذي يغطي مختلف مجالات الحياة! إذ كل تغافل عن تحركات تلك الدول للخروج من التخلف، سوف لا يترك للكبار ما يمكن لحسه من الحيس كما يقول المثل العربي!

فتكون هكذا الأمم المتحدة ومجلس الأمن وحق الاعتراض (الفيتو) وسائل لإحكام الطوق حول رقاب الصغار الذين وقع زعماؤهم المفترضون أسرى في يد الاستكبار الدولي! أي أنهم أصبحوا مجرد موالين تابعين بأبخس الأثمان! بحيث إنهم ينفذون ما يملى عليهم في العواصم الغربية! دون أن نغتر بالمظاهر الخداعة عندما ينقسم هؤلاء المنفذون إلى فئتين: فئة كانت تلهت وراء مسمى المعسكر الشرقي! وفئة كانت تلهث وراء مسمى المعسكر الغربي!!!

ولن نمر هكذا -وقد أوضحنا باختصار شديد، ما لا بد أن تطلع عليه الجماهير الشعبية في الدول العربية والإسلامية- نقول: لن نمر هكذا دون التذكير بالجبروت العلماني الذي مارسه الكبار وأذيال الكبار لاحقا، للإبقاء على الشعوب خاضعة خانعة ذليلة، حتى لا تخرج في الحقيقة عن طوع الإمبريالية بمختلف ألوانها وأشكالها! فقد تغول الفرنسيون في الهند الصينية، وقمعوا الجماهير في الدول التي تم لهم احتلالها، إلى حد أن الجزائر وحدها قدمت لنيل استقلالها مليونا من الشهداء. ودور الإنجليز في الإبقاء على العنصرية معروف للعامة والخاصة في جنوب أفريقيا! ودور الأمريكيين بعد الفرنسيين في الهند الصينية نفسها دور طغى على أروقة مجلس الأمن وعلى الكونغريس الأمريكي لسنوات طويلة! وصمود الشعوب في وجه الطغيان الغربي صمود سجله التاريخ المعاصر مصحوبا بوثائق تحمل فضائح مجسدة لظلاميات العلمانية البغيضة محلية كانت أو دولية!!!

كلها وصمات عار لا تبرر الزعم القائل بدون ما حياء وبدون ما خجل: إن الدول المتبنية لليبرالية الرأسمالية هي وحدها التي تستحق أن توصف عن جدارة بالعالم الحر!

وبما أن مريدي الأمبرياليين كاستكباريين من الدرجة الثانية، مارسوا منذ استقلال دولهم ما تمليه عليهم النظرة الدونية إلى شعوبهم، فإنهم قد وفروا لأصحاب “الفيتو” في مجلس الأمن كل ما يرغمونهم على توفيره!

فكان أن بلغ الأمر بالمريدين هؤلاء إلى حد الاستعداد التام للوقوف علنا مع أعداء الشعوب لتحقيق ما يحددونه لهم من أهداف، وما يطلعونهم عليه من استراتيجيات ومن مخططات! فمن لم يحضر من هؤلاء المريدين بجنود بلده لقتل إخوانه في العروبة والإسلام، فتح أجواء بلده وأراضيها وبحارها للغزاة الآثمين! إنهم في أفغانستان! وفي العراق! وفي ليبيا! وفي سوريا الآن! بحجة مواجهة مسمى جماعات إرهابية! بحيث يكون من حقنا في هذه اللحظات العسيرة طرح تساؤل مشروع مضمونه: أو ليس الإرهاب العلماني مصدرا لمسمى الإرهاب الديني؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M