البعد الإصلاحي عند العلامة عبد السلام الخرشي من خلال محاضراته في علوم القرآن والحديث

06 مارس 2015 23:37
البعد الإصلاحي عند العلامة عبد السلام الخرشي من خلال محاضراته في علوم القرآن والحديث

البعد الإصلاحي عند العلامة عبد السلام الخرشي من خلال محاضراته في علوم القرآن والحديث

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الجمعة 06 مارس 2015

لم يكن العلامة عبد السلام الخرشي في كل أنشطته العلمية، والأكاديمية، والتربوية يقف من العلم موقف المحايد، الذي يهمه البحث عن المعلومة، والتثبت منها، ثم نقلها إلى المتلقي -وإن كان هذا يشكل عنده حدا أدنى من التجرد العلمي، الذي على العالم أن يثقفه قبل أن يتناول الأبعاد الأخرى لهذه المادة العلمية- وإنما ألفيناه مفعما بالحس الدعوي التربوي، الذي يراه الهدف الأسمى من كل عمل علمي، وبخاصة إذا تعلق الأمر بالوحيين، اللذين عليهما مدار الصلاح والإصلاح.

لم تكن محاضراته في علوم القرآن والحديث محاضرات أكاديمية، تستهدف نقل المعرفة المجردة حول القرآن والحديث، من حيث تعريفهما، وتدوينهما، ونقلهما، ومحكمهما، ومتشابههما، وعامهما، وخاصهما، ومطلقهما، ومقيدهما، وما يرتبط بمثل هذه الأبواب من قضايا إعجازية وبلاغية مما درجت عليه كتب علوم القرآن المعروفة، مثل إعجاز الباقلاني (402هـ)، وبرهان الزركشي (794هـ)، وإتقان السيوطي (911هـ) من القدامى، ومناهل الزرقاني (1948م)، ومباحث صبحي الصالح (1986م) والطحان (1999م) من المحدثين وغيرها، بل كان يؤم -من وراء ذلك- ما تستبطنه مثل هذه الأبواب من توجيهات إصلاحية، تخدم البشرية كما تخدم العلم، تعالج قضايا أمتنا الإسلامية التي تلاطمتها الأهواء، وتقاذفتها الإيديولوجيات، وتداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، ونبت بين ظهرانيها من صار معولَ هدم لأسسها وثوابتها، مما أضحى أسرعَ في إفساد القلوب والعقول من النار في يَبِيس العوسَج، حتى صرتُ أحسب عبد السلام وهو يحاول إرقاع ما انفرط من ناظمِ سلكِ هذه الأمة، وإلآم ما تمزق من أديمها، يضع هذه الفئة المناوئة أما عينيه، ويراها أعظم حائل دون رجوع أمتنا إلى ينابيعها الأصلية، المتجسدة في كتاب ربها، وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-.

لنستمع إليه يقرر أن الوحي أمر غير مستغرب، ما دامت دلائل وجود الله تكنف الإنسان العاقل من كل جانب. يقول: “وإذا كانت البراهين على وجود الله تحيط الناس من كل جانب، وليس للمنكرين حتى مجرد شبهة، فليس هناك ما يُستغرب في قضية الوحي، فهو أمر طبيعي، مرده إلى خالق هذا الكون ومالكه بالأصالة، لم يترك البشر يتخبطون، فوضع بين أيديهم المنهج الذي على أساسه يتساكنون”1.

كان هذا التعريف البديع للوحي، الذي يجمع بين المدلول الاصطلاحي، والبعد الإصلاحي، هاجسا لم يزل ساكنا في مخيلة عبد السلام، سيستنفر له كل مباحث الكتاب ليدلل عليه، وليرد على المناوئين الذي كانوا ماثلين أمام عينيه بكل حمولتهم المستقاة -غالبا- من الغربيين، الذي يرون في الوحي مانعا دون انتشار كامل أفكارهم في بلاد المسلمين، معتقدين أن معهم نم الفكر التنويري ما ينقذ الأمة -في زعمهم-.

ولنستمع إلى قوة رد عبد السلام، لا بمجرد الاستدلال بالنصوص، فذلك ما لا يريد أن يعترف به الخصوم، ولكن بالدليل العقلي، الذي لا يترك لصاحب شبهة مجالا للاضطراب، ولا لباغي ثلمة حيزا للاصطخاب. يقول: “ولنا أن نعمل فكرنا فيما أتوا به إلينا من كتب ومناهج، نقدا وتمحيصا، ودراسة وتحليلا، لنرى ما إذا كانت قادرة أو غيرَ قادرة على تنظيم حياتنا، وحل مشاكلنا الوجودية أفرادا، وجماعات، وأمما”2.

فإذا رجع عبد السلام إلى الوحي، الذي منه يمتح، وعليه يَنفَح، ألفيناه يقتنص منه ما يدلل به على وجود هذه الفئة المشاكسة منذ نزول القرآن الكريم، تحاول انتهاك حرمته، وتعدي حرماته، والتي عبر عنه بأصحاب “الموقف المضاد”، والتي تعتبر -في الحقيقة- امتدادا للفئات المعارضة عبر تاريخ الأديان. من ذلك قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ[الأنعام:112]. وقوله تعالى: “كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:52-53]. ثم يبين المؤلف موقف هذه الجماعة من وحي السماء، الذين تتشابه أقوالهم عبر التاريخ. يقول: “وعبر سور القرآن الكريم آياتٌ تتضمن الموقف العام لهذا الرهط من الرسالات الإلهية، والمتجلي في البذاءة والاستهزاء والرفض المجاني، وآياتٌ تحكي تصريحاتهم التي لا تختلف في الهدف -وتارة في الصيغ- باختلاف الزمان والمكان، كتصنيفهم الوحي مع الأساطير، ورميهم الرسل بالكذب، وادعائهم أن مصدر الوحي بشري وليس إلهيا، وأنه مجرد إفراز للواقع، وآياتٌ ترسم لهم صورا هي من الصدق بحيث تتطابق مع أخواتها التي تعايشنا الآن”3.

وكأني بعبد السلام يرى أن منهج الإصلاح في هذا الزمان، يبدأ من تخلية المجتمع من مثل هؤلاء المثبطين، وتنقيته من شوائب المعوقين، بما عبر عنه بعملية “التغيير الجذري المبني على التفكيك والتركيب”4، فهؤلاء أشد خطرا على الإصلاح من المعارضين المكشوفين من أهل الديانات الأخرى. فإذا تعاظمت شوكتهم، وكانت الدائرة في فترة من الزمان لهم، فليُعلم أنها سنة الله في الكون، التي اقتضت المدافعة أصلا بشريا، يتصارع فيه الحق والباطل، لتكون الكلمة في النهاية للحق. فذكر هذه النماذج في القرآن والسنة، إنما هو سوق في معرض رفع تفاجئ الأتباع “عندما يواجهون أمثال هذه العينة من الأشخاص في حياتهم الجهادية، على مستوى الأفراد والجماعات، وحتى يثبتوا على المبدإ، ويتابعوا الطريق إلى آخر الشوط، غير آبهين لكلام إنما هو اجترار وسخف، لا يمت إلى الحق بأية صلة”5.

ويخلص عبد السلام -رحمه الله- إلى أن أسس الإصلاح في الوحي، التي بها تميز عن كل الإيديولوجيات والفلسفات القديمة والحديثة، إنما تكمن في ستة أمور:

1ـ الحصانة:

 ويقصد بها أن الوحي وحده الكفيل بتحصين الأمة من كل العواصف الفكرية، التي ترعى بعض المصالح الآنية، التي قد يلمع بريقها في لحظة من اللحظات، لينطفئ نورها، ويخبو أوارها بعد حين، لغياب الرؤية الشمولية البعيدة، التي تجعل الحق حقا، والباطل باطلا، لا يتغيران على مدى الزمان، ولا يؤثر في حقيقتهما الحدثان.

وهنا نجد عبد السلام يخاطب العقول مرة أخرى، ويغرف من الواقع المعيش، الذي تنكب الحق الرباني، فتخبط في مهاوي الزيغ والفساد، وانغمس في وهدة الضياع بسوء الارتياد. يقول: “إذا نحن أسقطنا من الحساب الوحي، وفرضنا غيابه، فإن أي احتمال يصبح ممكنا. وعلى سبيل المثال: يكفي لصنع شعب أو أمة بكاملها على النحو المطلوب، وبمواصفات معينة، سيطرة مجموعة على الحكم، وتمكنها من فرض برامج تعليمية خاصة، وخضوع وسائل الإعلام لتخطيطها، ومرور جيلين أو ثلاثة، ثم بعدها تجد الأغلبية الساحقة تستحسن وتستهجن وفق ما خطط لها، وأريد بها”6، ثم يضرب الأمثلة الواقعية الحية، بالنظم المعاصرة، وبخاصة الرأسمالية التي تجعل من الربا المحرم في كل الديانات السماوية العمودَ الفقري لاقتصادها، وتجعل القوانين مطاطية يختفي مع ألفاظ الحلال والحرام، والمنكر والمعروف، ليخلص المؤلف في النهاية إلى أن الوحي هو المخلص الوحيد مما تتخبط فيه هذه النظم المنحرفة، والنظريات البشرية القاصرة. يقول: “فالوحي -إذن- هو -وحده- القادر على إيقاظ الإنسان، بعد أن تكون كثير من الأنظمة قد عملت على تنويمه، وقلب الحقائق في ذهنه، بل وصنعه على حسب الطلب”7.

ورحم الله عبد السلام، لقد كان مهموما بقضايا أمته، منشغلا بما يصلحها، مجتهدا في إنقاذها مما يحتوشها من براثن التأخر، ويُسفها من مَلِّ التقهقر والتدهور، شأنه في ذلك شأن المصلحين الكبار عبر دروب الزمان والمكان، وهو ما أحالني على أسلوب مماثل، لكن بتعابير ذلك الوقت، وأسلوب ذلك الزمان، أسلوبِ ابن حبان البستي، وهو يقدم لكتابه “روضة العقلاء ونزهة الفضلاء”، حيث قال8: “فإن الزمان قد تبين للعاقل تغيره، ولاح للبيب تبدله، حيث يَبِس ضرعه بعد الغزارة، وذَبُل فرعه بعد النضارة، ونَحَل عوده بعد الرطوبة، وبَشِع مذاقه بعد العذوبة، فنبع فيه أقوام يدعون التمكن من العقل، باستعمال ضدِّ ما يوجب العقل، من شهوات صدورهم، وترك ما يوجبه نفس العقل بهجَسات قلوبهم”.

2ـ النجاعة وسرعة المفعول:

فكل النظم البشرية التي تعاقبت على الدول والأمم، احتاجت إلى مُدد غير يسيرة، قد تستغرق عقودا، لتحويل وجهة الفكر والعقيدة والثقافة إلى وجهتها، دون أن تحقق مبتغاها المنشود، إذ ما بني على العقل البشري الضعيف، لا يمكن أن يصلب عوده، ولا أن يستقيم أوده، فالقضية ليست وضع هندسة لبناء محصور، ولا صنع آلة لمحرك موتور، إذن لهان الأمر. إن القضية قضية فكر بشري، وهم إنساني، يروم تغيير بنية أمة، وتصحيح مسار أجيال، عبر رقعة جغرافية لا تتحيز لجهة، ولا تقصر النظر على فئة. فأي منهج يمكن أن يشمل بنجاعته الزمان والمكان، مع تحقيق الهدف، وإصابة المحز، وسرعة المفعول، إلا أن يكون وحي السماء، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

نجد عبد السلام أمام هذه الحقيقة يقمش في التاريخ، ويستخرج منه ما يدل على هذه الحقيقة، التي استصعبها الأعداء، وأهملها الأصدقاء. ها هو مجتمع المدينة النبوية قبل الإسلام، كان متفككا، مضطربا، متصارعا، متناحرا، أوسه وخزرجه، كيف استحال إلى مجتمع المحبة والألفة، مجتمع الأخوة والرحمة، حتى قال تعالى: “لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[الأنفال:63]. هذا فضلا عن المجتمع المسلم بصفة عامة، حيث يصعب تصديق كون “جيل بكامله قد تَكوَّن من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.. ودانت الشام بأطرافها، والعراق، والجزيرة العربية عن آخرها، وفارس، ومصر بالإسلام، ولم تكن العشرون من الهجرة قد تمت”9.

3ـ إخباره عن الغيب:

لا يريد المؤلف أن يشعرنا باشتمال الوحي على ذكر للغيبيات بتفاصيلها وأنواعها المبثوثة في كتب علوم القرآن، إنما أراد من خلال إثبات هذه الميزة أن يرد من جديد “تطويق الفكرة السخيفة، التي تَعمِد إلى الوحي برمته فتطلق عليه (الفكر الغيبي)، لا باعتبار مصدره، ولكن تصنع ذلك تهوينا لشأنه، وبمفهوم أنه لا يهتم إلا بالغيب، ولا مجال لإعمال العقل معه”10. فالمساحة التي يغطيها ذكر الغيب في القرآن هي أقل بكثير من المساحة التي تعالج أمور الحياة وإعمار الأرض، وما ذكر من غيب يشمل الساعة، والبعث، والحساب وغيرها، يجعل المهيع أمام الإنسان منسربا نحو الإجابة عن تساؤلاته المتعلقة بعالم ما بعد الموت، فتكون حفزا على العمل الصالح، وتنبيها على أنه لا مجال للاعتداء، ولا حيز للظلم، ولا مكان للتجاوز. وهذا هو المعنى الإيجابي الذي يغلف حياة المؤمنين، فينطلقون لإعمار الأرض مزودين بأدوات النجاح، التي تهتم بالجانب المادي للإعمار، دون أن تغفل الجانب الروحي الإيماني.

4ـ ارتباطه بالواقع:

لقد أنزل الله تعالى وحيه ليعالج قضايا الناس، وليناقش تفاصيل حياتهم، وليكون قريبا منهم، في معاملاتهم، وأخلاقهم، واقتصادهم، وسياساتهم، بل وحضارتهم برمتها، “ما فرطنا في الكتاب من شيء”، حتى إذا حصل شيء من التناقض في مجتمع المسلمين، عُلم أن مرجعه إلى خلل في القيام بالدين على الوجه المطلوب. يقول المؤلف في نبرة تملؤها الحسرة، ويسيجها الأسى، معبرا عن الفكر التجزيئي الذي ابتلي بعض المنتسبين للدين والعلم، فأساؤوا إلى الدين والعلم من حيث أرادوا خدمتهما، حين عكفوا على بعض التفاصيل، واستفرغوا وسعهم في جوانب خاصة دون غيرها، مما جعل الوحي يبدو بعيدا عن واقع الناس وقضاياهم. يقول: “إن فئات ممن يبدو لأول وهلة أنهم من أتباع الوحي – في كل زمان ومكان، وخصوصا في فترات تسلط اتجاهات مضادة للوحي، وتسخيرها لهذه الفئات – هي التي تعطي للوحي تفسيرا ينأى به عن مشاكل الواقع، واهتماماته، وحاجياته، ويجعله يدور حول جانب منه لا يتعداه.. فيكثر الكلام على عبادة ما، ويهمش ما يكتوي به المجتمع من حاجة، وفقر، وفاقة، وفساد عام، وهو وضع غير طبيعي، يضرب الوحي في العمق”11.

وكأنها صيحة من عبد السلام موجهة إلى العلماء، وأهل الفكر والثقافة، ليرجعوا إلى الفهم الإصلاحي السديد للوحي، الذي يعتبر منهج حياة في شموليتها المتوازنة، في جانبيها المادي والروحي، فهذا الفهم -وحده- هو الكفيل بقطع الطريق عن أصحاب البدائل الزائفة، الذين يجدون في خصوماتنا، وقصور فهمنا، مطعنا في ديننا، ومدخلا لوصف فقهنا بفقه الآخرة، وأنه ليس له مكان في معالجة واقع الناس، مما يجعل المتعالمين “يجدون الجو ملائما لعرض بدائلهم الكاسدة، والتي لا يمكن لها أن تجد رواجا نسبيا، ولا من يوليها أدنى اهتمام، إلا في مثل هذه الحالات، التي يصاب فيها الوحي بالتجزيئية، والسطحية، والارتزاق، وينسب إليه الواقع غير الملتزم بقيمه ومبادئه”12.

5ـ الحياد التام:

 تمد الرؤية الثاقبة لعبد السلام إلى ملامسة عمق مشاكل الحكم في زماننا، مما يتخبط فيه كثير من الأنظمة المعاصرة، التي لا تخلو من تحيز و”أدلجة”، على الرغم من مناداتهم بالديمقراطية، والشفافية، والنزاهة، دليل ذلك ما يعتري كثيرا من الحكومات من انقلابات، واعتقالات، واضطرابات، مما يفصح عن زيف تلك الشعارات، ويختزل التحكم القسري في الأقوات والممتلكات والمقدرات. ولو فطنت هذه الأنظمة إلى عمق التوجه الإصلاحي في ديننا، لوجدت فيه ما يرضي الجميع، وما يحقق مصالح الجميع. لنستمع إلى هذا العمق التحليلي للوحي في مجال الحياد التام في التعامل مع الإنسان، وقد جعله مندرجا تحت وجهتين على الأقل. أما الوجهة الأولى، فهي أن مصدر الوحي من الله تعالى الذي “لم يلد ولم يولد، ولا يقصر ولاءه على جماعة دون أخرى، ولا يتساهل مع شعب ويُعنِّت غيره، وأنه غني عن العالمين. وحتى يكون للتشريع مصداقية وأحقية، لا بد من التجرد عن الغرض، والارتفاع عن المؤثرات العقلية، والعاطفية، وعدم الانتماء إلى أية فئة من فئات المجتمع المشرع له، وليس هذا إلا للوحي وحده”13.

وأما الوجهة الثانية، فيجعلها الميدان التطبيقي للمناهج الأخرى، إذ التاريخ شاهد على انحرافها، وسقوطها، وهو ما أناطه المؤلف ب”الإفلاس النهائي الملازم لجميع الأنظمة المستعاض بها عن الوحي، وسقوطها في النظرة الأحادية الجانب إلى الإنسان”14.

ويستمر المؤلف في تشريح أوصال المجتمعات المعاصرة، التي تنكبت الوحي طريقا، واستدبرت السنة منهجا، وحادت عن جميل الأخلاق مبدأ، وغابت عنها الحيادية موقفا، وكان لأنظمتها “عملاء عن وعي، أو ضحايا بلا وعي”15، ليخلص إلى تساؤل على كل مجادل في المنهج الإصلاحي للوحي أن يطرحه بتجرد، حين “نستعرض خريطة العالم – بعد أن أقصي الوحي عن ضبط حركاتها: أين هي الرقعة التي يعيش فيها الإنسان كريما، موفور الحقوق، لا يشكل مصدرَ خطرٍ على أخيه الإنسان؟”16.

6ـ الشمولية:

ويختص المنهج الإصلاحي للوحي، بصفة الشمولية، التي تعتبر -إلى جانب الصفات السابقة- الضامن الأساس لاستمرار التشريع، إذ الإنسان جسد وروح، محتاج إلى إشباع فيهما معا، وإلا كانت حياته عرجاء، تنتفخ إلى حد التُّخَمة في جانب، وتضمر إلى حد الهزال في جانب آخر.

ونجد عبد السلام مرة أخرى، لا يكتفي بالتلميح والاجتزاء، وإنما يضع مِبضعه على مكامن هذه الشمولية، انطلاقا من حاجات الإنسان، التي لخصها – بعناية فائقة – في خمس عشرة حاجة أساسا17، على المنهج الإصلاحي أن يأخذها بعين الاعتبار، أقتصر على ذكر ست منها مندرجة ضمن الخانة التي بدت لي تناسبها:

1ـ (المالية): أن يوزع الدخل العالم على أفراد الأمة بعدالة تامة.

2ـ (العلمية): أن يتم الإقبال القوي على العلم ونشره في ميع الأوساط.

3ـ (الأمنية): أن يسير الإنسان آمنا يضرب في الأرض بلا حدود، ولا تأشيرات، يختار بنفسه – وحسب معتقده – البلاد التي يرتاح إليها وإلى أهلها.

4ـ (الفطرية): أن تتاح جميع فرص وإمكانيات الزواج، لمواجهة ظاهرة العزوبة والعنوسة المرعبة.

5ـ (الجمالية): أن تعطى عناية فائقة للفن الرفيع، وتذوقه، وتربية الأمة عليه.

6ـ (عزة النفس): أن يقضى على الظلم والاستبداد، والشر والفساد، بكل صورها.

هذه الحاجات الكبرى يعتبرها عبد السلام من “ألف باء الوحي” وأولوياته، ومع ذلك لا تشكل سوى جانب يسير، ضمن مساحة كبرى “تشبع تطلعات الإنسان غير المحدودة، وتجيب عن أسئلته اللامتناهية، والتي تصدر منه بالعنف أو الاحتيال، إذا رضي بغير الوحي منهجا للحياة”18.

هذه الشمولية لا يقدر عليها إلا خالق الأكوان سبحانه، الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، فأنزل له الدواء الناجع، وهو سبحانه الحكيم الخبير “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”.

وبعد هذا التشخيص الدقيق للواقع، يدلف عبد السلام ـرحمه الله- إلى شروط التمكين للعمق الإصلاحي في الوحي، وهوما يمكن تلخيصه في أربعة أمور:

أن يجعل القرآن بحمولته العظيمة سابقةِ الذكر منهجَ حياة، يسأل به المتكلم ربه، الذي أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا أن يجعل سبلا للتأكل والاسترزاق، أو غاية من أجل الناس لتحصيل منفعة دنيوية زائلة. ويستدل المؤلف على ذلك بالقواطع من نصوص السنة، مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّهُ سيجيئ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ19. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلاَ تَأْكُلُوا بِهِ، وَلاَ تَسْتَكْثِرُوا بِهِ، وَلاَ تَجْفُوا عَنْهُ، وَلاَ تَغْلُوا فِيهِ20.

أن يجعل القرآن الحَكَم على الأخلاق، وعلى الذوق السليم، فبذلك يعطى المسلم “حصانة ومناعة ضد عوامل التبعية العمياء، ويعصم الشخصية الفردية والجماعية من الذوبان في الغير”21.

المداومة على قراءة القرآن، قراءة متدبرة، واعية، مُحتجِنة للوجوه الإصلاحية فيه، فالمسلم “ملزم أن يعتقد أن الحق المطلق المجرد التام الواضح في القرآن وحده، ويدعوَ كل مرتاب في هذه المسلمة أن يقرأ القرآن، ليتمكن من ذلك أو يرفضه”22.

ومع قراءة القرآن وتدبره، لا بد من العمل بمقتضاه، فمن أراد الظفر بصلاح الدنيا والآخرة، فإن عليه أن “يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي، نظرا وعملا، لا اقتصارا على أحدهما”23.

وهنا تنهمر حافظة عبد السلام بالمناسب من نصوص القرآن، التي يختارها بدقة، لتفصح عن المكنون الذي يختلج كل داعية إلى الله، يروم خير البشرية وصلاحها، فينتقي ثلاثة نصوص من القرآن الكريم، يجعلها البلسم لجراحات المجتمعات، والفيصل في إبراء أدوائها وأسقامها، وهي قوله تعالى: “لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[الأنبياء:10]، وقوله تعالى: “وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ[المؤمنون:71]، وقوله تعالى: “فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[الزخرف:43-44]، ثم يعلق المؤلف على هذه الآيات بأسلوب جامع مانع. يقول: “فهي ذات محور ونسق وموضوع واحد، فعند التدبر يظهر أنها صريحة في أن المجد والشرف، والسؤدد والعز، والرفعة والنباهة، والصيت والريادة، والقيادة والسيادة -بحق وخير، وعمار ورخاء، وأمن وسلام- هذه كلها لا يمكن أن تُحقق لأية مجموعة بشرية كيفما كان جنسها، وأينما كان موقعها، إلا أن تكون متمسكة بهذا القرآن، وقافة عند أوامره ونواهيه، عاملة بتوجيهاته وهديه وإرشاده، متصرفة وفق مبادئه وقيمه، معتبرة إياه المنهج الذي لا ينبغي الحيدة عنه في أي جانب من جوانب الحياة”24.

وأختم هذا المبحث ببيتين معبرين، أدرجهما عبد السلام ضمن بحثه، وهو العالم الأديب، البصير بوقع الحكمة في توطيد الفكرة:

 الله أكبــــر إن ديـــــن محمــد***وكتابـَـــه أقــوى وأقوم قيــلا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده***طلع الصباح فأطفئوا القنديــلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- محاضرات في علوم القرآن والحديث؛ (ص:19-20).

2ـ نفسه؛ (ص: 21).

3ـ نفسه؛ (ص: 22).

4ـ نفسه؛ (ص: 27).

5ـ نفسه؛ (ص: 22-23).

6ـ نفسه؛ (ص:25).

7ـ نفسه؛ (ص:26).

8ـ نفسه؛ (ص:14).

9ـ محاضرات في علوم القرآن والحديث؛ (ص:28).

10ـ نفسه؛ (ص: 31.

11ـ نفسه؛ (ص: 33.

12ـ نفسه؛ (ص: 33.

13ـ نفسه؛ (ص: 34.

14ـ نفسه.

15ـ نفسه.

16ـ نفسه.

17ـ تنظر في (ص:37-38).

18- نفسه؛ (ص: 38).

19ـ صحيح سنن الترمذي.

20ـ رواه أحمد، وهو في الصحيحة.

21ـ المحاضرات؛ (ص:63).

22ـ نفسه.

23ـ نفسه؛ (ص:64).

24- نفسه؛ (ص:65-66).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M