خواطر حول «المداعشة» الاستراتيجية

12 مارس 2015 19:06
خواطر حول «المداعشة» الاستراتيجية

خواطر حول «المداعشة» الاستراتيجية

عبد الحفيظ الحلو

هوية بريس – الخميس 12 مارس 2015

ضمن ملابسات تاريخية غاية في العسرة، كسياقات زمنية معولمة، يتداخل في إطارها المحلي والكوني حتى ليندغم ضمن بوتقة وقائعية ضيعت ماهيتها اللصيقة، تتفجر في وجوهنا ألغام التشوهات العقدية، ذات المحمول الفكري المرتكس إلى أسوء طباع البشرية، نأيا عن مسلك الحق. هذه الطبعات في تكشفاتها على ساحة الفعل، لم تكن سوى نسخة رديئة، أفلح الآخر كعقل استراتيجي في رعاية مسيرة تخلقها، ومن ثم استنباتها داخل ساحات وعينا التداولي.

هذا الانحراف بمطمح العود التاريخي الساكن روح الأمة، لم يكن مستجدا أو مقطوع الوشائج بمكر الأسلاف الأغيار من خارج ضميمة الانتماء الجامع والموحد، إلا في حدة تمظهراته المتمنطقة بقوة البارود، ضمن مصاحبة لشحنة عنف قاتل فجرت النص قبل أن تفجر إنسان الأمة وهذا-كان ولايزال- الرهان الأساس والأخطر. لذا يتوضح أن قناعة السيد الغربي بانعدام الجدوى لقوته النارية في إحداث المسارات الاستراتيجية الكبرى داخل حقل التاريخ الكوكبي لم تكن مثبطا يحجزه عن اجتراح آليات أكثر فتكا، وأعمق في إحداث الأضرار، وأدق في إصابة الأهداف المرجوة. هكذا استطاع كوكيل في اختلاق الحروب الجديدة، أن يصنع وكيله المحلي بما هو جماعة وظيفية تؤدي الأدوار التكتيكية بحرفية بالغة، تجعل السيد يمرر إليه أشغاله ضمن بنود علاقة تعاقدية تمنحه صفة المقاولة من الباطن، كي ينجز الأشغال الأكثر قذارة وإيلاما. فعملية الولادة أو بالأصح عملية التوليد لمثل هاته الكيانات العابرة للترسيمات الوطنية والإقليمية، لم تتم بمنأى عن إرادة السيد الغربي في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، من أجل تجذير حالة التشظي والتمزق داخل بنيان الجماعة التاريخي، والعمل على إدامتها تمكينا لنفسه ولرؤيته الكونية من الديمومة والنفاذ.

إن نداءات الهامش، وصرخات منتسبيه من فتية نبتت لحومهم من أديم هذه الأرض، ما كانت لتعرف مسارات مدمرة للذات في فرديتها، وللكيان في كليته الجامعة على غير أيدي الآمرين بالقتل، والذبح، والحرق الصادر من مركز الميتروبول الكوني، ليكون الإنجاز لمرحلية الإمعان في هدم مظلة الصرح الجامع، تعبيرا فاجعا عن الانطلاقة لزمن التدمير الذاتي المدفوعة قدما بمفاعيل فتنوية أنتجتها أفكار ليلية مظلمة، أبدع مالكو القرية الكوكبية في تطوير جيناتها. فالحالة “الداعشية” شكلت بالفعل وبالقوة، جدران صد في وجه وعي جمعي أخذ مسار التبلور، وعي بدا موحيا إلى الذات بضرورة فتح كراسات الوهن التاريخي للأمة، وإيقاظا للعقل المواتي المتمكن من مواقعه داخل الخرائط الذهنية والنفسية. غير أن بزوغ هذه المجاميع التي ارتضت اللغة الإوالية عناوين ملغزة لانبثاقها الوجودي، وسريانا لدمغة عنف طبعت منظومتها السلوكية، قد أحدث مقادير هائلة من الإرباك، جعل مساحات التشتت داخل الذهن تزداد وسعا، ليكون السير على غير هدى، والجهاد على غير بينة، والدعوة على غير بصيرة.

إن هذا الكيان حتى وهو يروم تركيب الصورة المتشظية للدولة بفعل عوامل التعرية السياسية المتعاقبة على جسدها، ونتاجا لفعل الزمن التجاوزي الماحق، والذي أورثها قدرا غير يسير من الترهل، وارتخاء مخلا في مفاصلها التدبيرية، كتعاطي مع اليومي في تجدداته، وعقده المستجدة، وطروحاته غير التقليدية، لم يبدل أي وسع لامتلاك أي نوع من الاقتدار الذي يمنعه من السقوط في التصور المغلق لنموذج الدولة التاريخي الجاهز، والذي وفق تصوره ذاك لا يحتاج أكثر من إعادة تمثل تاريخي، عقلي ونفسي ينفتح من خلاله على المخيال لتعمل آليات النسخ والتقمص دورها التكراري المستكين والبارد، حينها يكون التحقق لمنجزه السياسي الموعود وافيا، أعاد من خلاله للدورة الحضارية للأمة مجدها التليد. لكن حقيقة الأمر أنه يحمل رؤية مقلوبة في نشوء الدول وارتقائها وتطورها، فهو يضع التاج قبل تشكل الاجتماع السياسي، وتوافر الإرادات الحرة، وميلاد الرغبة في التنظيم خروجا من حالة الفوضى، والإحساس الوجداني بالانتماء إلى شعب على ذرى إقليم جغرافي يسعى التحقق بالسيادة. فهو في وضعيته المحرجة يكون مجترحا لنظريات تبز العقل السياسي البشري المنتج لكل الأدبيات الفلسفية والسياسية حول موضوعة الدولة، ويكون قبل ذلك وفوق ذلك معاندا لسنن الله في تخلق الكيانات السياسية، بماهي تدبير عقلاني لتوترات العلائق البشرية في أصولها الخلقية والطبيعية والفطرية. وهو في حالته يبدو وكأنه قد أنجز موعوده، وتنزل الكيان السياسي، ولم يعد في الأمر غير حشر الأنام ككتل بشرية تحت خيمته المدولنة، لينتقل إلى أستاذية الكون، وليجعل لحديث النهايات تصديقا يسنده التجلي الكامل لدولة الله فوق هامات الرعايا والإماء.

إن الممارسة العنفية المصدرة من قبل هذا الكيان، تتركز بالأساس تجاه داخله، والمشاركين له في الانتماء السياسي والطائفي، من غير أن يتجاوز هذا الفعل دائرة الطائفة إلا في النادر الأقل، وذلك لأن ضبط هذه الممارسة لم يتم عبر حقب تشكل الطائفة السياسية والمذهب الفقهي، فكانت شظايا النزاع-المادية والمعنوية-حول تملك السلطة تبقى دائما محصورة بين جدران هذا الحقل المنغلق، على العكس من التشكلات الطائفية الأخرى، والتي أسست لنظريتها السياسية المغايرة متنا وسندا، فهي أنجزت سلامها الداخلي المتين من خلال توجيه دفة عنفها التاريخي نحو المخالف من خارج الطائفة في أحد الأوجه، وفي الوجه الآخر والأهم أنها صوبته نحو الحقب التاريخية التي لم يكن بناؤها السياسي مرضيا لرؤيتها في الاجتماع والسياسة.

فانتقامها من التاريخ كان تعويضا نفسيا مقبولا دفعت به ومن خلاله منزع الرغبة العنفية من أن يكون مفتتا لجماعتها التاريخية. مما جعل ارتهان هذا المجمع الحربي/الحرابي للتاريخ -بما هو كراسة مكتملة وناجزة- يتجمد عند مرحلية عابرة في عرف الزمن الكوني، بكونها صورة لتاريخ كلي قد اكتملت أركانه، وبأن مجاوزته أو السعي لتحيينه هو سعي للعبث بسردية ربانية ليس للبشر إلا التسليم باستحقاقها للتحكم، والمباشرة لأفعال الفرد التاريخي وتقويما لعثرات سيره، وبأن كل العابرين لمجالها عليهم من الإلزام الأبدي والسرمدي الموحى به من الإله ما يوجب عليهم السير وفق توجيهاته ومنطوق خطابه الناجز. لم تكن قراءة من هذا القبيل لتنحت لها نظرية في الحكم مغايرة للمتعارف عليه والمؤصل كتدوينات سياسية سلطانية أنتجت ضمن دورات تاريخية مأزومة ومملوءة بوعي مغشوش وزائف. 

في النهاية نقول، أن التماس مع الآخر الغربي في مقولاته الكونية المسلحة بعنفها الدلالي، لم يكن أمرا تدافعيا محمود النتائج في كليته، إنما كان انتقالا مروعا، من تفكيك التاريخ إلى وحدات إثنية.. عرقيى.. عشائرية، وصولا إلى تفجير المستقبل بما هو أفق خصب لاحتضان واختمار رؤية تنشد الانعتاق من وطأة الزمن الغيري. لذلك فإن هذا اللعب بمجال المخيال التاريخي الذي تستنجد به الأمة في كل سقطاتها الوجودية، كلما كان الوقوع داخل الممرات الضيقة والمحرجة، لا ينفك أن يكون رغبة في إعادة صياغة هذا العقل الخفي، وفق لعب تاريخي حر يسفه التاريخ وحامليه.

فليست رغبات السادة المتحكمين في مصائر العالم تتمثل في تفخيخ الأجساد وتفجيرها، بقدر ما تتجسد في إرادة تفجير الثقافة، وتشظية العقل المنتج لعالم القيم والأفكار والأشياء.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M