قطع اللجاج بتقويم ما في اعتدال أخينا القباج من اعوجاج (ح5)

26 مارس 2015 18:20
قطع اللجاج بتقويم ما في اعتدال أخينا القباج من اعوجاج (ح7)

قطع اللجاج بتقويم ما في اعتدال أخينا القباج من اعوجاج (ح5)

ذوالفقار بلعويدي

هوية بريس – الخميس 26 مارس 2015

ضمان الاعتدال في تفصيل الكلام لا في إطلاقه من غير عِنان.

بناء على قول القباج “إن أكثر العلماء في السابق واللاحق الذين أخذوا بما قرره الإمام الأشعري؛ علماء أفاضل من أهل السنة المتبعين للسلف الصالح؛ ولم يتعمدوا مخالفة النص أو رده بتأويلات باطلة”1. حيث سبق أن قلت أن الذي يتبادر من هذا القول في الذهن تلقائيا، هو بما أن هناك كثرة أشعرية غير متعمدة لمخالفة النص وتحريفه. فهناك قلة أخرى هي أشعرية كذلك لكنها تعمدت مخالفة النصوص وتحريفها.

وهذا أمر يُلزم الأخ القباج بإمداد القارئ بما يميز به بين الأشاعرة الذين تعمدوا مخالفة النص، والأشاعرة الذين لم يتعمدوا مخالفته، لا سيما وأن الذين لم يتعمدوا هُمْ كما يصنفهم القباج (من أهل السنة (باللفظ الشرعي)، ومن أهل السلفية (بالمصطلح العلمي)).

وإذا صح أن نقول هذا أشعري غير متعمد وهو سني سلفي، وآخر أشعري متعمد من أهل البدعة خلفي.

فهل يَسْلم لنا أن نوسع الدائرة ونقول هذا معتزلي غير متعمد سني سلفي، وآخر معتزلي متعمد بدعي، وهذا خارجي غير متعمد سني سلفي، وآخر خارجي متعمد بدعي، وهذا شيعي سني سلفي وآخر شيعي بدعي،… وكل هذا بدعوى وجود غير متعمدين داخل كل مذهب. أليست هذه سفسطة؟

ولِمَ لا يَسْلَم لنا ذلك؟!! أَوَ ليس التعمد وعدم التعمد ليس خاصية الأشاعرة وحدهم، بل كل الفرق الاسلامية التي تعد من الثنتين وسبعين فرقة يوجد فيها متعمدون وغير متعمدين!!

وكيف الحال لو اختلفنا في معين هل هو متعمد أم غير متعمد؟

وهل كان بحث علمائنا فيما تعمده آحاد أعيان المذهب وما لم يتعدمه؟

أم كان بحثهم في ما يعذر به المعين وما لم يعذر به؟

فإن البحث في العمد كما هو طرح أخينا القباج، ليس كالبحث في أوجه العذر، وفي مثل هذا جاء قول ابن تيمية رحمه الله: (وإنما “المقصود هنا” أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه؛ إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه وإما لعدم قدرته…)2، إلى غيرها من صور أوجه العذر التي عدها العلماء في متفرقات مصنفاتهم.

ومما ينبغي ضبطه هنا، هو كون آحاد أعيان المذهب معذور، لا ينفي عنه الانتساب إلى المذهب؛ وإنما الذي ينفيه العذر عنه هو حكم وإثم الابتداع.

فإن هناك فرقا بين الحكم على المنتسبين إلى الأشعرية، وبين الحكم على الأشعرية نفسها. فالأشعرية فرقة كلامية لها أصولها ولها عقائدها التي هي بها أشعرية، وهي التي تفصلها عن مذهب أهل السنة، وتجعلها من الثنتين وسبعين فرقة، التي جاء ذكرها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتين وسبعين في النار(انظر السلسلة الصحيحة رقم الحديث 1492).

والذي يعنينا هنا هو بيان ما أبهمه أخونا القباج في مقالاته، حيث لا سبيل للمبتدئ من إدراكه وسط ركام من الكلام المطلق والإشارات المجملة. وذلك حتى يراه -المبتدئ- واضحا بغير غبش، بَيِّناً بغير لبس؛ من أن الأشاعرة فرقة من الثنتين وسبعين فرقة، وحكمها هو حكم فرق البدعة والضلال.

اللهم إلا إن كان الأخ القباج يذهب إلى تقسيم الأشعرية بناء على تقسيمه للأعيان إلى متعمدين وغير المتعمدين. مستنا في هذا بسنة الذين حاولوا تمييع العلاقة بين مذهب الأشعرية ومذهب أهل السنة. وهؤلاء يخطئون فَهْم الأشعرية أو يتجاهلون حقيقتها عمدا تحت ضغط الواقع السياسي إرضاء للدولة في اختياراتها الرسمية. حتى آل الأمر ببعضهم إلى تجزئة الأشعرية إلى أصيلة وجوينية4، وهذا دأبهم في ترقيع المصطلحات حتى زعموا أن هناك تصوفا سنيا، وأن هناك ديمقراطية إسلامية، وهناك اشتراكية إسلامية.

ومن هذا القبيل – أو قريبا منه – اصطلاح الأخ القباج بالعقيدة الأشعرية على ما استقر عليه أبو الحسن الأشعري. كما في قوله:” وهذا يبرهن على أن الثابت الديني في أمر المعتقد هي العقيدة الأشعرية التي استقر عليها أبو الحسن، وليست الكلامية التي فرضها ابن تومرت على المغاربة”5. وإن كان الغالب على قوله من خلال سياقه أنه قاله من باب إلزام أشاعرتنا المعاصرين لا سيما الرسميين منهم.

إلا أنه مما يلزم التنبيه عليه هو أن مصطلح الأشعرية أو العقيدة الأشعرية أو المذهب الأشعري أو مذهب الأشاعرة، يراد بها عند الإطلاق المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري في علم الكلام. ومن ثم فليس من العدل ولا الاعتدال إلحاق أبا الحسن بهذه التسميات بعدما اختار عقيدة الإمام أحمد أو ما اصطلح عليه بنفسه في كتابه “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين”، بقوله: “قول أهل الحديث وأهل السنة”، ولا أظن أن أبا الحسن يفخر ويتشرف بأن تنسب عقيدة أهل السنة له، ويصطلح عليها بنسبه. لأن حصول الفخر له، هو في أن ينسب هو إليها، لا في أن تنسب هي إليه. فيقال أبو الحسن الأشعري صاحب العقيدة السنية السلفية، وليس العقيدة الأشعرية كما عبر الأخ القباج. لأن العقيدة التي استقر عليها أبو الحسن ليست عقيدته، وإنما هي عقيدة القرون الثلاثة الأولى المفضلة، فحسبه فخرا أن يكون تابعا لا رأسا. مما يجعل إطلاق لفظ “الأشعري” عليه عند ذكر اسمه أو التعريف به رحمه الله، المراد به تقرير أشعرية نسب، لا أشعرية مذهب. ومن هنا جاء قول العلماء الأفاضل في بيان أن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، وإن كان صاحب هذا الانتساب يتبنى عقيدة أبي الحسن المقررة في كتابه الإبانة، وذلك لما في هذا الانتساب من التغرير وإحسان الظن بكل من انتسب بهذه النسبة. ومن ثم فلا ينبغي بحال من الأحوال الاصطلاح على ما في كتاب الإبانة من عقيدة، على أنها عقيدة أشعرية. سواء بإضافة “أصيلة” أو إضافة “ما استقر عليها أبو الحسن”، وإنما هي عقيدة سنية سلفية. وكذا كل من قال بقول أبي الحسن في “الإبانة” فهو سني وليس أشعري. وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: (أما من قال منهم بكتاب “الإبانة” الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة. لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة، ويفتح بذلك أبوب الشر والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير)6.

عجبا إذا كان مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لكونه يوهم حسنا بالمذهب الأشعري الكلامي، فكيف بتقبيل وجه وعيني من كان ذا شهرة أشعرية؟!

ثم ما مقصود القباج من اعتبار الأشاعرة الأوائل من أهل السنة؟

وما معنى إطلاق القول في جعل بعض الأشاعرة من أهل السنة دون تفصيل في حقيقة المصطلح ومدلوله تعميما وتخصيصا كما في قوله: (وكان عامة علماء الحديث يرون أن الأشاعرة الأوائل من أهل السنة)، وكذا قوله: (إن أكثر العلماء في السابق واللاحق الذين أخذوا بما قرره الإمام الأشعري؛ علماء أفاضل من أهل السنة).

ثم ما المقصود بقوله الأشاعرة الأوائل؟

أليس أبو الحسن الأشعري وهو مؤسس المذهب الأشعري الكلامي، هو أول أوائل الأشاعرة؟

ومن ثم ألا يعتبر كل ذم للمذهب الأشعري الكلامي هو ذم لأول أوائله قبل إظهار توبته؟

وإذا كان أبو الحسن الأشعري يعد من أهل السنة بهذا الإطلاق فمم كانت توبته إذن؟

تأمل قول أبي نصر السجزي السالف الذكر: “ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم، وهم أبو محمد بن كلاب، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، …،”7؛ هل بمثل هذا الكلام يكون أبو نصر السجزي ممن يعتبر أبا الحسن الأشعري من أهل السنة أم العكس؟!

وما يدرينا، لعل أبا نصر وهو من مواليد سنة 318هـ لم يكن في علمه أن أبا الحسن هو من الأشاعرة الأوائل؟!

ثم كان بودي أن يفصل الأخ القباج في مدلول مصطلح أهل السنة حتى نرى مدى قابلية هذا المصطلح لاستيعاب وتمثيل بعض الأشاعرة أو من هم محسوبون عليهم.

وكما هو معلوم لكل سلفي أن مصطلح أهل السنة والجماعة يراد به معنيان. معنى أعم، ومعنى أخص. فالأعم منه يستعمل في مقابل الشيعة، والأخص يستعمل في مقابل البدعة. يقول ابن تيمية: (فلفظ “أهل السنة” يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول : إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة)8.

فعلى أي وجه يستعمل الأخ القباج لفظ السنة؟

وما وجه تخصيصه غير المتعمدين ممن قالوا بقول الأشاعرة دون غيرهم بهذه النسبة؟

 فإن كان يستعمل لفظ “السنة” بالمعنى الأعم، فالمسلمون طائفتان، سنة وشيعة، وإطلاق لفظ السنة بهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة وليس الأشاعرة وحدهم، وليس غير المتعمدين ممن قالوا بقولهم، بل حتى المتعمدون، بل يشمل كل الطوائف حيث جميعها تخالف الشيعة في مسألة الخلافة.

أما إن كان يستعمل لفظ “السنة” بالمعنى الأخص، أي في مقابل البدعة. وهو الأكثر استعمالا في اصطلاح العلماء، فالمسلمون بهذا المعنى هم طائفتان؛ أهل سنة وأهل بدعة. وأهل البدعة يشمل كل الطوائف البدعية، خوارج وشيعة ومعتزلة وكل صاحب هوى وكل من خاض في شيء من علم الكلام كالكلابية والماتريدية والأشاعرة.

وحسبي في هذا المقام ذكر من أقوال أهل العلم في الحكم على الأشاعرة بأنهم ليسوا من أهل السنة، ما رواه حافظ المغرب ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله، 96ج2)عن فقيه المالكية ابن خويز منداد عند شرحه قول مالك لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء. حيث قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها”.

ومما ينبغي تأكيده في ختام هذا الجانب من هذه السلسلة – حيث لا يزال جانب آخر يتعلق بشهادة القباج في الجنيد شيخ الصوفية وسيد القوم- هو تقرير أن الأصل في معاملة المخالفين لمعتقد أهل السنة، هو ترك إظهار توقير وتعظيم وإكرام من اشتهر بمخالفة معتقد أهل السنة دفعا لمفسدة الالتفات إليهم والاغترار بهم فيما هم عليه من مخالفة. هذا مع التنبيه على ما قد يباح استثناءً من عدول عن هذا الأصل لمصلحة راجحة يقدرها العَالِم في نازلة تخصه دون أن يُعَمَّم حكمها. فهي حادثة عين لا يستنبط منها حكم، ولا تبنى عليها قاعدة. ومن أدرك هذا زال عنه الإشكال من حادثة معاملة الإمام الدارقطني مع ابن الباقلاني، دون أن يضل فهمها أو يخطئ حكمها، فيجعل الأصل الذي هو عدم توقير المخالفين استثناء، والاستثناء أصلا وذلك كما فعل أخونا القباج في اعتداله.

يتبع…

……………………………….

(1) الاعتدال في نقد الرجال (4)

(2) مجموع الفتاوى (10/371/372).

(3) والذين نخصهم بهذا القول هم علماء الأشاعرة وكل من لُقِّن بدعتهم ودَرَسَ كتبهم، أما عوام المسلمين فهم في الأصل على عقيدة السلف، وإن نشأوا في بلد يتبنى غير عقيدة السلف. وذلك لأن عقيدة السلف هي عقيدة الفطرة بلا تلقين ولا تعليم.

(4) كالدكتور فريد الانصاري -رحمه الله- انظر كتابه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب”.

(5) ” قراءة علمية للثوابت الدينية للمملكة المغربية”. حماد القباج هوية بريس (الخميس 30 أكتوبر 2014).

(6) مجموع الفتاوى (9/359).

(7) كتاب “الرد على من أنكر الصوت” لأبي نصر السجزي (ص222-223). راجع قطع اللجاج (ج2) من هذه السلسلة.

(8) منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية (2/425).

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M