ميزان الاعتدال في نقد الرجال (الحلقة السادسة)

26 مارس 2015 22:03
ميزان الاعتدال في نقد الرجال (الحلقة السادسة)

ميزان الاعتدال في نقد الرجال (الحلقة السادسة)

ذ. حماد القباج

هوية بريس – الخميس 26 مارس 2015

ميزان الاعتدال في الرد والنقد والتقييم (ج 2)

الإمام أبو محمد عبد الله ابن أبي زيد القيرواني المالكي (ت 386هـ)

قال الحافظ ابن عساكر (ت571هـ) رحمه الله تعالى[1]:

“قَرَأت بِخَط عَليّ بن بَقَاء الْوراق الْمُحدث الْمصْرِيّ:

رِسَالَة كتب بهَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زيد القيرواني الْفَقِيه الْمَالِكِي -وَكَانَ مقدم أَصْحَاب مَالك رَحمَه اللَّه بالمغرب فِي زَمَانه-؛ إِلَى عَليّ بن أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَغْدَادِيّ المعتزلي؛ جَوَابا عَن رِسَالَة كتب بهَا (الْبَغْدَادِيّ) إِلَى المالكيين من أهل القيروان يظْهر نصيحتهم بِمَا يدخلهم بِهِ أقاويل أهل الاعتزال..، فَذكر الرسَالَة بِطُولِهَا فِي جُزْء -وَهِي مَعْرُوفَة-.

فَمن جملَة جَوَاب ابْن أَبِي زيد لَهُ أَن قَالَ:

“ونسبت ابْن كلاب إِلَى الْبِدْعَة، ثمَّ لم تحك عَنهُ قولا يعرف أَنه بِدعَة فيوسم بِهَذَا الِاسْم.

وَمَا علمنَا مَنْ نسبَ إِلَى ابْن كلاب الْبِدْعَة، وَالَّذِي بلغنَا أَنه يتقلد السّنة ويتولى الرَّد على الْجَهْمِية وَغَيرهم من أهل الْبدع[2].

وذكرتَ الْأَشْعَرِيّ فنسبته إِلَى الْكفْر وقلتَ إِنَّه كَانَ مَشْهُورا بالْكفْر!

وَهَذَا مَا علمنَا أَن أحدا رَمَاه بالْكفْر غَيْرك، وَلم تذكر الَّذِي كفر بِهِ.

وَكَيف يكون مَشْهُورا بالْكفْر من لم ينْسب هَذَا إِلَيْهِ أحد علمنَاه فِي عصره وَلَا بعد عصره؟!

ثمَّ ذكر ابْن أَبِي زيد تشنيع الْبَغْدَادِيّ على الْأَشْعَرِيّ فِي مسألة اللَّفْظ؛ وقَالَ:

“والقارئ إِذَا تَلا كتاب اللَّه لَو جَازَ أَن يُقَال إِن كَلَام هَذَا القارئ كَلَام اللَّه على الْحَقِيقَة لفسد هَذَا لِأَن كَلَام القارئ مُحدث ويفنى كَلَامه وَيَزُول، وَكَلَام اللَّه لَيْسَ بمحدث وَلَا يفنى، وَهُوَ صفة من صِفَاته، وَصفته لَا تكون صفة لغيره؛

وَهَذَا قَول مُحَمَّد بن إسماعيل البُخَارِيّ وَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ وَغَيرهمَا مِمَّن تكلم فِي هَذَا، وَكَلَام مُحَمَّد بن سَحْنُون إِمَام الْمغرب، وَكَلَام سعيد بن مُحَمَّدِ بْنِ الْحداد؛ وَكَانَ من الْمُتَكَلِّمين من أهل السّنة وَمِمَّنْ يرد على الْجَهْمِية ..

قَالَ ابْن أَبِي زيد:

“فَكيف يسعك أَن تكفر رجلا مُسلما بِهَذَا؟؟

وَلَا سِيمَا رجل مَشْهُور أَنه يرد على أهل الْبدع وعَلى الْقَدَرِيَّة الْجَهْمِية متمسك بالسنن، مَعَ قَول من قَالَه مَعَه من البُخَارِيّ وَغَيره ..

ولَا تعتقد أَنا نقلد فِي معنى التَّوْحِيد والاعتقادات: الْأَشْعَرِيّ خَاصَّة؛ وَلَكِن لَا يحل لنَا أَن نكفره أَو نبدعه إِلَّا بِأَمْر لَا شكّ فِيهِ عِنْد الْعلمَاء.

وَإِذا رأينَا من فروع أقاويله شَيْئا ينْفَرد بِهِ تركنَاه.

وَلَا نهجم بالتضليل والتبديع بِمَا فِيهِ الريب.

وكل قَائِل مسؤول عَن قَوْله.

وَمَا مِثَال تشنيع هَذَا المعتزلي الغليظ الْفظ على أَبِي الْحسن رَحمَه اللَّه فِي مسألة اللَّفْظ إِلَّا كتشنيع رَافِضِي على رجل من أهل السّنة بتنقصه لمروان؛ وَهُوَ يستجيز لنَفسِهِ لعَنَ أَبِي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم!

لِأَن هَذَا المعتزلي وَأهل مذْهبه يدينون بِخلق الْقُرْآن؛ فَكيف يشنع على من يرى خلق الْأَلْفَاظ بِهِ والألحان؟!

وَلكنه لما لم يتجاسر عَلى إِظْهَار مَا كَانَ يضمره وَيَدْعُو إِلَيْهِ مِنْهُ؛ موّه على أهل الْمغرب بِمَا ظَنّه يكون سَببا لنفورهم عَنهُ؛ فَلم يلتفتوا لاستضلاعهم بِالْعلمِ إِلَى تمويهه، ووجهوا قَول الْأَشْعَرِيّ فِي اللَّفْظ على أحسن وجوهه.

فَإِن قلد الْأَهْوَازِي الْمُعْتَزلَة وَأطلق القَوْل بتكفيره لشدَّة جَهله؛ فَإِن الْأَشْعَرِيّ كَانَ لَا يرى تكفيره وَلَا تَكْفِير أحد من أهل الْقبْلَة لسعة فَضله” اهـ.

الإمام أبو الوليد محمد ابن رشد القرطبي المالكي (ت 520 هـ)[3]:

كتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني[4] من فاس؛ سؤالا للقاضي أبي الوليد بن رشد عن بعض الأئمة الأشاعرة المتقدمين.

ونص السؤال[5]:

ما يقول الفقيه القاضي الأجل الأوحد أبو الوليد وصل الله توفيقه وتسديده، ونهج إلى كل صالحة طريقه؛ في الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الأسفراييني، وأبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك وأبي المعالي، وأبي الوليد الباجي، ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام، ويتكلم في أصول الديانات، ويصنف للرد على أهل الأهواء:

أهم أئمة رشاد وهداية، أم هم قادة حيرة وعماية؟

وما تقول في قوم يسبونهم، وينتقصونهم، ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية ويكفرونهم، ويتبرأون منهم، وينحرفون بالولاية عنهم، ويعتقدون أنهم على ضلالة، وخائضون في جهالة؟

فماذا يقال لهم، ويصنع بهم، ويعتقد فيهم؟

أيتركون على أهوائهم أم يكف عن غلوائهم؟

وهل ذلك جرحة في أديانهم ودخل في إيمانهم؟

وهل تجوز الصلاة وراءهم أم لا؟

بين لنا مقدار الأئمة المذكورين، ومحلهم من الدين، وأفصح لنا عن حال المنتقص لهم والمنحرف عنهم، وحال المتولي لهم، والمحب فيهم مجملا مفصلا، ومأجورا إن شاء الله تعالى.

فأجابه ابن رشد رحمه الله:

“تصفحت -عصمنا الله وإياك- سؤالك هذا، ووقفت عليه.

وهؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتداء؛

لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات.

فهم بمعرفتهم بأصول الديانات؛ العلماء على الحقيقة؛ لعلمهم بالله عز وجل، وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينتفي عنه؛ إذ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول؛

فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم ويقر لهم سبقهم؛ فهم الذين عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغاليين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين[6].

فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل، أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق.

وقد قال الله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}.

فيجب أن يبصر الجاهل منهم، ويؤدب الفاسق، ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق إذا كان مستسهلا ببدعة، فإن تاب وإلا ضرب أبدا حتى يتوب؛ كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ[7] المتهم في اعتقاده؛ من ضربه إياه حتى قال: “يا أمير المؤمنين إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضع الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز علي”، فخلى سبيله[8].

والله أسأله العصمة والتوفيق برحمته.

قاله: محمد بن رشد” اهـ.

وفي (2/1060-1061) من الفتاوى نفسها:

“وكتب إليه الأمير أبو إسحاق[9] بن أمير المسلمين من مدينة إشبيلية؛ سائلا عن أئمة الأشعريين:

هل هم مالكيون أم لا؟

وهل ابن أبي زيد ونظراؤه من فقهاء المغرب أشعريون أم لا؟

وهل أبو بكر الباقلاني مالكي أم لا؟

فأجابه رحمه الله تعالى:

“لا تختلف مذاهب أهل السنة في أصول الديانات وما يجب أن يعتقد من الصفات، ويتأول عليه ما جاء في القرآن والسنن والآثار من المشكلات.

فلا يخرج أئمة الأشعرية بتكلمهم في الأصول واختصاصهم بالمعرفة بها عن مذاهب الفقهاء في الأحكام الشرعيات التي تجب معرفتها فيما تعبد الله به عباده من العبادات، وإن اختلفوا في كثير منها فتباينت في ذلك مذاهبهم؛ لأنها كلها على اختلافها مبنية على أصول الديانات التي يختص بمعرفتها أئمة الأشعرية ومن عني بها بعدهم.

فلا يعتقد في ابن أبي زيد وغيره من نظرائه أنه جاهل بها.

وكفى من الدليل على معرفته بها ما ذكره في صدر رسالته مما يجب اعتقاده في الدين.

وأما أبو بكر الباقلاني فهو عارف بأصول الديانات وأصول الفقه على مذهب مالك رحمه الله وسائر المذاهب، ولا أقف هل ترجح عنده مذهب مالك على سائر المذاهب لمعرفته بأصول الترجيح، أو اعتقد أنه أصح المذاهب من غير علم، فمال إليه.

والعالم على الحقيقة هو العالم بالأصول والفروع لا من عني بحفظ الفروع ولم يتحقق بمعرفة الأصول. وبالله التوفيق” اهـ.



[1]– تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (ص:405-409).

[2]قال الحافظ في الفتح (1/243): “البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة من الشافعي وأبي عبيد وأمثالهما، وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وبن كلاب ونحوهما” اهـ.

[3]– انظر عقيدته السلفية في أول كتابه “المقدمات الممهدات”؛ ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى:

“وأما ما وصف به نفسه تعالى في كتابه من أن له وجها ويدين وعينين؛ فلا مجال للعقل في ذلك، وإنما يعلم من جهة السمع، فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به من غير تكييف ولا تحديد، إذ ليس بذي جسم ولا جارحة ولا صورة؛ هذا قول المحققين من المتكلمين.

وقد توقف كثير من الشيوخ عن إثبات هذه الصفات الخمس، وقالوا لا يجوز أن يثبت في صفات الله تعالى ما لا يعلم بضرورة العقل ولا بدليله، وتأولوها على غير ظاهرها؛ فقالوا: المراد بالوجه الذات كما يقال وجه الطريق ووجه الأمر أي ذاته ونفسه، والمراد بالعينين إدراك المرئيات، والمراد باليدين: النعمتان، وقَوْله تَعَالَى: {بِيَدَيَّ}، أي ليدي؛ لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض.

والصواب قول المحققين الذين أثبتوها صفات لذاته تعالى“.

قال: “واختلفوا فيما وصف به نفسه من الاستواء على العرش؛ فمنهم من قال إنها صفة فعل؛ بمعنى أنه فعل في العرش فعلا سمى به نفسه مستويا على العرش، ومنهم من قال إنها صفة ذات من العلو، وإن قوله استوى بمعنى علا، كما يقال استوى على الفرس بمعنى علا عليه.

وأما من قال إن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد أخطأ؛ لأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة والمقاهرة، والله يتعالى عن أن يغالبه أحد.

وحمل الاستواء على العلو والارتفاع أولى ما قيل” اهـ [المقدمات الممهدات (1/20-21)].

[4]– ثاني ملوك دولة المرابطين؛ توفي عام (537هـ/1143م).

[5]– فتاوى ابن رشد (2/802-805)، ومثلها في (ص:943-945).

[6]رواه البيهقي وحسنه الألباني.

[7]صبيغ التيمي العراقي: بعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب لما رآه يسأل عن متشابه القرآن بين الأجناد، وهو الذي قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: “وأنا عبد الله عمر”.

فضربه حتى دمى رأسه فقال: “حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي”.

ثم نفاه إلى البصرة.

[انظر: سنن الدارمي: المقدمة: باب من هاب الفتيا: (1/54،56) والمنتقى للباجي (3/194) والتبصرة لابن فرحون (2/216)].

[8]انظر: موطأ مالك: كتاب الجهاد: باب ما جاء في السلب في النفل.

[9]أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف ابن تاشفين الأمير اللمتوني، قاد المرابطين في معركة قتندة سنة 514، كان يحكم الأندلس من قبل يوسف ابن تاشفين، وهو أحد أدباء المرابطين. [الحلة السيراء (2/18)].

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M