استعمال العامية في الدعوة إلى الله

07 أبريل 2015 21:46
استعمال العامية في الدعوة إلى الله

استعمال العامية في الدعوة إلى الله

د. البشير عصام المراكشي

هوية بريس – الثلاثاء 07 أبريل 2015

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

بدأت مناهج الدعوة إلى العامية وإحلالها محل الفصحى منذ أكثر من قرن، وتولّى كبرها المستشرقون وأذنابهم، ثم انتشرت في الأمة انتشارا ذريعا. (يراجع كتاب: ”تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر” للدكتورة نفوسة زكريا سعيد).

وقد وقف في وجه هذه الدعوة أناس كثيرون، التقوا على بغضها وإن اختلفت دوافعهم، بين قومي وإسلامي ومحب للفصحى وباحث لغوي يعرف ضعف العامية وعجزها عن القيام بأعباء العصر اللغوية.

ولكن، لا ريب أن أول من اهتم بالدفاع عن العربية هم أهل الدين، الذي يعرفون مكانتها من الإسلام، والارتباط الوثيق بين إتقانها وفهم نصوص الوحيين وكتب التراث الشرعي، ويعرفون ابتناء علوم الشريعة كلها على هذه اللغة الشريفة.

ولذلك فقضية الدفاع عن العربية في مواجهة العامية قضية دينية إسلامية. والدعوة إلى العربية تعلما وتعليما وكتابة وخطابة، جزء أصيل من الدعوة إلى الدين عموما.

وكما لا يمكنني اليوم أن أدرّس الفيزياء دون رياضيات – لأنها أداته التي لا يفهم إلا بها – فلا يمكنني أن أدعو إلى الدين إلا بالعربية ومع العربية، لأنها أداة فهمه.

ومن ثم كان الدعاة والعلماء أصحاب مسؤولية عظيمة في هذا المجال. فإذا قصّروا وتساهلوا، فمن الذي يحمل الأمانة من بعدهم؟

تاريخ مؤلم

وقد بدأت الدعوة إلى العامية قديما بمحاربة الفصحى في مجال الخطاب، فبدأت المسرحيات بالعامية المصرية مثلا بعد أن كانت حكرا على الفصحى! ثم انتشرت في مجال ”الفن” انتشارا بالغا.

ثم انتقلت إلى مجال الكتابة فظهرت الصحافة المكتوبة بالعامية، والأدب العامي -على استحياء ثم بقوة- إلى أن وصل الأمر إلى الصحافة الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.

ونحن نحمد الله أن أسلافنا من علماء وأدباء في القرون الزاهرة، لم ينبطحوا أمام طغيان العامية -وقد كانت موجودة في عصورهم خلافا لما قد يظن-، ولم يفتحوا أبواب الأدب والكتابة العلمية أمامها. ولو أنهم فعلوا، لما وجدنا اليوم بين أيدينا هذا التراث العظيم النابع من القرآن والسنة، والخادم لهما!

العامية أم العاميات

إن تشجيع العامية -ولو بنية حسنة- يدفع الأمة إلى مزيد من التشتت والضياع. فالعامية الوحيدة المفهومة عند كافة البلاد العربية هي المصرية. وما سوى ذلك، لا يفهم إلا في دائرة ضيقة جدا.

ولذلك حين يتكلم (أو يكتب) الداعية المغربي أو الشنقيطي مثلا بلهجته المحلية، فإنه يفقد كل أمل في التواصل مع ”جمهوره” المشرقي، ويحكم على دعوته بالمحلية والانحصار في حدود الدولة القومية الحديثة، بل في ما هو أقل من ذلك، بسبب تعدد اللهجات داخل القطر الواحد.

فيا فرحةَ الحاقدين على الإسلام وأهله، بانشغال كل ساكني بلد بما في بلدهم، عن هموم الأمة المشتركة!

وقد يقول قائل: إن هذه الفصحى كانت في زمن سابق لهجة من لهجات الجزيرة العربية المتباينة. فما الذي يمنع اليوم من اعتماد كل ذي لهجة لهجتَه، كما فعل العرب قديما؟!

والجواب: إن هذه اللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن!

ولا تهمنا في شيء تلك الاختلافات التي كانت موجودة قبل مجيء الإسلام بين لغات العرب فإن الصالح منها أُدخل في الفصحى، ووحّد القرآنُ اللغة العربية.

وحِرصُنا على العربية اليوم إنما هو لكونها لغة القرآن والسنة، لا لشيء آخر.

الفهمَ.. الفهمَ

ما أجَلتُ طرفي اليوم في ضلالات الناس، وكثرة اختلافهم، وشدة انحرافهم عن الطريق القويم؛ إلا تيقنت أن مشكلتنا اليوم مشكلة فهم!

والذي لا يعرف اللغة، ولا يمارسها، ولا يسمعها، ولا يقرأ بها، كيف نطالبه بفهم ما تحمله تراكيبها من المعاني -دقيقة كانت أو ميسورة-؟!

كيف نطالب الناس بتدبر القرآن، وفهم مراد الله، والتأثر بزواجره ومواعظه؛ وأذواقُهم اللغوية منحطة بكثرة ما يسمعون من الكلام العامي المبتذل؟ (كثير من المتأثرين اليوم بالقرآن يتأثرون بأصوات القارئين أكثر من تأثرهم بمعاني الكلام المقروء!).

كيف نحصّن الناس من دعاة الضلالة الذي يخرجون كل يوم بفهم مبتدع جديد، لآية قرآنية أو حديث نبوي؛ وهم لا يميزون بين فهم وآخر، وتستوي عندهم لجهلهم بالعربية جميع الاستنباطات؟!

إن العامية تقتل الذوق العربي السليم. وتفعل فيه ما لا تفعله اللغات الأجنبية. لأنها عربية محرّفة، وليست لغة مستقلة في تراكيبها وأساليبها، فتأثيرها أخطر.

وضياع الذوق العربي، نتيجته المحتومة: سوءُ الفهم!

مهمة العالم والداعية

مسؤولية العلماء والدعاة إلى الله رفعُ العامة إلى مدارج الخير ومراقي العلم، لا أن ينزلوا هم إلى دركات الجهل ومخالفة الشرع.

وتقريب العلم إلى العامة لا يكون بالتنازل عن شيء من الخير الذي ينبغي أن يرتقي العامة إلى تحصيله.

يقول الطناحي رحمه الله (مجموع مقالاته 1/156-157):

(.. كنت تجد -في الزمان القريب- من أوساط الناس وعوامهم من يأنس للكلام الفصيح ويرتاح له، ويحفظ منه الشيء بعد الشيء، وذلك من خلال ما يسمعونه من خطيب الجمعة، العالم المتمكن، من نصوص القرآن العزيز والحديث الشريف، والأدعية المأثورة. أما الآن فتكاد خطب الجمعة -ولا سيما على ألسنة الشبان المتحمسين- تتحول إلى ثرثرة وكلام عام مبهم عن ”مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم” و”الإسلام في خطر” و”الإسلام هو الحل” وهذا وهذان مما يصرف عن الاستشهاد بالقرآن والحديث وكلام العرب، وإذا أتاك شيء من ذلك فهو يأتيك في معظمه ملحونا ومزالا عن جهته (..)

وليتنا نعود إلى خطبة الجمعة المكتوبة على الورق الأصفر، (..) فمن خلال هذه الخطب المكتوبة حفظنا كثيرا من النصوص، وضبطنا كثيرا من أبنية الأسماء والأفعال).

وكلامه حق -رحمه الله-.

وما فائدة أن يكثر أتباعنا والمستمعون لنا، إذا فقدنا روح دعوتنا وساهمنا في الانحطاط العلمي والفكري الذي تعيشه مجتمعاتنا؟

فقد أدركتُ من العامة المتقدمين في السن، من كان أميا لم يدخل مدرسة قط، ولكنه لكثرة مخالطته طلبة العلم، وكثرة سماعه كلام العلماء، يستحضر كثيرا من النصوص، ويُحسن فهمها.

ولو أن العلماء خاطبوه بالعامية التي لا يعرف غيرها، لما حصّل هذا الخير قط.

والمقصود، أن الواجب على العلماء رفع تحدي تغيير الانحراف، لا التغيُّر لموافقة الانحراف.

انتشار المناهج التخريبية لاستعمالها العامية

وهذه شبهة مشهورة. يقول القائل في شرحها:

إن أعداء الدين يستطيعون نشر أباطيلهم لأنهم يعرفون استعمال الأساليب المحببة للعامة، بما في ذلك اعتمادهم العامية في الخطاب.

والحق أن هذا جزء صغير من الصورة الكلية.

فهؤلاء المضلّون يبثون ضلالهم لأنهم يخاطبون الشهوات، ويدغدغون الأهواء ..

وينشرون باطلهم لأنهم يسيطرون على وسائل الإعلام، ويتحكمون في التعليم ..

ويصلون إلى أعماق المجتمعات لأنهم يملكون -في الغالب- السلطة السياسية، أو -على الأقل- يحسنون مداراتها..

والعالم أو الداعية لا يملك من هذا كله شيئا..

فتعصيب الجناية بأسلوب خطابه وحدَه، ظلمٌ وتطفيف في الميزان..

ولست أنكر حتمية التجديد في الأساليب الدعوية، والإبداع في الوسائل التواصلية -ما لم يخالف ذلك شريعة ثابتة- ولكن ذلك لا يقتضي التعبير بالعامية. بل في أساليب اللسان العربي الفصيح مراتب متفاوتة، بين علمي ووعظي وفكري، وسهل سلس كانسياب الماء في الغدران الرقراقة، وصعب خشن كتقطيع جلاميد الصخر، وفصيح عصيّ على غير الجهابذة، وفصيح متداول لا يجهله أحد.

وخطيب الجمعة أو الداعية الذي لا يحرك الناس، عنده خلل في المضمون أو الأسلوب أو فيهما معا، لا في لغة التعبير.

هل العامية تساعد على الانتشار الجماهيري؟

جوابي: إنها تحقق الانتشار من جهة والانحسار من جهة أخرى!

وبيان ذلك: أن الداعية إذا تكلم بالعامية -مع مضمون جيد- فإنه يحقق الشهرة داخل قطره في صفوف من لا يعرف الفصحى أو لا يحبها.

ولكنه يحكم على دعوته بالموت، خارج حدود بلده، وفي صفوف من يكره العامية من المثقفين والمتعلمين.

ولا يستثنى من هذه الموازنة إلا أصحاب العامية المصرية، لأنها تفهم بسهولة خارج مصر، لأسباب ذاتية وموضوعية لا أطيل ببيانها.

ونحن الآن في عصر التواصل الخارق، الذي يلغي الحدود الجغرافية، ويقرّب المسافات البعيدة. فكيف نطالب الدعاة بالتقوقع في بلدانهم على لهجاتهم المحلية؟

ولننظر في دعوى كون العامية سبيلا للاشتهار والانتشار بين الناس. أهي صحيحة فعلا؟

إذا أخذنا عدد المتابعين على تويتر مقياسا للشهرة، ففي طليعة الدعاة يأتي محمد العريفي وسلمان العودة وعائض القرني ونبيل العوضي. وهؤلاء كلهم يحاضرون بالفصحى، إلا ما يكون من نتف يسيرة بالعامية لا تضر!

وهذا الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله أشهر واعظ وداعية في العصر الحديث، كان أغلب كلامه بالفصحى، وأدركتُ خلقا من العوام يسمعون كلامه ويفهمون مقاله!

فلا أرى القضية إلا مبالغة لا تصح!

وحين ظهر الدعاة الجدد، قيل لنا إن اللحية الكثة واللباس التقليدي يصرفان المدعوين عن الاستماع، وعلى الداعية أن يحلق لحيته أو يخففها، ويلبس اللباس الإفرنجي ليكون مقبولا عند الناس.

وبقطع النظر عن الحكم الشرعي، فإنه ما مضت إلا سنوات قليلة، حتى رأينا على الشاشة علماء ودعاة بلحى كثيفة تكاد تملأ الصدر، ولهم من القبول عند الناس في مشارق الأرض ومغاربها ما لا يحلم به هؤلاء الدعاة الجدد!

التنازلات سيل منحدر لا يحبسه شيء!

إن التنازل عن بعض الحق لملاءَمة أهواء بعض الناس، لا بد أن يفضي إلى تنازلات أخرى تتلوه، وتكثر حتى تؤدي إلى الانحراف التدريجي، مع ضياع الغايات الكبرى التي يجب السعي إليها.

اليوم: نقبل بالكتابة والخطابة بالعامية ليفهم عوام الناس أمور الدين.

وغدا: سيأتي قوم يقولون: ”إن أولادنا لا يفهمون الفصحى التي يجدون في المدارس، فلندرّسهم العامية بدلا من الفصحى”.

وقد قيل هذا فعلا، فما الفرق المؤثر بين المقامين؟

اليوم يقول القائل: ”سنستعمل العامية في دعوة العامة فقط، دون غيرهم”.

وغدا: ستصبح العامية لغة الدعوة مطلقا، حتى مع المثقفين، بل لغة تدريس العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه، وكذا الفكر والفلسفة وغيرهما.

وقد كان هذا فعلا، حتى رأيت من يدرّس علم النحو بالعامية!

وأخيرا..

إن السياسيين والمفكرين والعلماء في الغرب -وهم أكثر الناس تأثيرا في القرارات المجتمعية العامة- يتكلمون بلغة مقبولة أكاديميا، ولا يرضون باللحن في كلامهم، ويعدّ ذلك -إن وقع منهم- سبة في حقهم.

وسبيل الوصول إلى ذلك: نشر التعليم النافع، وإصلاح ما فيه من الخلل، ومحاربة الأمية الحقيقية والمقنّعة داخل المجتمع.

أما النزول بالدعوة إلى حيث ينزل المستوى اللغوي العام، فانحطاط لا يمكن إلا أن يزيد فصول المأساة التي نتخبط فيها.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M