مساهمة في النقاش الجاري بخصوص مسودة القانون الجنائي: حين تحكمنا فلسفة اليونان وقوانين الرومان

14 مايو 2015 13:56
مساهمة في النقاش الجاري بخصوص مسودة القانون الجنائي: حين تحكما فلسفة اليونان وقانون الرومان

مساهمة في النقاش الجاري بخصوص مسودة القانون الجنائي: حين تحكما فلسفة اليونان وقانون الرومان

هوية بريس – متابعة

الخميس 14 ماي 2015

توصل موقع “هوية بريس” بوثيقة صادرة عن مجموعة من المعتقلين الإسلاميين تستعرض مواقفهم من النقاش الجاري بخصوص مسودة القانون الجنائي.

وفي ما يلي، النص الكامل للوثيقة:

“بسم الله الرحمن الرحيم من المعتقلين الإسلاميين بالسجون المغربية إلى الشعب المغربي المسلم السلام عليكم ورحمة الله الحمد لله رب العالمين، أمرنا بعبادته وتوحيده في جميع شؤون الحياة فقال: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}.

وحذرنا أن نشرك به أحدا في الحكم والتشريع فقال: {ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}، وفي قراءة ابن عامر أحد السبعة: {ولا تشرك} بصيغة النهي.

وجعل من لوازم الشهادتين وجوهر الإسلام ومقتضى الإيمان الانقياد لشرعه ولحكمه في صغير الأمور وعظيمها فقال: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون}، وزاد إيضاحا لهؤلاء الراغبين في التحاكم لغير شرع الله فقال: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا}، فاعتبر انتسابهم الإسلام والإيمان مع تحاكمهم لغير شرع الله مجرد زعم وادعاء، يكذبه حالهم.

والصلاة والسلام المبعوث بالشريعة رحمة للعالمين، خاطبه ربه فقال: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها}، وحذره من اتباع تشريعات غيرها فقال: {ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}، وقال: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}، والخطاب وإن كان له صلى الله عليه وسلم فإن المراد أمته إلزاما لها باتباع أحكام الشريعة ونهيا لها عن اتباع غيرها.

ثم خص هذه الأمة بالخطاب حين نفى الإيمان عن أفرادها وعلقه على التحاكم إلى الشرع والنزول عنده والانقياد له والرضى به فقال سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وقال: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}، ذلك أن تحكيم الشرع والتحاكم إليه ليس أمرا تخييريا، إنه عبادة، وهو أصل من الأصول التي لا يستقيم التوحيد والإسلام والإيمان إلا بها، قال تعالى: {وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، ومن لم يرض بالشريعة لم يرض بدين الإسلام، ولم يذق طعم الإيمان، لأن الإسلام هو التسليم والاستسلام والطاعة والانقياد لأحكام وأوامر الشرع ونواهيه وتشريعاته وضوابطه، والعبودية كما قال ابن القيم هي: [أن يشهد العبد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم]، ومن انقاد لغير شرع الله فقد عبد ما انقاد إليه واتخذه ربا وإلها.

واتباع أي نهج يجعله دينا عند متبعه، لذلك كان الهوى دينا يتبع، بل إلها يعبد، قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}، وقال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}. فاعتبر اتباع النصارى لتشريعات قادتهم المخالفة لما شرعه الله تأليها لهم، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم انقيادهم وطاعتهم وامتثالهم، عبادة. حين قال لعدي رضي الله عنه: “أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت بلى قال صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم“، وقال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان}، أي لا تطيعوه وتتبعوه، فذلك من العبادة.

وبعد:

ففي خضم النقاش الجاري حول مسودة مشروع القانون الجنائي، أهم وأخطر قانون يشرع حقوقا للمواطنين في أموالهم وأعراضهم ودمائهم وحياتهم وحرياتهم وقناعاتهم وعلاقاتهم، ويلزمهم بتلك القوانين ويخضعهم لها، فتكون فيهم كأنها شرع منزل لا يجوز مخالفته، وفي ظل غياب صوت العلماء عن هذا النقاش سواء بإقصائهم المقصود من لجنة إعداد المسودة والمشاركة فيها، أو بإقصاء أنفسهم وانكفائهم وانطوائهم واختبائهم وإحجامهم وهروبهم من النقاش العمومي الدائر، وإبداء رأي الشرع في هذا التشريع وهذا النقاش، ومراقبة مدى مطابقته وملاءمته لدين الشعب والعقيدة والمذهب الرسميين، إذ يفترض في دولة يسمى قائدها بأمير المؤمنين، أن تكون تشريعاتها متوافقة مع نظام إمارة المؤمنين والشعارات المرفوعة، لكن أما وأن العلماء سواء الرسميون أو علماء الحركة الإسلامية أو المستقلون، أحجموا طوعا وكرها، وكأن الموضوع من اختصاصات القيصر التي لا دخل للإله فيها.

وحيث أننا معنيون بهذا النقاش كمسلمين أولا وكمواطنين ثانيا وكمكون من مكونات الحركة الإسلامية والمجتمع ثالثا. وفي خضم هذا الأخذ والرد والإقصاء والرفض، فإننا لم نجد بدا من الإدلاء بدلونا في غياب من ينوب عنا ويكفينا ذلك من العلماء، وكأن هذا التشريع الخطير من دون الله وعلى غير قواعد وأحكام شرعه، يتعلق بقبائل وثنية في أقاصي أستراليا وأدغال إفريقيا وغابات الأمازون، لا دين يضبطها ولا شرع يحكمها، وكأن هذا الشعب كتب عليه أن يبقى إلى الأبد تحت أنواع وألوان الهيمنة والاستعمار، لا يخرج من استعمار إلا ليرزح تحت آخر، فلا يعرف طعم السيادة والاستقلال، ولا الطمأنينة والاستقرار التي لن ينعم بها إلا في ظل الإسلام وأحكامه وتشريعاته.

خربت جيوش الاحتلال الفرنسي لكن بقيت قوانين الاحتلال الفرنسي وهي أخطر على الدين والمعتقد والهوية والثقافة والأخلاق والقيم. يقول “فون أهرنج” أحد فقهاء القانون الألمان: [أن روما غزت العالم ثلاث مرات؛ الأولى بجيشها، والثانية بدينها، والثالثة بقانونها]، واعتبر الغزو الثالث فتحا سلميا مبينا مؤزرا.

وهذه القوانين الغريبة التي نستمد منها ونستأنس بها ونشرع على ضوئها، تعود في مجموعها إلى القانون الروماني، وإلى اجتهادات رجال القانون على مر العصور من يهود ومسيحيين وملاحدة وعلمانيين. ولكن علماءنا عوض أن يسعوا ويعملوا من أجل أن تحكم هذا الشعب المسلم شريعة الرحمان، تراهم صامتين حيال هيمنة وسيطرة قوانين الرومان، وتحاكم الأمة لها، لا يسعون لتحريرها.

من هذه الآلهة المزيفة وتعليمها وتنبيهها إخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور القوانين والتشريعات إلى عدل الإسلام قال الله تعالى: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل“. ولا عدل إلى في شريعة الرحمن وما عاداها كله ظلم وجور. لكن ماذا تنتظر من علماء حالهم كحالنا أسرى فاقدين للحرية والاختيارات رغم أن وضعهم ﻻ يلغيهم من المسؤولية والأمانة التي حملهم الله حيث قال: “وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه لناس ولا تكتمونه“. وقال: “ومن أظلم ممن كتم شهادته عنده من الله“. وما قلناه عن العلماء نقوله عن الحزب الذي يقود الحكومة وعن وزير العدل والحريات تحديدا الذي أبى إلا أن يتحمل هذه المسؤولية الخطيرة التاريخية والشرعية أمام الشعب وأمام الله، وفي الوقت الذي وفي الوقت الذي كان الواحد من العلماء يتخوف ويتحرج من الافتاء لشخص واحد في نازلة من النوازل ويبكي مخافة ألا يصيب حكم الله في مسائل اجتهادية. نجد المنتسبين للإسلام والدعوة لا يجدون حرجا في التشريع لشعب بكامله بما يخالف النصوص القطعية والأحكام الثابتة وإلزام الناس بها متسائلين ألم يفكر من تحمل هذه المسؤولية بأي جواب سيجيب خالقه يوم لقائه بخصوص هذا التشريع؟

ما ضره ألا يتقدم بأي مشروع، أو أن يعد مدونة مستمدة من الشرع، وإن تم رفضها يكون الوزر والإثم على من رفضها، ولن يتحمل هو مسؤولية خطيرة كهذه. لكن ربما الحزب وقادته وذراعه الدعوي يرون بأن حملة لمحاربة التدخين أهم وأولى وأخطر من أمور التوحيد والعقيدة والتشريع للناس، وأن القضية قضية رفع أجور وخفض أسعار وتحسين مستوى العيش، كل ذلك تحت شعارات الوسطية والاعتدال والمصلحة، فأي مصلحة هذه تمزيق المرء دينه لترقيع دنيا الناس!؟

لكن رغم كل هذا الابتعاد عن الشرع وعدم اعتباره بل وتبديله وإقصاء أهل الاختصاص فيه، فإن هذا الحزب لم يسلم من حملات التحريض وسهام الاتهام بمحاولة أسلمة القانون الجنائي في صراع سياسوي بائس لا يقيم وزنا لشرع أو الدين، حيث أصبحت الأسلمة تهمة وجريمة ترمي بها حفنة من العلمانيين طارئة على المشهد المغربي منقطعة الصلة بتاريخ هذا الشعب وجذوره الإسلامية الضاربة في عمق الأصالة والعراقة أزيد من إثني عشر قرنا، في الوقت الذي لا يتجاوز عمر هذه الفئة الدخيلة المتغربة قرنا من الزمان في أحسن الأحوال ليس كأفراد بل كبذور أولى لهذه الأيديولوجية الطارئة الدخيلة.

ولا يزيد عملها كتنظيمات ومؤسسات عن نصف هذه المدة. لكنها برغم من ذلك تسعى لفرض معتقدها ونزواتها وأهوائها ورغبتها ورؤيتها وتشريعاتها على شعب بكامله وتطالب أن نلائم الإسلام مع قوانين الغرب فنحذف منه ونزيد فيه، ونؤوله ونحرف، ونقبل ما يعجبنا ونرفض ما لا يعجبنا، ونؤمن ببعضه ويكفر ببعض، ليتوافق مع القوانين والاتفاقيات والمواثيق الدولية، لذلك رأت في بعض بنوده مسودة المشروع الجديد تضييقا على نزواتها وشهواتها وأهوائها، وتشويشا على أجندتها، وانتكاسة إلى عهود البربرية والهمجية والتشريعات المتوحشة والمتخلفة من قطع يد السارق وجلد الزاني وقتل القاتل التي هي تشريعات ربانية سماوية إسلامية نبوية قطعية، نصت عليها نصوص الوحيين وأجمعت عليها الأمة، وطبقها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده ولا شك في أن من كرهها أو استهزأ بها أو عرض بها يكفر بالإجماع.

لقد رأت هذه الفئة الدخيلة والطارئة على المشهد المغربي، المنقطعة الصلة بدينه وقيمه وثقافته وتاريخه، في هذه المسودة قانونا إسلاميا ووصفته بعض منابرها بالقانون “الداعشي” وتخوفت من تطبيق الشريعة أو أسلمة القانون الجنائي إظهارا لرفض أحكام الإسلام، وإعلانا لذلك ومقارنة لفلسفة التشريع الإسلامي ومقاصده مع فلسفة ومقاصد القوانين الوضعية وتفضيل هذه الأخيرة، كل ذلك سعيا من هذه الفئة لتلميع صورتها، ونيل الحظوة والرضا عند المنظمات والمحافل الأوروبية، وإقناعها بأنها لا تألوا جهدا في تشويه الإسلام وإبعاده عن حياة المسلمين في جانبه التشريعي والقيمي والأخلاقي والعقدي.

في هذه الورقة سنناقش العلاقة التي تربط هذه المسودة بالإسلام، انطلاقا من فلسفة وآليات ومقاصد التشريع الإسلامي. مقارنة مع الفلسفة والمقاصد في القوانين الأوروبية، لذلك فإننا لن نناقش تفاصيل المسودة ولا بنودها، إلا إذا تعلق الأمر بضرب الأمثلة أو عقد بعض المقارنات. ولا يفوتنا أن نسجل أننا نختلف مع هذه المسودة ونرفضها جملة وتفصيلا رؤية وفلسفة ومقصدا.

بمعايير الديمقراطية فإن هذه المسودة تشريع أقلية، بل بضعة أفراد لأمة بكاملها، فأين هي مقولة إن الأمة هي التي تضع قوانينها وتحكم نفسها بنفسها؟

نحن لا نرى إلا أفرادا معدودين ﻻ يمثلون الأمة لا في دينها ومعتقدها ومنهجها وثقافتها وقيمها وهويتها ولا في مجموعها وعددها. فهو تشريع يتجاوز الشعب فلا يشركه بل لا يشرك حتى مختلف فئاته وحساسياته، فلا وجود لمن يمثل دين الأمة ولا من يمثل المذهب المالكي ولا من يمثل المؤسسات الدينية الرسمية كإمارة المؤمنين والمجالس العلمية ووزارة الأوقاف ولا الحركات والجمعيات الإسلامية والدعوية ولا الطرق الصوفية بل الأمر أشبه بتمثيل مهني لرجال القضاء والمحامات فهو بمعيار الديمقراطية احتكار واستئثار ودكتاتورية بضعة أشخاص في فرض رأيها وتشريعها على شعب بكامله.

ولو أنه لا يعنينا هذا المعيار فلئن خالفت المسودة معايير الديمقراطية في هذا الجانب فهي توافقها في جوانب عديدة أخرى من رفض لمصادر التشريع الإسلامية وفرض مصادر أخرى على المسلمين، وإطلاق الحريات الفردية المنفلتة والمتحللة من كل القيود والضوابط والقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الديمقراطية عن الحداثة والعلمانية. لأنها التطبيق السياسي والتنزيل العملي لهما على أرض الواقع.

فهي إذن، منظومة متداخلة متكاملة تختلف كليا عن منظومة الإسلام عن نظرته للإنسان والكون والحياة والممات وما بعد الممات، عن تنظيم العلاقة مع المسلم ومع غير المسلم، عن فلسفته في الحكم والتشريع، عن تنظيم الأسرة، علاقة الحاكم بالمحكوم، حفظ قيم المجتمع، فلسفة الحقوق والواجبات والحريات، هما إذن طريقان متغايران ﻻ تقام بينهما قنطرة اتصال.

وأما بمعايير الشرع فإن هذه المسودة لا علاقة لها من قريب أو من بعيد، لا في منطلقاتها ولا في مقاصدها، ولا في طريقتها وآلياتها، ولا في شروط القائمين عليها، فهو تشريع من دون الله قام به بضعة أشخاص، انطلاقا من مصادر باطلة وغير معتبرة في الشرع، مردها إلى الآراء والأهواء والشهوات واستحسانات عقول رجال القانون وفلاسفة الغرب الذين يقدسهم المشرعون في شتى بقاع الأرض ولا اعتبار عندهم لوحي أو دين.

وصدق الله إذ يقول: (وَإذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذينَ لا يُؤْمِنونَ بالآخِرَةِ وإِذا ذُكِرَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرونَ). قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: “لا أعلم بين متقدمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافا أن الرأي ليس بعلم حقيقة “. وذكر ابن حجر في الفتح عن ابن عبد البر المالكي قوله: “أجمع العلماء أن الجور البين والخطأ الواضح المخالف للإجماع والسنة الثابتة المشهورة التي لا معارض لها، مردود على كل من قضى به”.

فلو أن هذه المسودة اجتمع عليها رؤساء المجالس العلمية واختتموا جلستهم بالقرآن والتضرع إلى الله، وقرروا أن الزنى حرام، وأنه آفة من الآفات وجريمة من الجرائم وأنهم سيحاربونه دون هوادة، وضمنوا لأجل ذلك بندا ضمن مسودة القانون الجديد يجعل عقوبة الزنى 99 جلدة أو 101 جلدة أو شنق الزاني أو رميه بالرصاص، فإن ذلك لن يكون تشريعا إسلاميا ولا علاقة له بالإسلام، والقائمون بذلك جعلوا من أنفسهم مشرعين شرعوا من دون الله وزاحموه في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والحق حق وإن استقبحه الناس، والباطل باطل وإن استحسنه الناس، كما قال ابن حزم رحمه الله.

فكيف وأن مقاصد هذه التشريعات هي الشهوات والحريات، والقائمون عليها من دعاة هذه الشهوات والحريات المنفلتة وغير المنضبطة، والله تعالى يقول: (ويُريدُ الَّذينَ يَتَّبِعونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَميلوا مَيْلاً عَظيماً) أن نميل عن شرع ربنا وصراط ديننا ونتحرر من القيود والضوابط الشرعية والأخلاقية بدعوى الحرية الفردية.

فليس لمخلوق أن يبدل شرع الله بغيره من الشرائع والقوانين الوضعية ويشرع للناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) فسماهم شركاء، وهذا الشرك مرتبط بتوحيد الإلهية الذي هو توحيد الله بالقصد والطلب، فمن نصّب غير الله وتوجه إلى غير شرع الله في الحكم والتحاكم والتشريع فقد أشرك، وهو مرتبط بتوحيد الربوبية الذي هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو توحيد الله بأفعاله، فالله هو الذي له الخلق والأمر، وهو الملك المشرع المتصرف الناهي الآمر، فمن جعل خاصية الأمر والنهي والتحليل والتحريم والتشريع لغير الله، فقد نازع الله في ربوبيته، وهو مرتبط بتوحيد الأسماء والصفات لأن الله هو الحكم، ومن شرع فقد نازع الله في هذا الاسم، والله وحده هو المشرع في الأخلاق والمعاملات وأنظمة الحياة كما في العقائد والشعائر والعبادات، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لهذا التشريع: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم“، فلا تشريع إلا ما شرع الله، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا كان للتشريع الإسلامي مصدران أساسيان: الكتاب والسنة، وبانتهاء حياة النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى عهد التشريع، وبقي الباب مفتوحا أمام الأئمة والمجتهدين من علماء المسلمين المتوفرة فيهم شروط الاجتهاد للاستنباط على ضوء الكتاب والسنة أحكام النوازل والمستجدات والحوادث والجزئيات، في كل زمان ومكان، مما لا نص قطعي فيه، بطريقة شرعية مضبوطة ومؤصلة، معروفة القواعد والشروط.

إن جميع ما في القرآن وإن تعددت سوره وأحكامه، فهو وحدة عامة لا يجوز تفريقه في العمل به ولا الأخذ ببعض دون بعض، قال تعالى: (أَفتُؤْمِنونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وتَكْفُرونَ بِبَعْضٍ)، وقال: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

وإن آيات الأحكام منها ما جاء بصيغة قاطعة لا مجال للاجتهاد فيها، فهي بمنزلة آيات العقائد واجبة الاتباع عينا على كل إنسان، كآيات وجوب العبادات على اختلاف أنواعها وآيات المعاملات وآيات المواريث، وآيات حرمة الزنى والقذف والربا والخمر وأكل أموال الناس بالباطل، والقتل بغير حق، وآيات العقوبات وأحكام الجنايات وآيات الحكم والقضاء، مع العلم أنه جاء في العبادات على اختلاف أنواعها حوالي 140 آية، في حين نزل في نظام الأسرة والمعاملات المالية والعقوبات حوالي 170 آية.

أما القسم الثاني من آيات الأحكام فهي التي تكون مجالا للبحث والاجتهاد، ومن هذا النوع تعددت المذاهب الفقهية، واختلفت آراء الفقهاء في فروع الفقه، اختلافا وتعددا، لا يمس جوهر التشريع وفلسفته في الإسلام، ولا يقفز على النصوص القطعية.

وإن فلسفة العقوبات ونظامها في الإسلام جاء لصيانة الحقوق العامة، ولحفظ الكليات الخمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وأولها وأهمها الدين، فلا عبرة بتشريع يضيع الدين لحفظ مقاصد أخرى.

والعقوبة في الإسلام هي الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع، وذلك لإصلاح حال الناس، وحمايتهم من المفاسد، وكفهم عن المعاصي، وحثهم على الطاعات، وزجرهم عن الاعتداءات وإنقاذهم من الضلالات، فالعقاب في الإسلام هو لإصلاح الفرد وحماية المجتمع، ومقاربة الزجر والعقاب والردع حاضرة بقوة، لكنها مقاربة ضمن مقاربة شمولية من التربية والمواكبة، ومحاصرة أسباب ودوافع الجريمة، وتحمل الدولة مسؤولية إشباع حاجات الناس، ومنع المحرمات، في أجواء عامة تساعد على الانضباط والاستقامة، تساهم فيها الأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام وكل مؤسسات الدولة.

ثم إن المنظومة تشددت في إثبات الجريمة على المتهم، وجعلت لذلك قواعد وضوابط، وجعلت من تبرئة ساحة المتهم قبل أن يدان بالجرم أصلا من أصولها، ثم تركت أبواب العفو والتجاوز مفتوحة إن وجدت الشبهة أو تسرب الاحتمال. فتجد مثلا: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة».

ثم إن الاقتران في نظام العقوبات بين الجزاء الدنيوي والجزاء الأخروي هو الذي يبعث المسلم على طاعة أحكام الشريعة وامتثالها والانزجار لها، فيحس معها بالأمن والأمان، والكرامة والطمأنينة والانقياد بنفس راضية، لارتباطها بالجانب العقدي والبعد الإيماني التعبدي، ويحس أن لتلك الزواجر والحدود والعقوبات والتشريعات، فوائد أخروية، تتجلى في تكفير ذنوبه وتطهيره من آثامه لقوله صلى الله عليه وسلم: «من فعل شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته»، بخلاف العقوبات في القانون الوضعي العلماني. الذي لا فائدة ترجى منه. ويصعب على الناس الانقياد له لأنه من وضع البشر، والعقوبة فيه لا تقع على الجاني فقط بل تقع على الأسرة أيضا وتمس المال العام الذي ينفق على السجناء. إن الأمر أشبه بما لو قارنا الزكاة بالضرائب المفروضة على الناس بغير وجه حق.

كذلك العقوبات في الإسلام، بالإضافة إلى جانبها العقدي والتعبدي الذي لا تنفك عنه، فهي جاءت للتأديب والتطهير والمعالجة، فهي للمقامة عليه طهرة من إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة زاجرة عن الوقوع في المعاصي، وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور والفساد في الأرض. فهل هذه الأمور التي ذكرنا متوفرة في المسودة؟

هل انطلقت هذه المسودة من الكتاب والسنة؟

هل اقتصرت على ما لا نص قطعي فيه ؟

هل اقتصرت على النوازل والمستجدات بما لا يخالف الشرع؟

هل تتوافق مع الشرع في منطلقاته ومقاصده؟

هل تتوفر في القائمين عليها شروط الاجتهاد والقدرة على الاستنباط المعتبرة شرعا؟

لا شيء من ذلك البتة، هو تشريع وضعي علماني يقصي الدين إقصاء تاما، يتبنى القائمون عليه القوانين الغربية تبنيا تاما ويعتنقونها مذهبا وتشريعا وتحاكما، ويصرحون أن المسودة تتوافق مع الأنظمة الجنائية الحديثة والقانون الدولي. فكيف تنسب إلى الإسلام إذن؟

إننا نطمئن الرافضين للإسلام، أن هذه المسودة لا علاقة لها بالإسلام لا في منطلقاتها ولا في أهدافها ولا في مقاصدها ولا في فلسفتها. وأنها تناقضه مناقضة تامة، وتزاحمه في مجالات حسم فيها وقال كلمة الفصل وحكمه العدل. فجاءت لتخطئه وتصحح له وتستدرك عليه. وحتى بعض البنود والعبارات ذات المقتضيات المحافظة التي اعتقدتم أنها من الإسلام، وهي ليست منه في شيء هي بنفسها سبة للإسلام ومحاربة له واستدراك عليه.

فالسكر لا يكون جريمة إلا إذا كان في الأماكن العامة وتسبب في مضايقة العموم، ويعاقب عليه كما في المادة 1- 286 من هذه المسودة بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وغرامة من 2000 إلى 10000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين، أما صناعة الخمر وحيازتها والمتاجرة فيها فليست جريمة، فهل هناك استهزاء بالإسلام وسب له أكثر من هذا؟

أما الزنا فقد اعتبرت المادة 490 كل اتصال جنسي غير شرعي بين رجل وامرأة غير متزوجين يعاقب عليه بشهر إلى ثلاثة اشهر وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم أو إحداهما.

أما الخيانة الزوجية فتسقط فيها المتابعة إلا إذا كانت هناك شكاية من أحد الزوجين وتسقط بمجرد تنازل المشتكي كما في المادة 492.

والسرقة في المادة 505 جاء فيها: من اختلس عمدا مالا مملوكا للغير يعاقب من سنة إلى 5 سنوات وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم، هذه أمثلة فقط على تبديل شرع الله والاستدراك على الله عز وجل في أحكامه وتشريعاته القطعية التي لا خلاف فيها بين كل الطوائف والمذاهب الفقهية وعلى رأسها المذهب المالكي.

والذي فرض علينا لا صيام بالقول: (كُتَبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) هو من قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القَصاصُ) وقال: (وَالسّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقْطَعوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وغيرها من تشريعات الزجر والردع والقتل والقطع والرجم لمستحقيها من المجرمين، والتي هي محط استهزاء واستنكار واستبشاع من العلمانيين وأبواقهم والله تعالى يقول: (قُلْ أَباللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤونَ لا تَعْتَذِروا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ).

وهذا يجرنا لعقوبة الإعدام التي أقاموا عليها الدنيا ولم يقعدوها رغم أنهم من دعاة القتل في موضوع الإجهاض، فهم يدافعون عن حق القاتل في الحياة، باعتباره حقا من الحقوق الطبيعية (رغم أن الحرية أيضا من الحقوق الطبيعية التي تنتهكها بوضع المجرم في السجن) ويدافعون عن قتل الأجنة البريئة، في انعدام تام للعقل والمنطق، لأن ذلك ينسجم مع مشاريعهم ومشاريع أسيادهم في اختراق المجتمعات الإسلامية.

بالعودة إلى موضوع الإعدام نقول إن الإسلام حصره في ثلاث حالات:

النفس بالنفس، فمن قتل يقتل، هذا هو الدين والشرع والعقل والعدل والمنطق بل لو اشترك أكثر من واحد في قتل رجل لقتلوا جميعا، روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد، قتلوه قتل غيلة، وقال عمر: “لو تمالأ عليه أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم جميعا”.

الثيب الزاني: فمن زنا وهو متزوج يقتل.

والمرتد، فمن ارتد عن دين الإسلام بأي نوع من أنواع الردة يقتل، ويدخل تحت هذه الحالة سب النبي صلى الله عليه وسلم، وسب الله عز وجل، وهو أمر مجمع عليه بين المذاهب لا خلاف في ذلك، وسنقتصر على أمثلة من المذهب المالكي، فقد حكى ابن القاسم عن مالك: “من سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ولم يستتب”. وروى ابن وهب عن مالك: “من قال إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم وسخ وأراد به عيبه قتل”. وروى بعض المالكية “إجماع العلماء على أنه من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه إنه يقتل بلا استتابة”.

وقال محمد بن سحنون: “أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر”.

أما سبّ الله عز وجل فهو أكثر وأكبر من الكفر، قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)، فسب الله عز وجل أعظم من شركهم وتكذيبهم الذي كانوا عليه، وساب الربّ أسوأ من الكافر لأن الكافر يعظم الرب الذي يعبد.

ومذهب أهل المدينة أن من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا ولا يسقط القتل بتوبته، فهذا قول أهل المدينة وعملهم وهو أصل من الأصول المعتبرة عند الإمام مالك. وروى ابن القاسم عن مالك قوله: “من سبّ الله تعالى من المسلمين قتل ولم يستتب”.

وكتب الفقه والحديث والتفسير المالكية بل القرآن الكريم والسنة النبوية طافحة بهذه الأحكام والتشريعات القطعية التي يستهزئ بها العلمانيون ويعتبرونها بربرية وهمجية ووحشية، ونعتبرها من دين الله الذي نؤمن به ونسلم ونستسلم له بكامل الرضا والانصياع.

لقد جعلت المسودة في المادة 219 لمن سبّ الله عز وجل وأنبيائه ورسله واستهزأ بهم عقوبةٌ بالحبس سنة إلى خمس سنوات وهي عقوبة مسأوية لما جاء في المادة 179 التي تقول كل من وجّه إهانةً لشخص الملك أو ولي العهد يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، وتصل عقوبة الاعتداء على شخص الملك إلى القتل، ولا تطبق أبداً الأعذار القانونية كما في المسودّة.

إنّ العقوبة المخصّصة لجريمة سبّ الله وأنبياءه ورسله، في هذه المسودّة بالإضافة إلى أنها مخالفة للمذهب المالكي ولدين الله، عموماً فإنها هي نفسها سبّ لله تعالى واستهزاءٌ به وتنقيص من عظمته وقدسيته وجلاله، حيث ساوت في العقوبة بين من تنقص منه وبين مَنْ تنقُص من شخص الحاكم وجعلتهما جريمةً واحدة، مع انّ جريمة سبّ الرَّب لا تساويها حتى جريمة الشرك به كما تقدّم.

لكن ّ الأمر عندَ التأمُّل لا يُستغرَب، فليس من مقاصد التَّشريع العلماني والقوانين الوضعيّة حفظ الدّين والمُعتقد والمُقدّس، ومن يفعل ذلكَ فإنّهُ يتكلّف الجمع بين المتناقضات، ويستعمل وسائل وآليّات في غير محلّها.

إنّ من المقاصد التي روعِيَت في القوانين الوضعيّة، الولاء للدَّولة وحفظ النِّظام الحاكم والمُغالاة في ذلك لدرجة وضع عقوبات تصل لحدّ الإعدام لكل من ينال من شخص قائد البلد، ولو بكلمة وهو جزاء لا يتناسب أبداً مع الجُرم إن صحّ تسمِيَتهُ جُرماً، والقائد ليس هو الحق حتّى يكون النَّيل منه نيلاٌ من الحق. وهو ما لا نجدَهُ في الإسلام.

ومن المقاصد التي روعِيَت في التَّشريع العلماني، حفظ نوع من الحريات الفرديّة المُنسجمة مع المنظومة العلمانية فهو حفظ حريّات فئة من البشر، على حساب حريّات أخرى، وفئات أخرى فهذه الحريّات المعتبرة علمانيّاً أصلٌ من الأصول التي تحفظها وتراعيها القوانين الوضعيّة، والتَّشريعات العلمانية.

والإسلام لا يُقيم وزناً لهذا الحاكم أو ذاك، وهذا النِّظام أو ذاك ليُعبِّد النّاس لهُ بتشريعات وأحكام تجعلُهم أسرى وعبيداً لديه، يطيعونَهُ إنّ المقصود أن تعلوَ أحكام الله وتشريعاتِه، ليتحقّق بها التّوحيد والعدل في دنيا النّاس، وينالون بها الرِّضا والثّواب في آخِرتهم لذلك أمرنا أن نسمع ونُطيع حتّى لو تأمّر علينا عبدٌ حبشيٌّ، طالما أنّه يمشي على قواعد الشَّرع المُنزّل، والنظام المسطر والعقد المُبرَم فيُطبّق الأحكام، ويقيم الميزان، ويحفظ النَّظام فليس من مقاصد التّشريع في الإسلام حفظ النَّظام بعينهِ أو التّوصية لحاكم بشخصهِ كما أنّ الإسلام لا ينطلق من هذه النّظرة السَّطحيّة الغبيّة، حتّى يجعل حريّة الفرد أساساً وقاعدةً لبناءِ تشريعاتهِ.

إنّهُ ينظر لهذا الفرد على أنَّهُ عُضوٌ في جماعةٍ مرتبطٌ بها في إطار علاقات ومصالح وقيَم وروابط، والله عزّ وجل الذي خلقَ هذا الفرد، ووضَع لهُ حلولاً لمشاكلهِ وقواعدَ، وضوابطَ، وتشريعاتٍ ثابتةً لا تتغيّر، تخدُمُ مصلحتَهُ ومصلحةَ مُجتمَعِهِ وأمّتهِ في دُنياهُ وأُخراه، وجعل الامتثالَ لذلك عبادةً واجبة، إنّ فصل الدّين عن التّشريع والتقنين والقضاء والحكم والَّسياسة، مناقضٌ لفطرةِ الإنسان المُسلم الذي لا يمكنُ فصل عقيدته وعبادته ومشاعره عن ممارساته وتصرفاته فصلا تاما، لأن هذا المسلم يقرأ في صلاته: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، ويقرأ: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}، ويقرأ: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. وغيرها من الآيات التي افتتحنا بها هذه الورقة؛ وهذا التصور وهذه العقيدة باقية ما بقي القرآن يتلى.

هذا هو الإسلام واضح وصريح في فلسفته وتشريعاته وأحكامه، كما هي واضحة وصريحة العلمانية والحداثة والديمقراطية في فلسفتها وتشريعاتها، وهما طريقان ومنهجان مختلفان متباينان متناقضان لا يمكن الجمع بينهما، إلا عند دعاة الوسطية، وهو منهج ابتدعه أصحابه للتوفيق بين الإسلام والعلمانية، وتشريعاته وقوانينها الوضعية، ونظامه وتطبيقاتها السياسية، فهي وسطية تمسك العصا من الوسط بين الإسلام والعلمانية، بل تخلط بينهما، وتنتقي من المنهجين ما يخدمها وتتوهم أنها تخدم بعض الإسلام، وتحفظ وتحقق شيئا من مقاصده، بقوانين العلمانية وآلياتها وفلسفتها ونظامها، وهي خلطة عجيبة أتى بها الوسطيون، فهم يتخبطون فيها ويتناقضون ويضربون أصولهم بعضها ببعض، فيبدو خطابهم متناقضا متهافتا ومشروعهم ضعيفا، بعكس العلمانيين الذين تبدو أطروحتهم متماسكة وقواعدهم مطردة. فلا هم أقنعوا المسلمين ولا هم أقنعوا العلمانيين، وهذا حال هذه المسودة، والتي سنختم بمثال منها يؤكد هذا الطرح.

يتعلق الأمر بالمادة التي تتحدث عن الإفطار في رمضان والتي تقول: [كل من عرف عنه اعتناقه الإسلام وتجاهر بالإفطار في مكان عمومي دون عذر شرعي يعاقب من شهر إلى ستة أشهر وبالغرامة من 2000 إلى 10000 درهم أو بإحدى العقوبتين].

إن هذه المادة تحمل من المتناقضات والعجائب والغرائب والطرائف الشيء الكثير. فحتى في دولة إسلامية يحكمها الكتاب والسنة، لا نعلم أن هناك عقوبة لمن تجاهر بالإفطار في رمضان، حيث لا يمكن تمييز صاحب العذر من غيره، وكل ما يمكن أن يكون هو توجيهات ونصائح من شرطة الحسبة للمفطرين بالاستتار، كما أنهم يحثون الناس للذهاب للصلاة. لكنهم لا يعاقبون من لم يذهب إلا إن كان للدولة مذهب رسمي يرى وجوب صلاة الجماعة، ومع ذلك ليس لها أن تلزم الناس بهذا المذهب، أما يوم الجمعة فإنه لا خلاف في وجوب الذهاب للمسجد لذلك تقوم شرطة الحسبة بدعوة الناس لإقفال محلاتهم.

فلماذا اقتصر أصحاب المسودة على من تجاهر بالإفطار في رمضان، دون من تهاون في الصلاة أو تجاهر بالتدخين أو تجاهر بالتبرج أو تجاهر بفحش الكلام أو امتنع عن أداء الزكاة؟ بأي معيار تمت هذه الانتقائية، مع العلم أننا قلنا لا عقوبة لمثل هذا الفعل في الإسلام الذي تعاقب عليه المسودة، هذا لأن أصحاب المسودة يعرفون أن هذا التشريع لا يتعلق بدولة إسلامية وإنما بدولة ديمقراطية حداثية، إذا كان الأمر كذلك فإن دولة كهذه تكفل حرية مواطنيها الدينية والعقدية والتعبدية وليس من اختصاصاتها التنقيب في معتقدات الناس، وهذا يطرح تساؤلا بخصوص عبارة: [كل من عرف عنه اعتناق الإسلام]، كيف نعرف ذلك هل الأصل في المواطنين أنهم مسلمون أم أنهم خليط من الأديان والمعتقدات وهل سنجعل لكل منهم علامة حتى نميزه؟ وكيف سنعرف أنه أفطر لعذر شرعي أو بدونه؟

هذا مثال للتناقض والتهافت والغبش والضبابية والتخبط الذي ذكرنا سابقا والذي يقع فيه كل من لم يكن واضحا وصريحا في أهدافه ومنطلقاته وقناعاته ومبادئه وخطابه.

وبه نختم ورقتنا التي تلخص قناعتنا ورؤيتنا، نقدمها للمغاربة عموما والعلماء والدعاة والمجالس العلمية والحركات الإسلامية على وجه الخصوص لقول رأيهم، والسلام عليكم ورحمة الله.

المعتقلون الإسلاميون.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M