الإرهاب ودعاوى التسامح

16 مايو 2015 13:18
الإرهاب ودعاوى التسامح

الإرهاب ودعاوى التسامح

ذ. حماد القباج

هوية بريس – السبت 16 ماي 2015

التسامح من المعاني الجميلة التي يحبها كل إنسان سوي، ويدعيها كل صاحب دعوة أو فكر.. إلا أن ثمة من يتصرف بأنانية فيدعيها لنفسه وينفيها عن غيره بغير موضوعية ولا إنصاف، وهذا كثير في عالم السياسة..

ومن الأمثلة التي تحضرني الآن؛ ما أقدم عليه الرئيس الفرنسي من مطالبة الدولة التركية بالاعتراف بارتكاب الدولة العثمانية مجازر ضد الأرمن، وألزمها بالاعتذار الرسمي، مع أن فرنسا في احتلالها لعدد من الدول في الشام وشمال إفريقيا ارتكبت أشنع الجرائم وأبشعها.

وقد ذكر مؤرخ الشام الأستاذ كرد علي صفحات قاتمة من هول ما صنعه الفرنسيون في الشام وشمال أفريقيا؛ من ذلك قوله في مذكراته (3/736): «من أفظع أنواع الاستعمار: الاستعمار الفرنسي؛ فقد قام في كل قطر احتلته فرنسا؛ على نزع الثروة من أيدي الوطنيين، وعلى نشر الجهل والفساد بينهم، وعلى تربيتهم على خنوع وذلة  ليكون لها منهم إلى الأبد عبيد وخول يؤمرون فيطيعون بدون أخذ ورد، قرأت منذ نشأت كثيرا من كتب الثقات من الفرنسيين في نقد سياسة فرنسا في مستعمراتها الإسلامية، وتدبرت تلاعب ساستهم في تلك الأقطار فما شهدت -شهد الله- إلا الظلم المجسم وإرهاق الخلق باسم المدنية» اهـ.

ثم ذكر مذبحة الجزائر في سنة (1945)، ونقل رسالة الجنرال الفرنسي (ديغول) إلى المفوض الفرنسي في سوريا ولبنان يأمره أن يدمر ثلثي سوريا لتوطيد سلطان فرنسا عليها.

ولم يقف عدوان المستعمر الفرنسي على القتل والهدم والتدمير؛ بل فعلوا ما هو أعظم؛ حيث زرعوا بذور الفتنة الطائفية لإحيائها متى استدعى الأمر، وشنوا حملة تغريبية خطيرة استهدفت الأخلاق وشجعوا الانحرافات السلوكية من خلال الفن والإعلام وإفساد مناهج التعليم.

ومع هذا كله؛ لم تقبل فرنسا أن توجه أي اعتذار لأي شعب من الشعوب التي ارتكبت في حقها ذلك الإرهاب الفظيع؛ وهذا الموقف يعني ضمنيا بأن فرنسا كانت صاحبة حق، وهذا يعني أيضا بأنه ليس عندها مانع من ارتكاب مثل تلك الأفعال تحت ذرائع مصطنعة؛ وهو ما قامت بشيء منه فعلا في تدخلها الإرهابي في مالي مؤخرا..

إن مثل هذه الحقائق؛ تؤكد بأن الدول الإمبريالية إنما تستعمل هذه المفاهيم الجميلة؛ كالتسامح والسلم والحرية وحقوق الإنسان..

لخداع شعوبها، والتسلط على الشعوب الضعيفة باسم مكافحة الإرهاب ونشر رسالة السلم والتسامح!

ولنتأمل في مثال آخر قريب؛ وهو موقف هيئة الأمم المتحدة من المشهد السياسي الليبي؛ ففي الوقت الذي أبان فيه المؤتمر الوطني العام عن قدر كبير من التسامح والمرونة، وفي الوقت الذي يوفر برلمان طبرق الغطاء السياسي للإرهاب الذي يمارسه اللواء المتقاعد خليفة حفتر؛ مع ذلك نلاحظ أن المبعوث الأممي ومن ورائه دول الهيمنة في مجلس الأمن ينحازون إلى الطرف الذي ينتمي إليه خليفة حفتر متجاهلين افتقاده لأبسط مقومات سلوك التسامح!

إن التسامح لم يعد مجرد معنى أخلاقي جميل؛ يجب أن نتواصى به؛ لكنه أضحى في الواقع أداة توظف سياسيا؛ بحيث يتم إلصاق تهمة الراديكالية واللاتسامح بكل من يتمسك بحقه ويطالب به ويناضل من أجله؛ فالقوي يدعي صفة التسامح لنفسه ويجزم بأنه صاحبها ويتمحل في إلصاق تهمة اللاتسامح بخصمه وإن كان محقا..

وهذا السلوك قديم في البشرية؛ وهو من تجليات ما يلازم طبع الإنسان من ظلم؛ وهناك أمثلة كثيرة على ادعاء صاحب القوة المستبد لمعاني الحق والخير ورمي خصمه بضد ذلك؛ كما قال الله تعالى عن فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:26،27].

ومن الملاحظات التي يمكن تسجيلها على كثير من النخب السياسية والمثقفة التي تتحدث عن الإرهاب واللاتسامح، أنها لا تركز -ومنهم من لا يذكر أصلا- الإرهاب عند الآخر؛ بقدر ما توجه النقد اللاذع لممارسات أفراد مشبوهين قد يوصفون في الإعلام بأنهم سلفيين، وبقدر ما توجه النقد لتنظيمات إجرامية كتنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية، مع أن جرائمها تبقى أقل بكثير مما اقترفته الدول الإمبريالية في حق شعوب كثيرة!

فالمتتبع لتناول هذا الموضوع في إعلامنا الوطني، بما فيه كثير من الصحف والجرائد لن يجد صعوبة في تسجيل هذه الملاحظة، وأن خطابنا في الموضوع يعاني من تضخم في الحديث عن طرف هامشي في الموضوع وتغييب الكلام عن الأطراف الأساسية فيه.

ولذلك سبق لي أن سجلت هذه الملاحظة تعقيبا على بعض البرامج التلفزية التي تناولت الموضوع وتحدثت عن أسباب الإرهاب مع التجاهل التام لدور الدول الإمبريالية في ممارسة الإرهاب وفي صنع الإرهاب وفي المتاجرة بالإرهاب. ومن البرامج التي عرفت بهذا الخط برنامج مباشرة معكم، وبالرجوع إلى آخر حلقة بثتها القناة الثانية نلاحظ أن الأستاذ جامع وضيوفه حاولوا ملامسة كل الجوانب المرتبطة بالموضوع، واتفقوا على تغييب المعطى المذكور.

مما يثير كثير من التساؤلات عن دور المثقف المغربي والمثقف العربي في التناول الموضوعي لهذه القضية الحساسة والخطيرة؟!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M