الأدب البارد

22 سبتمبر 2013 03:25

علي المرضي

هوية بريس – الأحد 22 شتنبر 2013م

اعترض بعض القراء على إحدى مقالاتي، واصفاً إياها أنها تحمل عبارات من الأدب القديم، وأمرني (!!) أن أنزل بها (!!) إلى فهم الناس (!!)، وأن أبتعد عن هذا التشدق الممقوت، والتقعر البائس، والتمطط الذي ألوك فيه الألفاظ وأتلمَّظها، فأمجها مشوهة هالكة متحجرة، ولما طلبتُ منه -صادقاـ أن يمثل لي على هذا النزول، بعدما ادعيتُ عدم فهم قصده ومرمى كلامه -إحسانا للظن به- (رغم أني على فهم تام لما يصبو إليه وأمثاله من المغرَّبين !! لمناقشات بيننا سابقة)..

جعل يسرد أسماء بعض الهالكين الذين يكون القيئ أسرع إلى الحلقوم من أسمائهم إلى الأذن، ممن يتمسح بالأدب وينتسب إليه زورا وبهتانا، وممن ساد الحياة الثقافية بغير وجه حق فعبث فيها، وأفسد في الأدب بقلة الأدب، وانحط بالأذواق إلى دركات العامية بل إلى لغة الشارع!! وفي أمثالهم قيل:

دَعْ عَنْك الكِتَابةَ لسْتَ مِنْ أهلِها *** وَلَـوْ سَـوَّدْتَ وَجْهكَ بالمِـدَادِ

إن هؤلاء المستغربين رواد الأدب “البارد” كما سميته، يشكلون حزمة من الأطياف والأنماط داخل مجتمعاتنا العربية، فمنهم من ضل على علم وكره العربية وآدابها وتاريخها هكذا دون مبرر!! ومنهم من ضل عن جهل وقلة اطلاع، فهو حبيس ما ينثر عليه في الإعلام، وأسير ما درسه في المنهج التعليمي (ويا بئس ما درس!!)، ومنهم من يعلم الحق حقا ولكن الموجة تأخذه فينساب معها، ويقطِّب جبينه على أنه غير راض!! فهو يلعن الشيطان سرا في نفسه، وعلى إنكار القلب لا يزيد شيئا. ولعل الفئة الأكبر والأعظم والأشد تأثيرا، هي ما يسمى بالنخبة!! وصدق من قال إنها “النكبة “، وجامعات الدول العربية ومؤسساتها تعج بهم، تعرفهم بسيماهم، وتعرفهم في لحن القول، وليسو طبعا على نسق واحد، ولا على حدة واحدة، بل الحق يقال، منهم الزنديق والملحد، ومنهم أهل الخير والصلاح والإنصاف (وغالبهم من أهل الإنكار بالقلب)، المهم..

وخلال تدبري كلامَ صاحبنا عن الأدب القديم، تذكرت ما كتبه الأديب البارع: مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- في كتابه القيم  “تحت راية القرآن“، لمَّا كتبتْ إليه بعض المجلات الأمريكية تدعوه للتخلي عن الجملة القرآنية ـ التي يعتز بها ـ ليصير مدرسة في الأدب وقبلة للأدباء، فكتب مقالة يكشف فيها أسرار هذا الاقتراح، وما وراءه من المكايد، وعنوانها: “الجملة القرآنية“، وقفز إلى ذهني أيضا ما ثمن به هذا التحليل العجيب الأستاذ الكبير: شكيب أرسلان -رحمه الله- في مقالة له بعنوان: “ما وراء الأكمة” وهي في نفس الكتاب أيضا، فرجعت لقراءة هذه الصفحات النيرة لهذين الفحلين الكبيرين، لعلني أجد قبسا يقودني لجواب صاحبي هذا.

والرافعي من خيرة الأدباء الذين تصدوا للتغريب الفكري في زمانه، فقد كان رحمه الله حارسا منتبها متيقظا، لا يخدعه البُزْلُ القَنَاعِيس، فضلا عن الأغمار المفاليس، وفي كتبه ترى هذا واضحا جليا، مع جزالة في الألفاظ وسلاسة في الأسلوب، وإتقان منقطع النظير لعلوم اللغة باختلاف فنونها، وإطلاع واسع على تاريخ آداب العرب، كيف لا وهو صاحب كتاب: “تاريخ آداب العرب“؟.

ويأتي بعده الأديب المتفنن، الذي لا يخشى في الله أحدا، والذي كان قلمه سيفا بتارا، مزق به المتمسحين بالأدب كل ممزق، وكان أسلوبه ورده كالسيل الجرار، يهدم قواعد خصومه فيخر عليهم السقف من فوقهم ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، حتى لحقه السجن والتضييق وألوان الأذى، ورغم ذلك لم يعجز عن أداء حق القلم، ولم يُحْنِ رأسه لكل هذه العواصف الهائجة والفتن المائجة، إنه العلامة المحقق: أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله، ولعل في كتابيه: “أباطيل وأسمار” و”رسالة في الطريق إلى ثقافتنا“، أصدق الأدلة على ما أقول، وهي من الكتب التي لا يُستغنى عنها في هذا العصر بحال، وإن شئتَ أن تُـثَـلِّثَ بالأديب البارع: علـي الطنطاوي رحمه الله، فلن أنكر عليك، فهو من نفس هذه الطينة المشبعة بحب التراث الخالد، وله في كتبه فنون لا تخطئها عين متذوق للآداب، وأدع اللائحة مفتوحة، فرجالات أمتنا متكاثرون في كل زمان ومكان، جعلنا الله من السائرين على خطاهم.

وسأقتبس لكم بعض الكلمات من مقالتي الرافعي وأرسلان رحمهما الله، مجيبين على بعض ما أثاره صاحبنا وأمثاله من ضرورة التخلي عن الأدب “القديم”، على أني لا أزعم أنني من هذه المنزلة العالية في الكتابة، فأنا مدرك لطوري الذي أنا الآن فيه، وعارف بحجمي وقامتي، لم يخدعني طول ظلي ولله الحمد، ولعل كلمة المعترض كانت سببا كافيا لإثارة هذا الموضوع، فقد تراكمت الدواعي -عندي- لطرحه ومنقاشته، ولكني خشيت أن أقصر في ذلك، ما دمت غير راسخ في الآداب، لذا قررت أن أبعث هؤلاء الكبار من كتبتهم، وأن أقيم بهم الحجة على أصحابنا، وأنا رجل كثير الفخر بأسلافه كثير الاعتزاز بهم، ولنقم إلى الرافعي ولنغتنم هذه الفرصة لسؤاله..

ـ يا أيها الكاتب الأديب العبقري، لماذا لا تترك هذا النهج الذي عُرفتَ به في الكتابة وتتخلى عن الجملة القرآنية (التي تستعمل فيها الكلمات الفصيحة المقتبسة من القرآن وغيره من كلام فصحاء العرب) حتى تُنصب مذهبا في الأدب ـ كما وعدتك المجلة الأمريكية ـ و”تُفرض” كتاباتك على المناهج التربوية فرضا، وتطبل لك الصحف وتزمر لك المجلات، وتفوز بجائزة “نوبل”!! وتنال ما ناله من هو أدنى منك بكثير!؟

ـ طأطأ الرافعي رأسه وهو يخفي ابتسامة ساخرة وقال: “وإذا أنا تركت الجملة القرآنية وعربيتها وفصاحتها وسموها، وقيامها في تربية الملكة، وإرهاف المنطق، وحل الذوق مقام نشأة خالصة، في أفصح قبائل العرب، وردها تاريخها القديم إلينا حتى كأننا فيه، وصلتنا به حتى كأنه فينا وحفظها لنا منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنطق الفصحاء من قومه حتى لكأن ألسنتهم، عند التلاوة هي تدور في أفواهنا وسلائقهم هي تقيمنا على أوزانها ـ إذا أنا فعلت ذلك ورضيته، أفتراني أتبع أسلوب الترجمة في الجملة الإنجيلية.. وأسِفُّ إلى هذه الرطانة الأعجمية المعربة، وأرتضخ تلك اللكنة المعوجة، وأعين بنفسي على لغتي وقوميتي، وأكتب كتابة تميت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة، فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سنتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشياء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها؟”.

ـ ولماذا في نظرك ينتقد هؤلاء الفصاحة ويذمون مذهبك، بينما يثنون على الرطانة واللغة المعوجة، ويرتضونها لهم مذهبا؟

ـ رفع حاجبيه مستغربا وهو يعاتبني: “وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه، وهو لو أثنى عليه لطولب به، ولو طولب به لبان عجزه وقصوره، ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟”.

ـ إذا صدقنا كلامك أيها الأديب -وهو صادق لا شك- فما سبب هذا الخطأ والخطل الذي وقعوا فيه من سوء الذوق وانتكاسة الفطرة؟

ـ وضع إحدى رجليه على الأخرى ثم تأوَّه وقال: “على أني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحدا من ثلاثة، مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمة به ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعوج اللسان بها، وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف فإنه ليس كل كاتب يبلغ، ولا كل من ارتهن نفسه بصناعة نبغ فيها وإن هو نسب إليها، وإن عد في طبقة من أهلها. والكتابة صناعة لها أدواتها، وفيها النمط الأعلى والأوسط وما دون ذلك”. 

ـ وهل ظهر لك من آثارهم شيء يستقبح أو يستشنع أو يستبشع حتى تُغير عليهم هذه الغارة!؟

ـ اعتدل في جلسته ثم جحظ بعينيه وقال: “رأيت القوم قد أثمرت شجرتهم ثمرها المر وخلف من بعدهم خلف أضاعوا العربية بعربيتهم وأفسدوا اللغة بلغتهم ودفعوا الأقلام في أسلوب ما أدري أهو عبراني إلى العربية أم عربي إلى العبرانية،لا يعرفون غيره ولا يطيقون سواه وترى أحدهم يهوي باللغة إلى الأرض وإنه عند نفسه لطائر بها في طيارة من طراز زبلن ..!”.

ـ ثم التفتُ إلى الأمير شكيب أرسلان لأسأله، عما إذا كان هؤلاء المستغربون يذمون الفصاحة فقط لكونها فصاحة أم وراء الأكمة ما وراءها ؟؟

ـ لوح بيديه رافضا هذا الافتراض وقال: ” كلا يا أيها الأخ، إن هذه الفئة لا تمج الفصاحة من حيث هي، ولا تدين بالركاكة التي كان يدين بها قسوس أحمد فارس فيسخر بهم ما يسخر ولا تحارب اللغة العربية نفسها ولكنها تحارب منها القرآن.. القرآن..”.

ـ ولكن كيف ذلك أيها الأستاذ، هلا أفصحت لنا عن ذاك إفصاحا؟

ـ اتكأ و أردف قائلا: “إن هذه الفئة تحارب القرآن والحديث وجميع الآثار الإسلامية، وتريد أن تتبدل بها من كلام الجاهلية وكلام فصحاء العرب حتى من المخضرمين والمولدين، وكل كلام لا يكون عليه مسحة دينية، وهذه الفئة قد تعددت غاياتها في هذا المنزع، ولكن قد اتفقت في الوسائل، فمنها من لا يجهل بلاغة القرآن وجزالته، وكونه من العربية بمنزلة القطب من الرحى، ولكنه يدس الدسائس من طرف حفي لإقصائه عن دائرة الأدب العربي وتزهيد النشء فيه، بحجة كونه قديما وأن كل قديم بال..”.

وأظن أن الفائدة لن تتم إلا بإدخال الفارس الدارع البطل، محمود شاكر رحمه الله، وإظهار بعض غاراته المشهودة التي سطرها في كتبه، إلا أني رأيت أن المقالة ستطول، فارتأيت أن أذر ذلك إلى فرصة قادمة إن يسر الله تعالى، لأن هذا الموضوع طويل بما يكفي أن تحويه دفَّـتـا كتاب من الحجم الكبير، ولكن كما يقال: “ما لا يُدرك كله لا يترك جله”..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M