إلجام سورة النفس بتجرع الغضب وكظم الغيظ (ح3)

26 مايو 2015 22:12
إلجام سورة النفس بتجرع الغضب وكظم الغيظ (ح3)

إلجام سورة النفس بتجرع الغضب وكظم الغيظ (ح3)

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الثلاثاء 26 ماي 2015

تحدثنا -في الجزء السابق- عن ضرورة مغالبة النفس تحقيقا لفضيلة كظم الغيظ وتجرع الغضب، وذكرنا أن السبيل إلى ذلك يكمن في معرفة أسباب الغضب التي أجملناها في: المزاح المذموم، والعجب، والمراء والجدال، واعتقاد الغضب شجاعة وقوة، والاتصاف باللسان البذيء، والقول الفاحش.

وبينا -كذلك- أن علاج آفة الغضب تكمن في سلوك عدة طرق، منها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حين الغضب، والاستعانة السكوت، وتغيير الحال من القيام إلى القعود، ومن القعود إلى الاضطجاع، والقيام للوضوء وتبريد الجسم بالماء، واستحضار ذكر الله واستغفارِه عند الغضب، وتذكر عظم الثواب المترتب على الصبر على تجرع الغضب، ثم تذكر الغاضب قبح صورته، وتجهم وجهه، والخروج عن طبعه، مما لو رآه بعينه لما غضب.

وسننهي هذا الموضوع -إن شاء الله- بالحديث عن الآثار الصحية، والاجتماعية، والفقهية للغضب، مما لو عرفناه حق المعرفة، لألزمنا أنفسنا ترك الغضب، والتشنج، والتشاحن، ولأحللنا مكان ذلك التجاوز، والصفح، والتسامح، وغض الطرف، حتى يصير العفو سجية، والحلم طبعا، والإحسان خلقا.

قال تعالى: “وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ“.

قال السعدي -رحمه الله-: “قد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلمُ لهم سجية، وحسنُ الخلق لهم طبيعة، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فِعاله، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح، فترتب على هذا العفو والصفح، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير، كما قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)”.

ويمكن اختصار آثار الغضب على صحة الإنسان في كون الغاضب يخطو نحو الشيخوخة يوماً، مقابل كل دقيقة من الغضب، وهو ما عبرت عنه بعض الدراسات العلمية الحديثية، بكون الغضب وتكراره يقللان من عمر الإنسان.

والأطباء يقولون: إن تكرار حدوث الانفعالات النفسية غير السارّة، يؤدي إلى تعطيل وظائف جهاز الهضم، بما في ذلك التسبب في تلف أنسجة الجسم، وظهور القرحة الهضمية، وقرحة الأمعاء، والتهاب القولون.

وثبت أن هذه الانفعالات المتولدة عن كثرة الغضب، تزيد الضغط النفسي، الذي يتولد عنه التأثير على نفوذية الشعيرات الدموية في المخ، فينتج عنه عدة أمراض، كالصداع، والغثيان، والدوران (الدوخة).

 كما أن توالي الغضب يؤدي إلى الإضرار بشرايين القلب، واحتمال الإصابة بأزمات قلبية قاتلة، وخلل في جهاز المناعة، ولذلك يوصي الأطباء من لديه اضطراب في نظم القلب أن لا يغضب، لأن هرمون “الأَدْرِينَالِين” يمارس تأثيره على القلب، فيسرع القلب في دقاته، وقد يضطرب نظمه، ويختل نظامه، وتحصل الأزمات والاضطرابات.

وينصحون من يشكو من ارتفاع في ضغط الدم أن يتجنب الانفعالات والغضب، لأن الغضب يرفع مستوى بعض الهرمونات في الدم، مما يزيد في ارتفاع ضغط الدم. والارتفاعُ المفاجئ للضغط قد يسبب لصاحبه نزفاً دماغياً صاعقاً، يؤدي إلى إصابة الغضبان بالفالَج، وقد يصاب بالجلطة القلبية أو الموت المفاجئ، وقد يؤثر على أوعية العين الدموية فيسبب العمى المفاجئ، وما الحوادث المؤلمة والأزمات المؤسفة، التي نسمع بها كل يوم إلا نتاج للحظات غضب الفتاكة.

وينصحون المصابين بمرض شرايين القلب أن يتجنبوا الغضب، لأنه يزيد من تقلُّص القلب وحركته، وقد يهيئ ذلك لحدوث أزمة قلبية.

 وينصحون المصابين بالسكَّري أن لا يغضبوا، لأن “الأَدْرِينَالِين” يزيد من سُكّر الدم، فيزيد المرض، وتتضاعف المخاطر.

هذه المادة الناتجة بفعل توالي التوترات، تعمل على صرف كثير من الطاقة المدخرة، مما يؤدي إلى شعور المنفعل أو الغاضب بارتفاع حرارته وسخونة جلده، كما ترتفع شحوم الدم، مما يؤهب لحدوث التصلب الشرياني، ومن ثم إلى حدوث الجلطة القلبية أو الدماغية، كما يؤدي زيادة الهرمون إلى تثبيط حركة الأمعاء وفشلها، ومن ثم إلى حدوث الإمساك الشديد، وهذا سبب إصابة ذوي المزاج العصبي بالإمساك المزمن.

بل الأكثر من ذلك، أثبتت البحوث الطبية الحديثة وجود علاقة وثيقة بين الانفعالات النفسية ومنها الغضب، وبين الإصابة بالسرطان، وأكدت الدراسات أن الأشخاص الذين يعانون من انفعالات نفسية مريرة بصورة مستمرة، يموتون بالسرطان باحتمال نسبي أكبر.

كما أن نوبات الهيجان العصبية، تشجع على الإدمان، بسبب مسارعة المدخنين والمبتلين بالكحول إلى تجرع هذه السموم، اعتقادا منهم أنها تهدئ من روعهم، وتسكن من سورة غضبهم.

وهناك آثار نفسية – أيضا – تتحكم في الغاضب بسبب تكرر التوتر، منها انهيار بدنه، وضعف قوته ونشاطه، بسبب التعب والإرهاق المتولدين عن الغضب، الذي يتسبب في زيادة إفراز مادة أخرى تسمى “الكُورْتِيزُول” المسؤولة عن دفاع الإرهاق النفسي بأشكاله المختلفة، فحين تزيد كميتها، يختل هذا النظام، فيتعرض الجسم إلى ضعف المناعة، وظهور آلام العضلات على المدي البعيد.

ومنها الشعور بالانطوائية والانعزالية، فالغاضب يتقيه الناس، لما يترتب عن غضبه من صراخ، وعصبية، وربما كلام قبيح، من سب وتهديد، فيتفاداه الناس، ويدارونه خوفا من عصبيته، لا تقديرا واحتراما. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِمتفق عليه.

إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِــهِ***لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحيات

وأُظْهِرُ الْبِشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضهُ***كأنما قَدْ حَشا قَلْبـي مَحَبَّاتِ

ومن الآثار الاجتماعية للغضب، أنه سبب في تشنج العلاقات بين الناس، وبالأخص داخل الأسرة، حيث أثبتت الدراسات، أن أزيد من 80% من نسبة الطلاق في بلدنا -مثلا- هي بسبب الخلافات الزوجية، التي يذكيها – غالبا – الغضب، والتوتر، وارتفاع الأصوات، مما يعقبه الندم -في غالب الأحيان ـ. ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: “وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضبصحيح سنن النسائي.

ومن آثاره الشرعية، أن الغضبان قد يدعو على نفسه، أو أهله، أو أولاده، أو ماله، وربما وافق دعاؤه ساعة إجابة فيستجاب له، فيحصد الحسرة والندامة بعد ذلك. وقد يُقْسِم على شيء في حالة غضبه وهو لا يريده، فينعقد يمينه، مما يحتاج معه إلى الكفارة، وقد تكون يمينا غموسا، يخشى على صاحبها من عقاب الله تعالى. وقد روي عن بعض السلف أنه قال: “أقرب ما يكون العبد من غضب الله -عز وجل- إذا غضب“.

ومن آثار الغضب في سياسة الناس والحكم بينهم، أنه ينافي العدل في القضاء، فقد كتب أبو بكرة إلى ابنه -وكان بسجستان- بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لا يقضينَّ حَكَم بين اثنين وهو غضبانمتفق عليه.

لا تمش في الناس إلا رحمة لهم***ولا تعاملــهم إلا بإنصــاف

فهل عرفنا لماذا نصح النبي -صلى الله عليه وسلم- من قال له أوصني بأن يترك الغضب، وأخذ يكرر لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب؟ وهل عرفنا لماذا قال لأبي الدرداء الذي سأله أن يدله على عمل يدخله الجنة، فقال له: “لا تَغْضَبْ ولكَ الجَنَّةُ”؟ صحيح الجامع.

وهل عرفنا لماذا قيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: “ترك الغضب”.

قال عطاء بن أبي رباح: “ما أبكى العلماء بكاءَ آخرِ العمر، من غضبة يغضبها أحدهم فَتُهَدِّمُ عمر خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة”.

فلنُعوِّد أنفسنا رياضة الصبر، وتجرع الغيظ، وهزم الغضب بحضور العقل، وثبات القلب، واتزان النفس. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقهصحيح الجامع.

وها نحن في شهر شعبان، شهر الإكثار من الصيام، شهر قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌصحيح سنن النسائي. ليلةُ النصف فيه ليلة عظيمة، يطلع الله تعالى فيها ليغفر من طابت نفسه تجاه إخوانه، وهزم الشيطان بمصالحة خُصمائه. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍصحح سنن ابن ماجة.

وكنتُ إذا الصَّديقُ أراد غَيْظي***وشرَّقني على ظمأ بريقـــي

غفرتُ ذنوبَه وكَظَمت غَيْظـي***مخافةَ أن أعيش بلا صديــقِ

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M