مصادر الكتابة عند العلامة عبد السلام الخرشي رحمه الله..

22 يوليو 2015 21:56
مصادر الكتابة عند العلامة عبد السلام الخرشي رحمه الله

مصادر الكتابة عند العلامة عبد السلام الخرشي رحمه الله

من خلال كتابه: “طل الغمام من نفحات الخرشي عبد السلام”

هوية بريس – د. محمد ويلالي

الأربعاء 22 يوليوز 2015

زاد الخطيب، وأنيس الأريب، وفسحة الغريب، وأوبة المنيب. تسرية من ادلهمت في وجهه أمواج الخطوب، وتسلية الموطإ بكلكل ظلماء الدروب، وبلسم من عضه الدهر بنابه، وضماد من وقفت الأرزاء ببابه. زينة المُجالس، وواسطة عِقد المَجالس.

تنفهق عليك كنوزه، وتأخذ بتلابيب لبك نفائسه. درر منظومة، وجواهر مرسومة، وعقود لجين موسومة. ينظر إليه ذو الفَهاهة، فيستَحْلِيه على البُداهة. يستجلب الوامق، ويعرك المائق. ظلال دوحة انقادت فيها المتجانسات، وأفياء روضة انمحقت فيها المتلابسات، منبئ عن غزارة فضله، ومفصح عن ضرورة الاستمساك بمثله.

هُو البَحْرُ من أيِّ النواحي أتيته***فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ

ذلكم هو كتاب “طل الغمام من نفحات الخرشي عبد السلام” الذي نشرف بأن يخدمنا هو لا أن نخدمه، وأن نُعلِّق أَعلاقَ النياشين بالنظر فيه، لا أن نُعْتَلَق بالتعليق عليه.

صحبت هذا الكتاب مدة ليست باليسيرة، وانجلت لي -بحمد الله- في فهم مراده كل عسيرة، فألفيتني أتملى ببهاء طلعته، وأكحل عيني بوازن زينته، وأتجمل بوافر درره، وأميس بما اكتسبتُ من غَدَق فرائده، وامتقلت من عِذق جنانه، حتى مقلتُ شهد أفنانه، ولم أتمالك حتى جعلته لطلابي المتدربين مرجعا، ولبحوثهم وعروضهم مفزَعا، يعبون من فوائده لتحلية دروسهم، ويكرعون من نفائسه لتجويد أدائهم.

علم صالح ينتفع به كما أراد مؤلفه، وبِر بالأب كما رام جامعه، وإجلال للأخ كما قصد مُصَدِّرُه، واعتراف بجميل الصداقة كما دلف إليه محققه، وصدقة جارية كما توخى ناشره، وزاد روح، وشفاء صدر، وتأبير عقل كما يأنس قارئه.

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها***عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

بعد تقليب مضامين الكتاب على وجوهها، ورد أعجازها على صدورها، تبين لي أنه يمتح من أصولٍ عليها المعتمد، ومصادرَ إليها المرد، أجملتها في:

القرآن الكريم.

الحديث النبوي الشريف.

كتب السيرة النبوية.

كتب العقيدة، والتفسير، والرقائق والأخلاق، واللغة.

المنتقى من الشعر الهادف والحكم.

وبتصفح سريع للكتاب، تهجم عليك نصوصه الغزيرة من الكتاب والسنة، وهو خط واضح عند عبد السلام، يتبع فيه منهج السلف في الاعتناء بالنصوص التأسيسية للفكرة، المؤصلة للعِبرة قبل العَبرة. كيف لا، والكتاب والسنة هما الأصلان اللذان من تمسك بهما نجا، ومن تنكب طريقهما ضل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتابَ الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض1.

وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: “عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان – أي الثوري -، والله تعالى يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ)” [النور:63]. وأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قوله: “لن نَضِلّ ما تَمَسَّكْنا بِالأثر2.

وهي دعوة لإحياء منهج الرجوع إلى هذين الأصلين، في ظل غوغائية بعض المحدَثين، الذين يرون التمسك بهما ثلمة، والارتماء بين أحضان التحررية نعمة.

ولما اشرأب تنازع الأصلين بغيرهما في عهد السابقين، وجدنا من يقمع هذه الأصوات الشاذة، ويدرأ بالمحجة البيضاء المحاككة والمنابذة. فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه- قَالَ: “قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ). فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً. فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ؟3. وفي لفظ مسلم: فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ: أَلاَ أُرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتُعَارِضُ فِيهِ؟.. فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ، إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ”4.

وكان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة في الصحيحين: “احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى…”5، فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ فوثب هارون، وقال: يحدثك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعارض بكيف؟ فما زال يقول حتى سكت عنه. قال الخطابي -معلقاً على هذه القصة-: “هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكرَ أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد -رحمه الله-“6.

وكذلك كان العلامة عبد السلام الخرشي -رحمه الله- يتعامل مع نصوص الكتاب والسنة، ثم مع ما بعدهما من نصوصٍ غيرهما.

فهو يرى أن الرجوع إلى منهج السلف في اتباع النصوص، والحرص على العمل بها هو المنهج السديد، الذي على الأمة اليوم أن تعتني به وتشجعه.

ففي كتابه “المحاضرات”7، يعلق على قوله تعالى: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ” بالقول: “فمن رغب في حل المشاكل المادية والفكرية والنفسية، فهذه مهمة القرآن”.

فالقرآن -عنده- هدى الله، ولا يتنكب عن هداه إلا خاسر شقي”8.

وفي السنة النبوية، يورد عن الشافعي قوله: “أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لم يحل له أن يدعها لقول أحد”9.

وينقل عن البربهاري قوله: “وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار، فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع”10.

وفي كتابه “طل الغمام”، ينقل عن الأوزاعي -رحمه الله- قوله: “ندور مع السنة حيث دارت”11.

ويورد قول سفيان الثوري: “إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل”12.

كما يورد قول شاذ بن يحيى -رحمه الله-: “ليس طريق أقصد إلى الجنة من طريق من سلك الآثار”13.

ونجده في كتبه لا يذكر قضية من القضايا، أو يعالج أمرا من الأمور، إلا جعل النصوص الشرعية بين عينيه، يَعُبُّ منها ما يقيم به الحجة، ويدفع به الشبهة، حتى إنه ليذكر في الموضوع الواحد عناوين فرعية ذوات العدد، لا يعلق عليها بكلمة من عنده، وإنما يفسح للنصوص تنطق عن نفسها، وتُبَلِّغ المقصود، كما في الصفحات من 148 إلى 154.

وبلغ ولع الشيخ عبد السلام بكلمتي “نص” و”نصوص”، أن جعلهما قلادتين مبثوثتين في ثنايا الكتاب، كقوله في ص: 23: “نصوص من القرآن ينبغي الرجوع إليها في كل الأحوال”، وقوله في (ص:123): “نص صحيح من السيرة النبوية”. وكقوله في (ص:182) في بيان فضائل رمضان: “نصوص”، ثم أتى على جملة منها. وكقوله في (ص:209): “نص يرجع إليه بين حين وآخر”. وكقوله في (ص:140): “نثبت في هذا الموضوع نصين فريدين في بابهما”.

* وبتصفح سريع للكتاب، تتلقفك نصوصه القرآنية التي بلغت 197 نصا، قد يكون النص الواحد عدة آيات، توزعت بين ثنايا الكتاب وسائط لعقد الاستدلال والاستشهاد، وغالبا ما تكون متصدرة للفكرة، موطئة للعِبرة، مثناة بنصوص السنة، ثم بالأقوال بعدهما، كما تراه في الصفحة 55، حين يتحدث عن الابتلاء والثبات على المبدإ، فيستهل الكلام مباشرة بقوله: “قال الله تعالى”، ثم يورد ثلاثة نصوص من القرآن الكريم، ونصين من السنة، ثم أقوالا لوهب بن منبه، والشافعي، وأبي سعيد الخراز، ويختم ببيتين لخبيب بن عدي.

وأحيانا يفسح المجال لنصوص القرآن تفصح عن المطلوب، وتحدد المرغوب، دون تدخل إلا بما يمهد للقصد، كما نجده في الصفحة 53، حين تحدث عن الابتلاء بالخير والشر، فصدر الكلام بقوله: “نصوص من القرآن الكريم ينبغي الرجوع إليها في كل الأحوال”، ثم مهد لها بقوله: “وليجعل هذه النصوص الآتية من كتاب الله العليم نصب عينيه، يقرأها ويعيد قراءتها، لا فرق بين حالة الخير وحالة الضر، فهي الدواء الناجع، والذي لا دواء بعده.. وإليك هذه النصوص”، ثم أورد ستة نصوص من سور مختلفة، لن تجد في كتاب الله أجمع للحديث عن الابتلاء بالنفع والضر منها.

وهكذا تطالعك نصوص القرآن مؤصلة للقضايا المطروحة، مؤسسة للمقاصد المرامة، مبينة للأهداف المرصودة.

ولم ينس عبد السلام أن يودع كتابه حديثا مقتضبا عن الهدف من قراءة القرآن، والمدة التي فيها يقرأ، وطرائق الانتفاع بالقرآن، وفضائل بعض سور القرآن14.

* وتَبهَرك نصوص الكتاب الحديثية بالغةُ الدقة في موضع الاحتجاج والاستئناس، بلغت في مجموعها قرابة 537 حديثا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعشرات الآثار من أمتع وألطف ما أثر عن السلف الصالح، من أقوال نادرة، وأشعار رائقة، وحكم ماتعة فائقة.

ولقد كان هاجس اختيار الحديث النبوي المناسب، مع تحري صحته سندا، وسلامته متنا، حاضرا بقوة، كما هي عادة الشيخ عبد السلام، في محاضراته، ولقاءاته، ودروسه، وكتبه، وكلماته في المناسبات العديدة. وكان كثيرا ما يلمع إلى اعتماده الحديث الصحيح دون غيره، كما في قوله في ص: 19: “ومن السنة النبوية الصحيحة: ما أخرجه الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه ـ”، ثم ساق الحديث. وقوله في (ص:33): “وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال”، ثم ساق الحديث. وقوله في (ص:34): “وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول” ثم ساق الحديث. ومثل هذا في الكتاب كثير.

ولكي تطمئن إلى الحديث، يصدر الكلام بالإلماع إلى الصحة، كأنه يريد أن يقول: “أيها القارئ الكريم، إن كل ما سأسرده عليك من الأحاديث صحيح، لا تحك زنادك فكرك للتثبت من ذلك، فقد كفيتك هم البحث”.

ولقد تأملت في الأحاديث النبوية التي أوردها، وسبق أنها 537 حديثا، فوجدت منها 30 حديثا من صحيح البخاري، و54 من صحيح مسلم، و152 من المتفق عليه 15، و145 حديثا في السنن الأربعة، و43 في مسند الإمام أحمد، و111 حديثا خارج الكتب المذكورة.

ولئن كان الشيخ عبد السلام -في كتابيه السابقين- يتحرى توثيق الأحاديث، ويخرجها من مظانها بحسب ما يقتضيه البحث العلمي الدقيق، إذ الكتاب الأول (فقه الفقراء والمساكين) كان رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه، والثاني (محاضرات في علوم القرآن والحديث) كان موجها لطلبة العلم في الكلية، فإنه لم يسلك هذا المهيع في كتابه (طل الغمام)، لأن أصله واحات أسبوعية، ومذكرات “من إملاء الشيخ عبد السلام الخرشي -رحمه الله-، أملاها على حِبه وصديقه الحاج محمد شاكر -جامع الكتاب وناشره- بحسب ما يقتضيه منهج الإملاء من تناول تعليمي وعظي تربوي. ولعله منهج لم يحوج عبد السلام إلى إثقال هذا الإملاء بتخريج كل الأحاديث وتوثيقها -وإن أشار إلى صحة بعضها أو حسنها، وربما ذكر مصدر تصحيحها أو تحسينها-، لأن القصد الوصولُ إلى الثمرة التربوية المرامة من أقرب طريق، ما دام المملي واثقا من صحة النصوص المملاة.

ولقد أخذني الفضول إلى تتبع هذه الأحاديث في مظانها حديثا حديثا، لأقف على بعض أسرار عبد السلام في النقل والاستدلال، فأخذني العجب من وفائه لمنهجه الذي لم يزل يردده في كل مناسبة علمية: “إنني لن أنقل لك إلا الحديث الصحيح بحمد الله.. وما في الصحيح يغني عن الضعيف”. فجميع أحاديث الكتاب ثابتة لا مغمز فيها.

حتى إذا أورد حديثا أخرجه العقيلي في الضعفاء عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “سَيَلِيكُمْ أمراءُ بَعْدِي، يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ“، وهو حديث ضعيف، قال: “وله شاهد من حديث ابن مسعود، مرفوعا بلفظ: “سَيَلِي أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُطْفِئُونَ السُّنَّةَ، وَيَعْمَلُونَ بِالْبِدْعَةِ، وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا”. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَدْرَكْتُهُمْ كَيْفَ أَفْعَلُ؟ قَالَ: “تَسْأَلُنِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ تَفْعَلُ؟ لاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ“، قال: “أخرجه أحمد، وابن ماجة والسياق له، والطبراني في الكبير”. وهو كذلك، فقد قال فيه الشيخ أحمد شاكر: “إسناده صحيح”، وذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم: 2864، وقال: “إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح”.

ومن جميل استدلاله بالنصوص، أسلوب التشويق المعاصر، في استعمال عبارات لا تخلو من دافعية الاستشعار والانجذاب، كما في (ص:46) حيث قال: “وصفة إسلامية موجزة لدفع اليأس والقنوط”. ولا شك أن هذا الداء قد استشرى في كل المجتمعات البشرية، حتى إن الإحصاءات تتحدث -اليوم- عن أكثر من مليار من الناس يعيشون حالة مرض نفسي، وأن القلق قد استبد بالبشرية، بعد أن انتهزتهم الأمراض الفتاكة: المادية والمعنوية. وهذا ما تنبه إليه عبد السلام حين حدد أنواع هذه المشوشات النفسية المعاصرة في عشرة:

آثام اقترفت.

أمراض استعصت.

آمال خابت.

أزمات حلت.

مشاريع تعثرت أو فشلت.

اعتداءات وقعت.

حقوق هضمت.

أباطيل تفشت.

حقائق عميت.

10ـ مشاكل ادلهمت.

وأنت وإن عددت مشاكل الإنسانية -اليوم- الدافعة إلى اليأس والقنوط، فلا تكاد تجدها تخرج عن هذه العشرة. ثم قال: “ولا ينفع في كل هذا، إلا الإيمان بالله تعالى ربا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا، وبالإسلام العظيم دينا”. قال: “وفي هذا الصدد على المؤمن بالله تعالى أن يجعل بين عينيه البنود الثلاثة الآتية، فهي الوقاية من كل ما ذكر من الأمور العشرة السابقة، تهونها، وتعوضها بما ينفع المؤمن، ويبدل قنوطه فرحا وأملا”.

ولعل السامع يعتقد أن عبد السلام سيغوص في كتب الأدوية، وأقوال الأطباء، لكن هيهات أن يحيل الطب البشري حياة القانطين إلى حياة الأمل الحقيقي، وأن يكون قنطرة الأمان إلى الآخرة.

ليست الوصفة الإسلامية إلا ثلاثة أنواع من النصوص الشرعية، والأقوال الحكمية:

أما الصنف الأول منها فثلاث آيات:

ـ “وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ“.

ـ “قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ“.

ـ “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا“.

وأما الصنف الثاني فحديثان وأثر:

ـ قوله -صلى الله عليه وسلم- “الكبائر: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله16.

ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “كلمات الفرج: لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم”17.

ـ وقول جعفر الصادق -رحمه الله-: “عجبت لمن خاف ولم يقل: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، وعجبت لمن به هم أو غم، ولم يقل: “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”، وعجبت لمن مكر له ولم يقل: “وأفوض أمري إلى الله”.

وأما الصنف الثالث، فهو “أن يردد ما استحضره من شعر جيد في هذا الجانب، وهو كثير عند المسلمين، وأجوده وأقواه، ما أورده ابن كثير في تفسيره18، عند تفسيره لسورة الشرح. قال ابن دريد: وأنشدني أبو حاتم السجستاني:

إذا اشتملتْ على اليأس القلوبُ*** وَضَاقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ

و أوطـنت المكارهُ واطـمأنـت*** وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الخُطُوبُ

و لم ترَ لانكشاف الضرِّ وجهاً*** و لا أغنى بحيلته الأريبُ

أتاكَ – على قنوطٍ منك – غوثُ*** يمنُّ به اللطيفُ المستجيبُ

و كـلُّ الحادثاتِ اذا تـنــاهــتْ***فَمَوْصُولٌ بِهَا الفَرَجُ القَريَبُ

ويأخذك العجب حين يستقر في ذهنك ضعف الحديث، أو الشك في نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يَفجؤُك الشيخ عبد السلام بأنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه ثابت لا غبار عليه، كما هو الحال بالنسبة للحديث المشهور: “أحْبِبْ حبيبَكَ هوْنًا ما، عَسَى أنْ يَكونَ بَغيضَكَ يومًا ما، و أبْغِضْ بغيضَكَ هوْنًا ما، عَسَى أنْ يكونَ حبيبَكَ يومًا مَا”، فالقول مشهور عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأما نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فمنهم من ضعفها، ومنهم من أنكرها، ومنهم من جعلها من الموضوعات -كما ذهب إليه الصغاني-، حتى قال ابن القيسراني في ما نقله عنه الذهبي في “تذكرة الحفاظ”: ” ليس من قول رسول الله، إنما هو من قول علي بن أبي طالب، وروي عن علي بسند فيه متروك، وعن ابن عمر بسند فيه كذاب”. لكن نقل عبد السلام له يفيد بأنه ليس كذلك، فالشيخ الألباني يورده في صحيح الجامع حديثا، ويحكم عليه بالصحة، وكذلك في صحيح سنن الترمذي. وقال في صحيح الأدب المفرد: “حسن لغيره موقوفاً، وقد صح مرفوعاً”.

وعلى العكس من ذلك، قد يشتهر الحديث حتى لا يُشَك في كونه حديثا صحيحا، ثم ترى عبد السلام يذكره بصيغة التمريض، كما في حديث: “إن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى”، حيث صدَّره بقوله: “وقيل”19، ليتبين لك أن الحديث ضعيف، وإن كان معناه صحيحا.

وقد يتطرق الشك إلى صحة بعض الأحاديث، فنرى عبد السلام يستنفر المصادر الحديثية، ليثبت صحة الحديث، وكأنه يرد -من طرف خفي- على من يرى الضعف، كما في حديث: “من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين”. قال الشيخ عبد السلام: “أخرجه الحاكم والبيهقي في السنن عن أبي سعيد الخدري، ورقمه في صحيح الجامع للشيخ الألباني -رحمه الله-: 6470، وهو في صحيح الترغيب والترهيب، وفي المشكاة، وفي الإرواء.

ويدلك على عناية عبد السلام بحسن الاستدلال، وإصابة محز النصوص، حين يطالعك بحكم وتوجيهات نبوية نادرة، قلما تدور على الألسن. وهي كثيرة منها:

ـ “تكفير كل لحاء (خصومة) ركعتان”20.

ـ “يكتب في كل إشارة يشير الرجل بيده في صلاته عشر حسنات، كل إصبع حسنة”21.

ـ “استمتعوا من هذا البيت (الكعبة)، فإنه قد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة”22.

ـ “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلاَ يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ23.

ويختار بين الفينة والأخرى ما يعضد به اختياره من الأحاديث، والأقوال، والتوجيهات، كاختياره لقول الشاعر، الذي تبين لي بعد البحث أنه أبو حيان، كما أورده المقري في نفح الطيب24.

أما إنـه لـولا ثـلاث أحـبـها***تمنيت أني لا أعد من الأحيا

فمنها رجائي أن أفوز بتوبة***تكفر لي ذنبا وتنجح لي سعيا

ومنهن صوني النفس عن كل جاهل***لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا

ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى***نسوا سنة المختار واتبعوا الرؤيا

أتـتـرك نـصا للـرسول وتـقـتـدي***بشخص لقد بدلت بالرشد الغيا25

ولا شك أن الشيخ عبد السلام كان يوقد زناد حافظته، التي كانت تسعفه في أن يستحضر العديد من النصوص في الموضوع الواحد، فيلجأ إلى الاختيار والانتقاء، كما قال -وهو يعالج موضوع الأخوة في الله والصداقة والصديق-: “وبما أن هذا الأمر حاجة نفسية أصيلة، فقد اهتم بها القرآن الكريم، وأولتها السنة الصحيحة العناية الكبيرة، ووردت فيها حكم وتوجيهات نثرية وشعرية، وهي من الكثرة بمكان. وسيرا مع الحكمة القائلة: “ما لا يدرك كله، لا يترك جله”، فإننا سنلجأ إلى الانتقاء والاختيار”26.

* وكان -في هذا الانتقاء- كثير اللجإ إلى كتب السيرة النبوية، التي كان عبد السلام يمسك مفاصلها، ويستحضر دقائقها، من ذلك ما نقله من سيرة ابن هشام في الصفحة:136، عن صفية بنت حيي بن أخطب، تحت عنوان: “عداوة اليهود المتأصلة للنبي -صلى الله عليه وسلم-“.

ومن ذلك ما نقله في الصفحة 238 عن “ملابس النبي -صلى الله عليه وسلم- في السلم والحرب” من كتاب: “زاد المعاد في هدي خير العباد” لابن القيم.

وقد يعجب بقصة من السيرة النبوية، فلا يخفي هذا الإعجاب، مصدرا لها بمثل قوله في (الصفحة:126): “نص جيد من السيرة النبوية”، حين تعلق الأمر بقصة الهجرة إلى الحبشة، وما احتوشته من دروس جليلة، وعبر فريدة، عمد إلى توثيقها تحت عنوان: “بعض الاستنتاجات من النص”، مع ربطها بالواقع، كقوله: “إن أصحاب الحق يجب أن يكونوا متفائلين، وأن يكون أملهم في الله كبيرا، وأن الدنيا لا تخلو من أخيار وأنصار يكرهون الاعتداء والعدوان والظلم، ويحبون العدل والحق والخير، ويضحون في سبيله بما لا يخطر على البال، وأكبر ما يصاب به المسلمون، أن يدب إليهم اليأس، فيتركوا العمل لدينهم”27.

كما يعجب لرحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه، في قصة بديعة أوردها في الصفحة 272 تحت عنوان: “نموذج أعلى من السيرة النبوية”، مما أخرجه الدارمي في سننه بسند صحيح28، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ: زَحَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ وَقَالَ: “بِسْمِ اللَّهِ، أَوْجَعْتَنِي“. قَالَ: فَبِتُّ لِنَفْسِي لاَئِماً أَقُولُ: أَوْجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: أَيْنَ فُلاَنٌ؟ قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي بِالأَمْسِ. فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ، فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً، فَخُذْهَا بِهَا“.

* وقد اعتمد في التفسير كتاب “تفسير القرآن العظيم” لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، الذي نقل عنه أربع مرات29، وكذلك تفسير: “معارج التفكر ودقائق التدبر” للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني، الذي نقل منه مرتين30. كما اعتمد تفسير “معالم التنزيل” للحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي31، وأحيانا يسند الكلام للمفسرين على غير تعيين، كقوله في (الصفحة:96): “وقد أورد المفسرون أقوالا وأفهاما ونصوصا لها صلة بالآية الكريمة، من ذلك..”، ثم يذكر بعضا من هذه النصوص.

* أما في باب العقيدة، فنجد عبد السلام يخصص مبحثا مستقلا لعله أطول مبحث في الكتاب، بالتساوي تقريبا مع مبحث الأخلاق، ينبه فيه على العقيدة الصحيحة للمسلمين، فتحدث عن التوحيد، وأهميته، وأنواعه، وتحدث عن الإيمان، ومسائل الغيب، والرضا بالقضاء والقدر، والابتلاء والثبات على المبدإ، والإخلاص والرياء، والولاء والبراء، والمآل والجنة والنار، وكان في كل ذلك يغرف من العديد من المصادر، يمكن تقسيمها إلى أحد عشر نوعا من الكتب:

كتب العقيدة، ككتاب “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” لللالكائي، وكتاب “الصارم المسلول على شاتم الرسول” لابن تيمية، وكتاب “شفاء العليل” لابن القيم، وكتاب “شرح السنة” للبربهاري، وكتاب “مواقف إيمانية” للشيخ أحمد فريد، وأبواب العقيدة المبثوثة في كتب الحديث من الصحاح، والسنن، والمسانيد، والموطإ وغيرها.

كتب التفسير، كتفسير ابن كثير، و”معالم التنزيل” للبغوي.

كتب السيرة، كسيرة ابن هشام.

كتب الأعلام والتراجم، ك”سير أعلام النبلاء” للذهبي، و”حلية الأولياء” لأبي نعيم، و”طبقات” ابن سعد، و”تاريخ دمشق” لابن عساكر، و”تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي، و”مناقب الإمام أحمد” لابن الجوزي، وكتاب “الحسن البصري” لابن الجوزي.

بعض كتب الأصول، ك”الاعتصام” للشاطبي.

بعض الرسائل، كرسالة ابن رجب الحنبلي، التي يشرح فيها حديث: “ما ذئبان جائعان..”.

بعض كتب الزهد والتصوف، ككتاب “الزهد والرقائق” لابن المبارك، وكتاب “التعرف لمذهب التصوف” لأبي بكر محمد الكلابادي، وكتاب “تنبيه المغتربين” للشعراني، وكتاب “الفوائد” لابن القيم، وكتاب “الآداب الشرعية” لابن مفلح.

كتب الحديث ومصطلحه ورجاله، ككتاب “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” للخطيب البغدادي، وكتاب “أدب الإملاء والاستملاء” للسمعاني، وكتاب “مفتاح الجنة” للسيوطي، وكتاب “المجالسة وجواهر العلم” للقاضي الدينوري، و”مصنف” عبد الرزاق.

كتب الفقه، ككتاب “التمهيد” لابن عبد البر.

10ـ كتب الفتاوى ك”مجموع الفتاوى” لابن تيمية.

11ـ وقد يقتنص بعض الفوائد العقدية من كتب الأدب وتاريخه ونقده، ككتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه، و”جمهرة رسائل العرب” لزكي صفوت، و”شرح نهج البلاغة” لابن أبي الحديد.

وكل ذلك يدلك على تنوع ينابيع معرفة عبد السلام، وحسن اقتناصه لما يبلغ بالقارئ المرام.

* وأما كتب الرقائق والأخلاق، فقد غَلفت مباحث الكتاب من كل جانب، وكنفته بمهيع لاحب، وصايا تنبه الغافل، ونصائح تدر الحافل، توجيهات بحب الخير محكمة، وتنبيهات برأب الصدوع مفعمة. من ذلك كتاب “عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين” لابن القيم، وكتاب “الروح” له، وكتاب “الداء والدواء” له، وكتاب “قضاء الحوائج” لابن أبي الدنيا، وكتاب “مراقي الجنان بالسخاء وقضاء حوائج الإخوان” لابن عبد الهادي المقدسي، وكتاب “مكارم الأخلاق” للخرائطي، وكتاب “مداراة الناس” لابن أبي الدنيا، وكتاب “الزهد” لابن المبارك.

ومن بطون هذه الكتب، انتقى عبد السلام فوائد وحكما، وفرائد ودررا، لعشرات من كبار علماء السلف، ومشاهير العباد والزهاد، من أمثال: الحسن البصري، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، ومحمد بن كعب القرظي، ومالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، وطلق بن حبيب، ويحيى بن معاذ، ومطرف بن عبد الله، وحاتم الأصم، وهرم بن حيان، وإبراهيم التيمي، وشاذ بن يحيى، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم كثير، فضلا عن أقوال الصحابة من أمثال: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وكثير غيرهم.

* ولقد عرف عبد السلام بفصاحته المبهرة، وبلاغته المشتهرة، لشديد اعتنائه بضروب التصاريف، وعظيم ولعه بما أحاط بالنحو واللغة من تآليف، فلا تكاد تراه في ذلك عثِرا، أو تجد له في النَّكْص أثرا. فإذا آنس الحاجة إلى الشرح، لم ينقل من مصادر اللغة بالحرف، وإنما يقرب المعنى بحسب السياق، وهو النهاية في فك رموز اللغة، والوصول من ذلك مبلغ البلغة. مثاله تعليقه على قول أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: “كان (أي: الرسول -صلى الله عليه وسلمـ) إذا أعجبه نحو الرجل، أمره بالصلاة“32. قال: “المراد بالنحو هنا: الاتجاه والقصد، والمراد بالصلاة: النافلة”33.

وقد يختلف اللغويون في توجيه كلمة معينة، فترى عبد السلام ينتقي من ذلك ما يراه مناسبا وموافقا ادلالة النصوص الشرعية. مثال ذلك تعليقه على قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “فمدلج في خير، ومدلج في شر34. قال: “يقال: أَدْلج بالتخفيف، إذا سار من أول الليل، وادَّلج بالتشديد، إذا سار من آخره، والاسم منهما الدُّلجة والدَّلْجَة، بالضم والفتح. ومنهم من يجعل الإدلاج لليل كله، وكأنه المراد في الحديث الصحيح، الذي أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “عليكم بالدُّلجة، فإن الأرض تطوى بالليل35، إذ لم يفرق بين أوله وآخره. ونسبوا لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-36:

اصبر على السير والإدلاج في السحر***وفي الرواح على الحاجات والبُكَــر

ولعبد المؤمن بن علي الكومي من قصيدة37:

فلا تتوانوا فالبدار غنيمة***وللمدلج الساري صفاء المناهل

وارجع إلى الصفحات من 288 إلى 293، لتر كيف يشرح عبد السلام كلمتي المداراة والمداهنة، وكيف يبين الفرق الدقيق بينهما، وحكمهما، وصورهما، حاشدا لذلك من النصوص القرآنية، والحديثية، وأقوال أهل العلم والحكمة من شعر ونثر وملح، ما يَبهرك رسمه، ويمتعك نظمه.

وأحيانا يرجع إلى كتب شروح الحديث، ليبين المقصود، كما تراه في الصفحة 213 في بيان معنى المسبِّحات. وقد يدرك من قضايا البلاغة ما قد يحوج القارئ إلى السؤال، فيعفيه بالتوضيح كما في الصفحة 246.

وقد ينبه على قاعدة نحوية جوابا عن سؤال محتمل، كإتيانه ببيت نحوي في مواطن وجوب كسر همزة إن38، عند قوله: “إذ إن إطعام المسكين فيه فضل عظيم..”39.

وكل هذا مشعر بالحمولة اللغوية التي كان عبد السلام يصطحبها، والمكنة في الأداء التي هي الثمرة الحقيقية للعلم بالنحو والصرف.

* أما مضمار الشعر، فقد كان عبد السلام فيه لا يجارى، ولا في رصيده منه يمارى. 486 بيتا مقسمة على قصائد ومقطوعات ونتف، أثثت جنبات الكتاب، فزينت عقده بالموشَّى من الحكم، وهزت أعطافه بالمرصع من الدرر، ونثرت على بابته من الجواهر، ونشرت شذى عَرفه بنفيس الذخائر. من ذلك ما قد تسمعه لأول مرة، كقول الناظم في بيان حقيقة الصالح40:

الصالحُ الخالص من كل فساد***فلا يحوم حولــه ولا يكــاد

وقائـم بحـــــق ربٍّ وبـحــق***عباده فصالحــا قد استحــق

ودأب على أن ينقل من طريف الشعر وتليده، ما تقرأه فتحفظه، وترفع عقيرتك بترداده حين تستحضره، فتشمخ به في المجالس، وتُعَد به من أرباب النفائس. فمن رائع شعر الإمام الشافعي، إلى حكمة يحيى بن الحكم الغزال الأندلسي، وبليغ شعر ابن المعتز، وماتع شعر البهاء زهير، وشائق شعر القاضي عياض، ونفيس شعر الشريف الراضي، ونادر شعر علي بن أبي طالب، وفريد شعر أحمد شوقي، ودرر العباس بن مرداس، وجميل شعر ابن الرومي، وفائق شعر حفني ناصف، ورائق شعر المتنبي، وعيون المقنع الكندي، وجيد شعر منصور بن الهروي، وغيرهم كثير.

* وكما كان عبد السلام مولعا بالحكم الشعرية، فكذلك كان عظيم الاستحضار للحكم النثرية، التي لا تكاد تفتح الكتاب على صفحة، إلا وطالعتك بنفائسها، وثمين نصائحها ووصاياها. وكثيرا ما يورد عبد السلام هذه الحكم تحت عنوان: “جاء في الحكمة”41، وقوله: “ومن حكم الشافعي”42، بل عقد مباحث خاصة تحت عنوان: “في الوصايا الخالدات”43. وحينما يذكر جملة من وصايا لقمان الحكيم، يعلق عليها بقوله: “فانظر -يا رعاك الله- إلى هذه الحكم النفيسة، والوصايا الخالدة، فكم هي جديرة بالتأمل والتطبيق، لشدة ارتباطها بحياة المؤمن اليومية والعملية، وموافقتها للكتاب والسنة”44.

هذا كتاب طل الغمام، وهذه مصادره وموارده، والله الموفق للصواب، عليه توكلت وإليه المآب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- صحيح الجامع، رقم:2937.

2- اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي: ج:2، ص:86.

3- صحيح البخاري، رقم:5766، وصحيح مسلم، رقم:66.

4- صحيح البخاري، رقم:5766، وصحيح مسلم، رقم:165.

5- صحيح البخاري، رقم:3228، وصحيح مسلم، رقم:6912.

6- رسالة الغنية عن الكلام وأهله للخطابي: ج:1، ص:71.

7- محاضرات في علوم القرآن والحديث، ص:59.

8- نفسه.

9- نفسه، ص:137.

10- نفسه.

11- طل الغمام، ص:107.

12- نفسه.

13- نفسه.

14- نفسه: الصفحات من 208 إلى 214.

15- بمعنى وجود الحديث في الصحيحين، لا بالمعنى الاصطلاحي للمتفق عليه.

16- الصحيحة برقم:2051.

17- صحيح الجامع برقم:4571.

18- ج:8، ص:432.

19- ص:76.

20- ص:157. والحديث في صحيح الجامع برقم:2986.

21- ص:159. والحديث في السلسلة الصحيحة برقم:3286.

22- ص:189. والحديث في صحيح الجامع برقم:955.

23- ص:211. والحديث في صحيح سنن الترمذي برقم:2882.

24- ج: 3، ص:656.

25- طل الغمام، ص:105.

26- نفسه: ص:297.

27- ص:127.

28- ج:1، ص:86.

29- في الصفحات: 22، 25، 26 و96.

30- في ص:25 و26.

31- ص:26.

32- السلسلة الصحيحة برقم:2953.

33- ص:157.

34- صحيح الترغيب برقم:359.

35- صحيح سنن أبي داود برقم:2317.

36- اليت في تاج العروس للزبيدي، ج:1، ص:1406.

37- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ج:1، ص:64.

38- وهو: وبعد: حتى، وألا، حيث، أما *** إذ، ثم، كلا، كَســـــرُ “إن” حُتِمـــــا.

39- ص:370.

40- ص:91.

41- ص:101.

42- ص:102.

43- ص:311.

43- ص:319.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M