تاريخية النص (التاريخ والمفهوم)

23 يوليو 2015 14:42
تاريخية النص (التاريخ والمفهوم)

تاريخية النص (التاريخ والمفهوم)

ذ. طارق حمودي

هوية بريس – الخميس 23 يوليوز 2015

تاريخ تاريخية النص

 (علم النص)[1]، مجال علمي غربي حديث، تطور بشكل كبير مع تطور البحث اللغوي الذي أصر على أن (النص لم يعد أداة للمعرفة فحسب، بل أصبح هو نفسه ميدانا معرفيا مستقلا، أي مجالا لإنتاج معرفة تجعلنا نعيد النظر[2] فيما كنا نعرفه عن النص والمعرفة في آن واحد، من هنا يستأثر الآن باهتمام الباحثين)[3].

يقول فان دايك: (إن مفهوم علم النص ليس بالغ القدم،غير أنه قد ترسخ منذ عشر سنوات تقريبا، ففي المجال اللغوي الفرنسي سمي (علم النص–Science du texte) وفي الإنجليزية سمي (تحليل الخطاب – Discours Analisis) ومع ذلك فقد عرفنا منذ زمن أبعد كثيرا، وبخاصة في الدراسات اللغوية، مصطلحي (تحليل النص) و(تفسير النص)، حيث كانت العناية مع ذلك في الغالب موجهة إلى الوصف المادي للنصوص الأدبية بوجه خاص)[4].

سيكون هذا العلم المحضن الأول لتاريخية النص، خصوصا وأن ملامح النقد المادي بادية منه، وسينحو خلال القرن الثالث والرابع والخامس عشر الميلادي إلى الانعتاق من سلطة الدلالة اللغوية إلى فضاء الرمزية كما تقول جوليا كريستيفا[5]، وسيكون أمارة على مرحلة انتقال معرفي في الثقافة الأوروبية. وهذا ما سيؤهل هذا العلم أو بعضه بعد مدة ليتحول إلى كيان معرفي مستقل نوعا ما عن محضنه الأم، وربما عن عقوق ومقابلة… وهو التاريخية.

بدأت ملامح التاريخية النسبية تظهر مع جيامباتيستا فيكو[6]، وهو كما يقول هاشم صالح[7]: (أول مفكر في الغرب يبلور مفهوم التاريخية، أي نص على أن البشر هم الذين يصنعون التاريخ، وليس القوى الغيبية كما يتوهمون… ولكن حتى تاريخية فيكو كانت لها محدوديتها، فهو يقول مثلا بأن الدين المسيحي هو وحده الموحى به إلاهيا، أما ما عداه فهو صنع البشر، ولكن ربما كانت له أعذاره، فقد عاش في مجتمع كانت تهيمن عليه العقيدة المسيحية بشكل مطلق)[8].

ثم جوهان غوتفريد فون هيردير[9]، الذي (اشتهر بكتابه عن النسبية التاريخية، وكانت تمثل فكرة جديدة في ذلك الزمان، فكل شعب يتخيل أن دينه أو تراثه شيء كوني أو مطلق لأنه يعيش داخله كالعصفور داخل القفص، ولأنه لم ير غيره، ولكن في الواقع لا يوجد تراث مطلق مهما كبر حجمه واتساعه وانتشاره، وإنما عدة تراثات نسبية للبشرية، هذا ما عبر عنه في كتابه (أفكار حول فلسفة التاريخ البشرية) 1791، وكان هيردير تلميذا لكانط وأستاذا لغوته)[10].

ثم ويليلم ديلثي[11]، وقد (كان أحد المفكرين الأوائل الذين ساهموا في بلورة العلوم الإنسانية التي كانت تدعى آنذاك العلوم الأخلاقية، وقد انتقد الموقف الميتافيزيقي وأراد أن يحل الموقف العلمي محله، وهذا دليل على تعلقه بالتاريخية الواقعية المحسوسة، ولكم لولا تأثير العلوم الطبيعية أو الفيزيائية لما استطاع أن يتخذ مثل هذا الموقف المتقدم في زمانه)[12].

أما المصطلح فكان أول استعمال له في اللغة اللاتينية سنة 1872 حسب قاموس لاروس، وهو عصر الثورة بامتياز، ولعل هذا ما يقصد بينديتو كروس[13] حين أرجع الظهور الحقيقي والكامل لفكر التاريخية إلى القرن التاسع عشر، إلى زمن الثورة الفرنسية. وأن الدور الفكري للمصطلح هو الفصل بين ما هو أسطوري وما هو علمي، فكان المصطلح بهذا يقوم بدور وضعي[14] في النظر إلى الثقافة والقيم الحضارية والإنتاج الإنساني. فما معنى التاريخية؟

مفهوم التاريخية

(التاريخية) كلمة وضعها المفكرون الحداثيون العرب في مقابل المصطلح الأصل في اللغة اللاتينية (Historicisme)*، وهذا الانتقال الترجمي يحتاج إلى وقفة اصطلاحية[15]، وأما من حيث أصله اللغوي فـ(التاريخية) مصدر صناعي[16]، يدل على خصائص التاريخ، أي التطور والتغير والحركة، وأما اصطلاحا فقد عرفها دايموند أرون بقوله: (المذهب الذي يدعو إلى المعرفة التاريخية للقيم والفلسفات ونسبيتها)[17]، وهذا موافق لما عرفه به القاموس الفلسفي الكبير للاروس ففيه: (نظرية قائمة على النسبية الثقافية بوضع المعرفة في سياقها التاريخي مقدمة على مفهوم التاريخ نفسه)[18]. فاتفق التعريفان على مركب النسبية المعرفية للقيم  في المصطلح، وانكشف بهذا التعريف بعده الإبستمولوجي.

وقد اتفقت هذه التعاريف على ذكر كلمة (التاريخ) لكن بطرق مختلفة: (نتاج التاريخ) (سياقها التاريخي). بل يقول بينديتو: (إن القيم والأفكار التي جعلناها مثالا ومقياسا للتاريخ  ليست أفكار وقيما كونية، إنما هي أحداث خاصة وتاريخية، رفعت خطأ إلى مرتبة الكونية)[19]. فجعل النسبية مناقضة لمعنى الكونية والمقياسية، ووصفها بالحدث التاريخي الخاص، وهو مطابق لمعنى النتاج والسياق التاريخي.

وعرفها المعجم الفلسفي بـأنها: (القول بأن لوقائع التجربة الحية زمانا خاصا، وأنها تتسم بشيء من المرونة والطلاقة، وقد قال بها الوجوديون معارضين به نظرية (حتمية التاريخ) الماركسية)[20].

فاستعمل المعجم كلمتي الإطلاق والمرونة عوض النسبية، ونسبها إلى (الوجودية)[21]، ونبه على معارضتها لنظرية الجدلية التاريخية الماركسية. وهاتان إضافتان دقيقتان، ولهما دلالاتهما الفلسفية المعتبرة. ولا يخفى أن النسبية ركن مؤسس للفلسفة الوجودية، وقد أحسن أصحاب المعجم في الإشارة إلى (الوجوديين). فإن مثل هذه الإضافة كاشفة عن الأساس الفلسفي للتاريخية.

وعرفها الدكتور محمد عمارة بقوله: (مذهب يقرر أن القوانين الاجتماعية تتصف بالنسبية التاريخية، وأن القانون من نتاج العقل البشري، وتعمم ذلك في الشرائع الإلهية أيضا)[22].

وعرفها (Alain Touraine) مبديا الجانب الهدمي فيها بقوله: (هو فكر قائم على هدم النظام المعرفي القديم، والبحث عن نظام جديد)[23].

والذي بدا لي والله أعلم من خلال محاولة تشكيل تعريف أوضح وأشمل، يأخذ بعين الاعتبار كل الاختيارات الاصطلاحية في التعاريف الماضية، أن التاريخية (مذهب وجودي هدمي يؤمن بنسبية المعارف والقوانين والأحداث والأفكار والقيم بكونها نتاجا خاصا لسياق وضعية تاريخية معينة).

فـ(التاريخية حسب هذه التعريفات ذات دلالة أنثروبولوجية وضعية، تقضي بضرورة الارتباط بالمجال الثقافي والاجتماعي في بعده الوضعي المادي)[24]، فليست هناك حقيقة مطلقة ثابتة، إنما لكل زمان ومكان وحال حقائقه وقيمه، وتسميتها (حقائق) نسبية، تجوز دال على سيلانها المضموني وعدم استقرارها على معنى معين.

تنبيه:

استعملت كلمة (Hisoricisme) للدلالة على وجود قوانين وسنن اجتماعية وثقافية ثابتة تحكم حركة الأمم الحضارية، -وهي نظرية متفرعة عن الجدلية الهيغيلية- وأنها لا يمكن أن تتخلف، بل إنه من الممكن التنبؤ بمصير أمة من الأمم بتطبيق هذه القوانين المحركة للتاريخ. وبوجود معنيين لمصطلح واحد يحصل الخلط أحيانا، ومن ذلك أن كارل بوبر انتقد هذا النوع الثاني المميز بالثبات والاستمرارية بالانتصار للمعنى الأول القائم على التغير والنسبية.

من أجل هذا يذهب بعض المفكرين إلى النوع الهيغيلي بإضافة نون قبل الياء، فتصبح الكلمة (التاريخانية)[25] ويقابلها بالفرنسية (Historisme)، ومع ذلك يستعملها أركون بمعنى (التاريخية)!

فما حقيقة التاريخية عند أركون؟



[1] ويقصد به باعتبار هدفه نقد النص في مفهومه وسلطته ، يقول علي حرب في (نقد النص/ص8): (نقد النص يستغرق مفهوم النص، كما يستغرق سلطة النص، لأن النقد هو منهجية استكشاف للمفهوم، وهو من جهة أخرى تفكيك لسلطة النص).

[2] مقصوده بإعادة النظر القطيعة الإبستيمولوجية تأصيلا، وإعادة القراءة التفسيرية تفريعا، وهو الأمر الذي من أجله أحدثت نظرية تاريخية النص كما يقول بيير غيسيل في: (Vérité et Histoire ;la Theologie dans la Modernité/p63).

[3] علي حرب (المرجع السابق /ص7).

[4] (علم النص/ص14).

[5] (علم النص/ص23).

[6] (Giambattista vico)، مؤرخ وفيلسوف إيطالي، ولد بنابل سنة 1668م،كان يرى أن كل أمة تمر بثلاث مراحل، مرحلة المقدس، مرحلة الأبطال، ثم المرحلة الإنسانية، توفي فيكو سنة 1744م.

[7] آثرت أن أنقل ما كتبه هاشم صالح ، ولم أتجاوز الأسماء الثلاثة التي سيذكرها، فهو تلميذ أركون، ويعرف جيدا سياق مشروع أستاذه، ولذلك وقع الاختيار عليهم.

[8] (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني/ص:47)-هامش.

[9] (Johann Gottfried Von Herder)، كاتب وفيلسوف ألماني وولد سنة 1744 م أي عند وفاة فيكو، اشتهر بدراساته للأدب الألماني من خلال الأغاني الشعبية. توفي سنة 1803م.

[10]  مصدر سابق (ص:48).

[11]  (Wilhelm Dilthey)، فيلسوف ألماني، ولد سنة 1833م،كان أول من جعل للعلوم الإنسانية محلا مستقلا عن باقي العلوم. توفي سنة 1911م.

[12] مصدر سابق (ص48).

[13] (l histoire comme pensée et comme action) (ص76).

[14] الوضعية  -(Positivisme) – مذهب أوجست كونت الذي يرى أن الفكر الإنساني لا يدرك سوى الظواهر الواقعية والمحسوسة وما بينها من علاقات أو قوانين، والعلوم التجريبية هي المثل الأعلى لليقين، وعلى ذلك لا محل للبحث عن طبائع الأشياء ولا عن عللها الغائية) (المعجم الفلسفي/ص214)

[15] تطرح هنا إشكالية نقل المصطلحات الغربية المحملة بالمضامين الفكرية الغربية إلى اللغة العربية، خصوصا وأن الناقل هنا  ليس بالضرورة متخصصا في اللغة العربية والتراث الإسلامي، ولذلك تشعر بوجود قلق في هذا المصطلح، ونوع من التكلف في الانتقال، ثم تكلف في دمجه في المصطلح الفكري العربي، وهذا الإشكال يدفع إلى إعادة النظر في المصطلح، تأصيلا ونحتا، وينظر في هذا كتاب (إشكالية المصطلح، الاضطراب في النقل المعاصر للمفهومات) لعلي النملة.

[16] المصدر الصناعي مصدر يصاغ من الأسماء بطريقة قياسية، للدلالة على الاتصاف بالخصائص الموجودة في هذه الأسماء،وهو يصاغ بزيادة ياء مشددة على الاسم تليها ياء، ولينظر لهذا (التطبيق الصرفي/ص73) للراجحي، و(جامع الدروس العربية/ص177) للغلاييني.

[17] (La Philosophie Critique de l Histoire /p289).

[18] (ص497/سنة 2003).

[19] (l histoire comme pensée et comme action)(ص73).

* (باللغة الفرنسية)

[20] (ص36)

[21]  الوجودية – (Existentialisme) – مذهب يقوم على إبراز الوجود وخصائصه، وجعله سابقا للماهية، فهو ينظر إلى الإنسان على أنه وجود لا ماهية، ويؤمن بالحرية المطلقة التي تمكن الفرد من أن يمنع نفسه بنفسه، ويملأ وجوده على النحو الذي يلائمه، وصَرَف  بهذا النظر عن البحث في الوجود الميتافيزيقي. (المعجم الفلسفي/ص211).

[22] (النص الإسلامي بين التاريخية والاجتهاد والجمود/ص4/هامش).

[23] (Critique de la modernité) (ص90).

[24] مرزوق العمري – التاريخية: المفهوم والتوظيفات الحداثية (ص56/إسلامية المعرفة العدد:63).

[25] (التاريخانية) بهذا المعنى هي الحتمية التاريخية الماركسية التي أشار إليها المعجم الفلسفي، وقد تبنها طائفة من الحداثيين المغاربة أمثال عبد الله العروي، وتعني عنده – كما في (مفهوم التاريخ/ص349) -أن (التاريخ هو العامل المؤثر في أحوال البشر، بمعنى أنه وحده سبب وغاية الحوادث)، وينظر في مناقشته (الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر /ص82) لعبد الله الشارف.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M