الدكتور مصطفى بن حمزة يكتب عن الدعوة إلى تجريم «تعدد الزوجات»
هوية بريس – د. مصطفى بن حمزة
الإثنين 22 شتنبر 2014
حينما دعا الداعي إلى تجريم تعديد الزوجات، وإلى تسوية المرأة بالرجل في الإرث في جميع الأحوال، كان ذلك حدثا استثنائيا وسابقة غير معهودة في التعامل مع أحكام الشريعة الإسلامية، ولذلك كان متوقعا أن تثير الدعوة نقاشات واسعة لأنها استهدفت أحكاما هي في نظر الناس واعتبارهم أكبر من رأي شخصي، ومن قضية رأي عام، لأنها تمثل في العقل والوجدان لديهم دين أمة ومنهجها الذي ضبطت عليه تصرفاتها وأنشأت على مقتضاه أسرها؛
ووزعت على ضوئه مواريثها وأموالها، وقد كان بالإمكان بل ومن المفيد أن تكون الدعوة نفسها مجلى للأفكار وبؤرة تتعاورها نقاشات علمية هادئة ورصينة من أجل تحليل مضمون الدعوة ودراستها، لولا أن النقاش حاد عن مساره ونحا منحى آخر وانعطف انعطافة سيئة، محكوما وموجها بما احتف به ولابسه من تشنج ومسارعة إلى الاصطفاف وإلى التمركز، وإلى التطوع أحيانا ببذل المناصرة والتأييد لاعتبارات لا صلة لها بالمعرفة، وبذلك غاضت الدعوة نفسها في حمأة ما لفها وأحاط بها من صخب لم يكن ليتيح فرصة للإصغاء الجيد ولإمعان النظر ولإعمال الفكر.
فلذلك كان ضروريا أن يتأجل هذا النقاش والإدلاء بأي موقف إلى أن تهدأ النفوس ويرسو النقع وتنجلي الرؤية، ويتجه النقاش نحو طلب الحقيقة العلمية التي لا تستقى إلا من مصادرها المتخصصة، متوسلة بمنهجية البحث والنظر في علوم الشريعة أساسا، ولكن وقبل أن يتم هذا، كانت الدعوة قد صارت موضوع خطابات ساخنة، وسجالات غير قائمة على أصول علمية، ثم سرعان ما صارت مشروعا تعجل البعض بتبنيه من قبل أن يتم إنضاجه بالبحث العلمي وبالنقاش العميق، وبإشراك الكفاءات العلمية فيه، بل إن البعض قد أعلن أن هذه الدعوة ستكون موضوع مطالبات قادمة بتغيير مدونة الأسرة يجري الإعداد لها.
فكان هذا كله في نظري باعثا على عرض مثل هذه المساهمة التي لا أقصد بها إلى الدخول في مماحكات لا أرى لها جدوى، وإنما هي دعوة إلى التفكير المتحرر من كل التأثيرات أستدعي بها الكفاءات العلمية الوطنية الجادة إلى حوار عميق وشامل، لأن قضايا المجتمع لا بد أن يكون الاشتغال عليها ورشا مشتركا، يحتكم فيه إلى المعرفة أصالة، وسيظل مضمون هذا المقال معروضا للنقاش وللإضافة والتعقيب لمن يستطيع أن يعود به إلى أصوله في مصادر المعرفة الإسلامية حتى يكون الحوار علميا وبعيدا عن الإسقاطات الذاتية وعن إطلاق الأحكام الفضفاضة التي لا تنفذ إلى عمق الموضوع.
وأعتقد أنه قد كان بالإمكان تجاوز الدعوة إلى تجريم التعديد على ما له من حساسية لو قرئت نصوص مدونة الأسرة قراءة جيدة، ليعرف أن المادة 40 تنص على أن من حق المرأة أن تشترط على من يتقدم للزواج بها ألا يتزوج عليها، ويكون الشرط ملزما للزوج، بل إن طلب التعديد لا ينظر فيه إلا في حالة عدم وجود شرط الامتناع عن التعديد كما تنص عليه المادة 42، وبهذا تكون المرأة هي المرجع في الإبقاء على التعديد أو إلغائه، من غير أن تكون هناك حاجة إلى إدخال المجتمع في مضايق تثير المشاعر وتعمق الخلاف.
ويؤكد عدم أهمية المطالبة بتجريم التعديد، وعدم تقديمها أي خدمة لصالح المرأة أن حالات التعديد حسب الإحصاءات الرسمية لا تتجاوز 900 حالة وهو عدد لا يرقى إلى أن يمثل ظاهرة من الناحية العلمية، وهو عدد قليل تفوقه بكثير أعداد الناس يعشن حالات أخرى من الظلم والتهميش، يجب الاهتمام بها، وأولاها: حالة الأمية التي تمنع المرأة من المشاركة في التنمية، وتحول دون توصلها إلى اكتساب حقوقها الاجتماعية والسياسية.
وقبل التوغل في صلب الموضوع أحب أن أشير إلى أن مضمون هذا المقال لا يأتي دعما لموقف من اختار أن يعدد فعلا، وإنما هو مقال يتناول مبدأ التعديد في صلته وارتباطه بنصوص القرآن والسنة، وهو ما يعنيني بحثه، أما تصرفات الأفراد فقد يشوبها خلل كبير إذ قد لا يعدد الشخص إلا تعديد ضرار ومغاضبة لزوجة له معها خصومة، وقد يعدد البعض وليس له أدنى إلمام بأحكام التعديد وما للزوجات من حقوق، وقد يعدد البعض لكونه مفتونا بجمال أو مأخوذا بشخص امرأة لا غير، وهذه أحوال قلما يفكر فيها الزوج في الإنصاف والعدل، لذا وجب حمل هذا المقال على محمله الذي أريده له وهو أن يكون إبرازا لمكمن الحكمة من تشريع التعديد وصونا لكتاب الله من أن ينتهك بذرائع ليس لها من القوة والوثوقية والتوازن والقدرة على تحقيق العدل ما للآيات القرآنية التي تنتمي إلى كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وبعد هذا فإني أخلص إلى مناقشة القضيتين المعروضتين وهما:
قضية الدعوة إلى تجريم تعديد الزوجات.
قضية الدعوة إلى تسوية المرأة بالرجل في الإرث.
القضية الأولى: قضية الدعوة إلى تجريم تعديد الزوجات
سيلاحظ القارئ بدءا أني لا أعبر بكلمة تعدد الزوجات، رغم أنها هي الكلمة الرائجة والمتداولة، وإنما أعبر عن قصد بكلمة تعديد الزوجات، لأني أرى أن هنالك فرقا دلاليا كبيرا بين الصيغتين، فكلمة تعدد على صيغة تَفَعُّل توحي غالبا بصدور الفعل صدورا ذاتيا، أو صدوره بمشقة وجهد، مثلما يقال في تمزُّق وتشقُّق وتولُّد وتجدُّد، أما كلمة تعديد فإن صيغتها تشير إلى أنها ليست فعلا ذاتيا، وإنما فعله الغير، ويتضح هذا الفرق بالمقارنة بين كلمات التكسر والتكسير، والتمزق والتمزيق، والترشح والترشيح والتجدد والتجديد. [شرح شافية ابن الحاجب للأستراباذي النحوي (ج1/ص:104)].
وعلى هذا فإن كلمة تعدد بهذه الصيغة التي يستعملها الناس توحي بأنه فعل أحادي ذاتي يصدر عن المرأة ذاتيا فينسب إليها حين يقال تعدد النساء، والحال أنه فعل يقدم عليه الرجل، وقد لا يكون للمرأة يد فيه أصلا، إذا أخفى الزوج عنها أن له زوجة أخرى.
لقد عرفت المجتمعات الإسلامية تعديد الزوجات بحكم كونه سلوكا تناولته نصوص الكتاب والسنة ومضى عليه عمل المسلمين، كما تحدثت عنه وضبطته نصوص عديدة تحدثت عن موضوعات القسمة والتسوية بين الأزواج وعن الإقراع بينهن في حال السفر والمرض، كما تحدثت عن موضوع اشتراك النساء المتعددات في حظ المرأة الواحدة من الإرث. كما تحدثت عن عدم جواز الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.
لكن تناول نصوص الشريعة لقضية التعديد لم يقف عند حدود الإباحة فقط، وإنما تجاوزها إلى ضبط شروط جوازه والإذن به. لأن الزواج ولو بامرأة واحدة محكوم بأحكام الشرع الخمسة، فقد يكون واجبا أو مندوبا كما يمكن أن يكون مكروها أو حراما أو مباحا، بحسب أحوال المقبلين عليه وقدرتهم على الوفاء بمتطلباته.
يروي الموفق المكي وهو كاتب سيرة أبي حنيفة أن خلافا نشب بين أبي جعفر المنصور الخلفية العباسي وزوجته “الحرة” فطالبته بالعدل الذي فرضه الله لها وتراضيا على الاحتكام إلى أبي حنفية، فلما حضر قال له المنصور كم يحل للرجل أن يجمع بين النساء؟ فقال أربع، فقال المنصور لزوجته اسمعي، قالت لقد سمعت، لكن أبا حنيفة استدرك قائلا يا أمير المومنين إنما أحل الله هذا لأهل العدل، فمن لم يعدل أو خاف ألا يعدل، فينبغي ألا يتجاوز واحدة، لأن الله تعالى قال: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، فينبغي أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه. ثم لما خرج أبو حنيفة بعثت إليه زوج الخليفة هدايا ثمينة فرفضها وقال لرسولها، قل لها: إنما ناضلت عن ديني، وقمت ذلك المقام لله، ولم أرد به تقربا لأحد ولا تمنيت به دنيا. [مناقب الإمام الأعظم للموفق بن أحمد المكي (ص:211/212) ط دار المعارف الهند عام 1321هـ].
وموقف أبي حنيفة هذا هو موقف كل العلماء، إذ لم يقل واحد منهم بإطلاق الإباحة بتعديد الزوجات، لكن أي أحد منهم لم يجرؤ أيضا على أن يمنع شيئا أباحه الله حينما تقوم دواعيه وتتوفر شروطه.
وقد تعاملت الأمة الإسلامية مع التعديد بما يفيد أنها كانت تقف به عند حدود الإباحة لا غير، فوجدت نخب علمية ودينية اقتصر الرجال فيها على الزوجة الواحدة. ففي مصر تتبع المستشار محمد الدجوي الحالة المدنية لمشايخ الأزهر ابتداء من الشيخ عبد الله الشرقاوي سنة 1798 إلى الشيخ حسن مامون، وعددهم بضعة عشر شيخا، فانتهى إلى أن من تزوج منهم امرأة ثانية هو الشيخ الشرقاوي وحده، وأن الباقين لم تكن لكل واحد منهم إلا زوجة واحدة. [مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة محمد بلتاجي (ص:235)].
وتوجد في المغرب مناطق عديدة كان الطلاق وتعديد الزوجات فيها شبه منعدم، على نحو ما يثبته محمد المختار السوسي الذي ذكر أنه لا يعرف في جميع الإلغيين إلا ثلاثة أسر عدد الرجال فيها الزوجات بدافع خاص. [“المعسول” محمد المختار السوسي (1/59)؛ و”ألواح جزولة” امحمد العثماني (ص:67)]. وما ذكر عن سوس يصح قوله عن جهات أخرى خصوصا في الجنوب المغربي.
وانطلاقا من هذا، يتبين أن الحديث عن تعديد الزوجات ليس دعوة إلى فوضى الاستكثار من الزوجات دون تحمل مسؤولياته. كما أنه حديث لا يلغي الحكمة من إباحة شيء ثابت بنصوص القرآن والسنة حين تتوفر دواعيه وبواعثه.
لكنه ليس من الحكمة في شيء أن يستغل المتهالكون على الجنس حكم الإباحة، فيتزوجوا ويعددوا ثم يطلقوا ثم يتزوجوا، وهؤلاء هم من يصدق عليهم وصف الذواقين المشار إليهم في حديث في إسناده مقال، وهؤلاء هم الذين يعطون الصورة السيئة عن التعديد، لأنهم يخلفون أبناء يهملونهم، ولا يؤدون لهم حق التربية الجيدة، والرعاية الواجبة والمتابعة الضرورية لتمدرسهم ولسلوكهم، والأصل في الإنجاب أن يكون النسل الناشئ عنه على المستوى الذي يتيح أن يباهي بهم النبي صلى الله عليه وسلم بناء على قوله: فإني أباهي بهم يوم القيامة. [أحمد بن حنبل ج:10 ط. دار المعارف مصر رقم الحديث 6598]؛ والمباهاة لا تكون إلا بالجودة وبالنفاسة، فلا يباهي مثلا من له خيل عادية تستعمل في جر العربات، وإنما يباهي صاحب الخيل الجياد الأصيلة التي تكسب السباقات، وتتفوق على غيرها.
تجريم التعديد سابقة خطيرة
منذ أن برزت ظاهرة مناهضة تعديد الزوجات في ظرفها التاريخي، وبناء على أسباب سأتحدث عنها لاحقا، ظل الحديث منتهيا وواقفا عند رفض التعديد، لكنه ولأول مرة في المغرب على الأقل يقع التصعيد العلني إلى أقصى مداه فتتم المناداة بتجريم التعديد، فكان هذا حدثا جديدا وغريبا اقتضى تحليلا عميقا.
إن تجريم أي فعل يعني نسبته إلى الجريمة، وإذا تعلق الأمر بتجريم التعديد الذي له سند من القرآن ومن نصوص السنة لا يمكن إنكارها، فإن معنى ذلك ومآله هو أن يكون النص القرآني نصا مؤسسا لفعل إجرامي ومرسخا له في حياة الأمة، كما أن نصوص الحديث هي أيضا لها هذه الصفة ومثلها أحكام الفقه الإسلامي، ويترتب عن ذلك منطقيا أن الأمة التي عددت عبر تاريخها الطويل قد مارست الإجرام بهذا الفعل، وأن من تناسل عن هذه الزيجات هم أيضا متناسلون عن علاقة إجرامية، وعلى هذا فإن التعديد المجَرم قد يكون في مستوى الزنا أو أي سلوك جنسي آخر يجرمه القانون، على أن هذه الدعوة إلى التجريم تأتي في وقت أصبحت السلوكات المجرمة فعلا تجد من يدافع عنها ويطالب برفع الحظر عنها.
إنني لست أدري إن كان من أطلق القول بتجريم التعديد يدرك كل هذه الأبعاد ويمنحه جميع هذه الامتدادات، أم أنه لا يعي هذه النتائج، وإذا أحسنا الظن وأخذنا بما يقرره المنهج الإسلامي في البحث والمناظرة من أن لازم القول ليس قولا، فإني مع ذلك أقول إنها زلة كبيرة قد تكتسب كل هذه الأبعاد مع الإصرار عليها من قال بها.
إن ما يجب لفت النظر إليه، هو أن التجريم في لغة القانون له معادل في لغة الشرع هو لفظ التحريم. والتحريم، أمر يختص به الخالق سبحانه، والتورط فيه افتيات على الله، يقول الله تعالى: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون“. [النحل:116].
والتزاما بهذا الأصل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما…” [صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم].
إن المقرر علميا هو أن الجريمة في لغة الشرع تطلق على الفعل الذي بلغ درجة عليا من الحرمة، وهو الفعل الذي حدد له الإسلام عقوبة دنيوية أو أخروية. [الجريمة والعقوبة محمد أبو زهرة (1/25)].
ولا يصلح أن يقال إن المقصود بالتجريم في هذا المقام هنا هو معناه القانوني دون معناه الديني، لأن سياق الحديث وموضوعه هو أحكام الأسرة التي لا يتعامل معها الإنسان المسلم إلا على أنها صياغة قانونية لأحكام شرعية، ولهذا فهو يسأل الفقهاء وأهل الفتوى عن نوازل الطلاق والعدة والحضانة والإرث، ولا يسأل عنها المحامين وخبراء القانون، لأنه يأخذ هذه القضايا مأخذا دينيا، ومن ثم فإن التجريم لا يحمل إلا على معناه الديني.
ويؤكد صحة هذا الملحظ أن أحكام الزواج والطلاق والإيلاء تدرس في المصادر الفقهية ضمن قسم العبادات ولا تدرس ضمن أبواب العقود، رغم أن الزواج ينبني على عقد له كل أركان العقد، ومعنى هذا أن جانب التعبد حاضر فيها وبقوة.
إن الأثر الطبيعي والعملي المتوقع من تجريم التعديد أن يعاقب من يعدد من الرجال ومن تقبل به من النساء بعقوبة قد تكون هي السجن مثلا، مثلما ينص عليه قانون بعض الدول العربية، وفي مقابل هذا الوضع قد تحمل المرأة حملا غير شرعي وتنجبه من علاقة آثمة، فيتلقفها المجتمع بكل حنو ورفق ويوفر لها مكان الإيواء، لأنها امرأة في وضعية صعبة، إن هذا حين يتم سيكون قلبا للموازين، وسيكون شيئا أغرب من الغرابة.
إننا إذ نعالج موضوع تعديد الزوجات لا يمكن أن ننكر وجود بون شاسع بين صحة المبدأ والخطأ في التطبيق، لكنه لا يصح أبدا أن يكون خطأ التطبيق سبيلا وذريعة إلى تجريم المبدأ المشروع بنص القرآن وصحيح السنة، لأن ما كان خللا في التطبيق فإنه يتطلب إصلاح الخلل لا إلغاء المبدإ من أصله، مثلما لا يصح مثلا أن تكون الأخطار الناتجة عن التصنيع وما يخلفه من انبعاثات غازية سامة مبررا للمطالبة بمنع التصنيع بالمرة، وإنما تجب الدعوة إلى ضبط عمليات التصنيع، وإلى إزالة آثارها السلبية إلى أدنى حد ممكن، ولا يصح أن تتخذ حوادث السير المميتة مثلا سببا للدعوة إلى منع استعمال السيارات أصلا، وإنما يجب العمل على ضبط حركة السير والجولان لا غير، وقد نبه ابن رشد إلى خطأ من منع دراسة الفلسفة لأن البعض انحرف بها، وشبه من يدعو إلى ذلك بمن يدعو إلى منع شرب الماء، لأن شخصا شربه فشرِق به فمات، ومثل هذا يقال عن اقتراح تجريم التعديد لأن البعض أساء استعماله.
وعلى هذا وجب التمييز بين موقفين متحدين في الظاهر، لكنهما مختلفان في العمق والقصد وهما: موقف الدعوة إلى التقويم والتصحيح وضبط التعديد، وهذا بالضبط ما فعله العلماء، وموقف آخر مبدئي لا يقبل بالتعديد بحال من الأحوال، ومهما تكن الدواعي والظروف والأسباب، وإنما يسعى إلى إلغائه بكل ما أوتي من وسائل الضغط والتأثير التي قد لا تكون بالضرورة وسائل معرفية، وهذا موقف راديكالي لا توسط ولا توازن فيه، وهو غريب عن ثقافة الأمة، وهو ينتهي إلى احتقار تدينها وفهمها للحالات التي يصح فيها التعديد، وهو موقف لا يرى حكمة التشريع، وهو موصول أيضا من حيث يدري أو لا يدري دعاته بمنابعه وأصوله الثقافية التي لا بد من معرفتها من أجل استبانة كل عناصر هذا التصور.
أ. موقف ضبط التعديد
إن هذا الموقف نابع عن طبيعة الإسلام الذي يسعى إلى ضبط جميع تصرفات البشر حتى ولو كانت مباحة من حيث الأصل، حتى لا يؤدي الانحراف في تطبيقها إلى تجاوزات وإلى الوقوع في المحظور.
ولقد ضبط الإسلام الزواج ولو بامرأة بواحدة، وأطره بأحكام كثيرة من شأنها أن تحول دون حياده عن تحقيق القصد من تشريعه، فكان بدهيا أن يضبط تعديد الزوجات الذي تشترك فيه أطراف متعددة أكثر مما هي في الزواج الثنائي من باب الأولى.
وضوابط التعديد مجموعة كبيرة من الأحكام تتشكل من مقتضيات نصوص قرآنية وحديثية، ومن سنة عملية، ومن عدد غير قليل من أحكام الفقه الإسلامي الضابطة.
فبالنسبة للقرآن الكريم، فإنه قد اشترط التأكد من إمكان العدل بين الزوجات قبل الإقدام على التعديد، فقال الله تعالى: “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” [النساء:3]، وتقدير الإنسان لإمكان العدل أو عدمه يعود إليه دينيا، لأنه هو الأعرف بما له من ظروف مادية أو صحية أو نفسية، تجعله قادرا على الوفاء بمتطلبات الزواج بأكثر من واحدة، وإسناد الحسم في ذلك إلى القضاء يعين على التأكد من إمكان تحقيق العدل بعيدا عن التأثر بالرغبات الجامحة التي قد تلغي الواقع الموضوعي، أما قول الله تعالى: “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم” [النساء:128]، فهو نص آخر يفيد إفادة إضافية هي أن العدل الكامل لا يمكن أن يتحكم فيه على المستوى العاطفي والشعوري، ما دام الإنسان لا يستطيع أن يتحكم في عواطفه، لكن المطلوب يظل مع ذلك هو تحقيق العدل الظاهري، والتسوية بين النساء في جميع التصرفات، وقد حاول بعض من لا يتنبه إلى خطأ التناقض في الكلام أن يستنتج أن القرآن لا يبيح التعديد أصلا، لأنه اشترط له العدل، ثم نص على أنه غير ممكن التحقيق، وقد فات هؤلاء أن هنالك نصين آخرين يحفان بالآيتين السابقتين، ويكملان دلالتهما ويكونان معها تمام السياق العام الذي يتعين أخذه بكليته دون اجتزاء وهما: قوله تعالى: “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع” [النساء:3]، وقوله بعد ذلك: “فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة” [النساء:128]، وبأدنى تأمل يتبين أن القرآن لا يمكن أن يبيح التعديد بقوله: “فانكحوا ما طاب لكم” ثم يمنعه في الآية نفسها، وإذا منع التعديد بإطلاق كما قيل، فإن قول الله تعالى: “فلا تميلوا كل الميل” يصبح لغوا وكلاما زائدا، لأن الإنسان لا يميل إلا إذا كان واقعا بين اختيارين أو اختيارات متعددة، بأن كانت له زوجتان أو أكثر، وحقيقة ما تنص عليه الآية أمر إنساني آخر، هو أعمق مما ذهب إليه من يريدون منع التعديد بهذه الآية، ومفاده أن الإنسان بطبيعته البشرية قد يميل عاطفيا مثلما يميل الأب إلى أحد أبنائه أو إحدى بناته، أو تميل الأم إلى أحد أبنائها أو إحدى بناتها، ومثلما يميل الشخص إلى أحد أصدقائه أكثر من غيره، ومثلما يفضل الشاعر إحدى قصائده، ويوثر الفنان إحدى لوحاته، لكن المنهي عنه في حالة التعديد، هو أن يصير هذا الميل الشعوري إلى امرأة واحدة سببا وذريعة إلى إهمال غيرها، أو حرمانها حقها، وبهذه العناصر تتكامل الصورة.
ويؤكد حكم إباحة التعديد عمليا أن المسلمين ابتداء من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة فمن بعدهم من علماء الأمة لم يفهموا من آية التعديد أنها تمنعه، وهم الأصل في فهم اللغة، لأن صاحب السليقة في أي لغة لا يخطئ فيها ولا يتقدم عليه غيره في فهمها. ولذلك عدد المسلمون ولم يكن فعلهم خارجا عن نطاق الشريعة، ولا كان نسلهم وهم السواد الأعظم من الأمة متولدا عن علاقة محرمة.
وفي نطاق ضبط التعديد أيضا فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يعدد من الحيف أو الميل الفعلي إلى امرأة دون أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) [أبو داود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء].وميل شقه في الآخرة هو عقوبة مناسبة لميله في الدنيا، وليس منطقيا أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المعدد بالعدل وهو يحرمه عليه.
ومن تعاليمه صلى الله عليه وسلم الدقيقة والهادفة إلى احترام شعور المرأة وإحساسها أنه نهى عن الوَجْس، وهو أن يتصل الرجل بزوجته أو يحادثها ولو بكلام خافت، وتكون الزوجة الثانية قريبة بحيث تسمع ما يدور بينهما، فيكون ذلك إثارة عاطفية لها. [“النهاية في غريب الحديث والأثر” لابن الأثير (5/176)].
وقد ضرب صلى الله عليه وسلم المثل بعدله بين أزواجه، فقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه… [البخاري كتاب الهبة باب هبة المرأة لغير زوجها…]، وحين مرض عليه السلام ظل ينقل بين زوجاته، فلما ثقل استأذن في أن يمرض في حجرة عائشة.
أما عن اهتمام الفقه الإسلامي بضبط سلوك التعديد، فإن ذلك باب واسع قد يعطي فكرة عنه أن أبا حنيفة لما حدث أبا جعفر المنصور عن جواز التعديد قال له: إنما أحل الله الزواج بعدد من النساء لأهل العدل، فمن لم يكن قادرا عليه فإنه يكتفي بواحدة، وفي جميع كتب الفقه تفاريع عن وجوب التسوية بين النساء في الإيواء والسكن والنفقة وفي السفر، بل وفي التلطف والملاينة وفي الابتسامة أيضا. وهذا ما لا يفعله كثير من المعددين الذين لا يعلمون من التعديد إلا إباحته ويهدرون باقي أحكامه الضابطة.