الهجرة النبوية: قيم خالدة ونماذج رائدة
د. عبد العزيز الإدريسي
هوية بريس – الإثنين 03 نونبر 2014
جزى الله رب الناس خير جزائه***رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحـــــا***فأفلح من أمسى رفيق محمد1
سنحاول مقاربة هذا الموضوع وفق المحاور الآتية:
تمهيد: فكرة الزمن ونعمة الوقت:
1- متى كانت الهجرة ومتى اعتمد التأريخ بها؟
2- أسباب الهجرة النبوية وأهم محطاتها.
3- قيم خالدة ونماذج رائدة.
4- نحن والهجرة؟
تمهيد: فكرة الزمن ونعمة الوقت:
مما لاشك فيه أن حسن تدبير عنصر الزمن في حياتنا الفردية والجماعية هو السبيل إلى النهوض الحضاري والتحرر الاستراتيجي من كل أنواع الفساد وأشكال الاستبداد الخارجي والداخلي، ولهذا دعا مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة” ضرورة تعليم المسلم “علم الزمن”. وليس هذا التعليم تعليما مجردا بل هو تعليم عملي مرتبط بالإنتاج وبالتاريخ2.
بل يؤكد بـ”أن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء، كما يهرب الماء من سياقية خربة، ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الاسلامي تماما هذا الأمر ولكن بأي وسيلة تربوية؟3 وفي نقد لاذع لواقع أمته وتنبيه قوي للمعرب والمسلمين إلى ضرورة استفادة الأمة من الثانية بله الدقيقة يقول: “وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر، ولكن.. . عندما يدق الناقوس مناديا الرجال، والنساء، والأطفال إلى مجالات العمل، في البلاد المتحضرة.. . أين يذهب الشعب الإسلامي؟! تلكم هي المسألة المؤلمة.. . فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئا يسمى (الوقت)!
ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، لأننا لا ندرك معناه، ولا تجزئته الفنية، لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة، وثانية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة “الزمن” الذي يتصل اتصالا وثيقا بالتاريخ، مع أن فلكيا عربيا مسلما هو “أبو الحسن المراكشي” يعتبر أول من أدرك هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العلم المادي في عصرنا. وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، هو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا، هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، وفي تكوين المعاني والأشياء4.
بل إن الشيخ عبد الفتاح أبو غدة اعتبر نعمة الوقت من أجل أصول النعم: “ومن أصول النعم أيضاً، بل من أجل أصولها وأغلاها: نعمة “الزمن.. . فالزمن هو عُمرُ الحياة وميدان وجود الإنسان، وساحة ظِلِّهِ وبقائِهِ ونفعه وانتفاعه. وقد أشار القرآن الكريم إلى عظم هذا الأصل في أصول النعم، وأَلمعَ إلى علو مقداره على غيره، فجاءت آيات كثيرة ترشد إلى قيمة الزمن، ورفيع قدره وكبير أثره5.
ومن أهم الطرق البيداغوجية لاستثمار الوقت والاستفادة منه، هو قراءة تراث الأمة ومعرفة أهم محطاتها التاريخية التي تتشكل من خلالها الهوية، وتترسخ في أحداثها المرجعية، وتبنى من خلالها الشخصية التي ترتبط بالأصل وتتصل بالعصر.
المحور الأول: متى كانت الهجرة النبوية؟ ومتى اعتمد التأريخ بها؟
أولاً: الهجرة النبوية كانت في ربيع الأول ولم تكن في المحرم:
هناك اختلاف بين أهل السير والمغازي في تحديد يوم الهجرة بالضبط، سواء تعلق الأمر بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة أو دخول ووصوله إلى المدينة المنورة، فقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين حين اشتد الضحى لاثني عشرة خلت من ربيع الأول.
قال ابن هشام: حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل. وهذا ما أكده الشيخ رشيد رضا بتدقيقه فقال: “ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عله وسلم غير أبي بكر وعلي وآل أبي بكر وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة يوم الخميس أول يوم ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الاول وذلك يوم الاثنين لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 يونيو 622م6.
ثانيا: بداية التأريخ بحدث الهجرة:
إن الصحابة -رضوان الله عليهم- قد فهموا محورية وقيمة الهجرة النبوية فجعلوها مبدأً للتأريخ، فلم يؤرخوا بأحداث عظام في السيرة النبوية رغم كونها حاسمة في مسار الدعوة، من قبيل مولده ولا ببعثته -صلى الله عليه وسلم-، وغزوة بدر التي سجلت أول انتصار للمسلمين على الشرك والمشركين، وفتح مكة الذي طهر الله به البيت الحرام من عبادة الأوثان، ورفع به راية التوحيد على جزيرة العرب.
ومن بين الروايات التي تؤكد بأن زمن التأريخ يرجع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي قد رُفع إليه صك مكتوب لرجل على آخر بدَيْن يحل عليه في شعبان، فقال: أي شعبان؟! أمن هذه السنة، أم التي بعدها، أم التي قبلها؟!
فجمع الناس -وكان ذلك عام ست عشرة -فاستشارهم من أين يبدأ التأريخ، فيقال: إن بعضهم أراد أن يؤرخ كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك، ومنهم من قال: نؤرخ من تاريخ الروم من زمان الإسكندر، فكرهوا ذلك أيضًا، وقال آخرون: نبدأ من مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: نؤرخ من بعثته صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: يبدأ من وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وأشار علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وآخرون أن يبدأ التأريخ من هجرته -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة؛ لظهور حادث الهجرة للكافة، فإنه أظهر من المولد ومن المبعث، فاستحسن عمر والصحابة رضي الله عنهم، وقال: نعم، نؤرخ لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله فرّق بها بين الحق والباطل.
المحور الثاني: أسباب الهجرة النبوية وأهم مراحلها.
أولا: أسباب الهجرة النبوية:
إن للهجرة أسبابا كثيرة نقتصر على أهمها:
1- عداء أهل مكة للدعوة والتنكيل بأتباعها:
نهج النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم منهج السلم وسلك مسلك الحكمة في دعوة قومه إلى دين التوحيد، فكانت الموعظة الحسَنَة شعارا له في كل مراحل دعوته متمثلا قول الله عز ووجل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125).
غير أن قريشًا أبت إلاَّ أنْ تُحارِب الله ورسولَه، وتضطهد أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، مما اضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى البحث عن مكان آخَر يكون أكثر قابلية لنصرة دعوته، فقدر الله تعالى أن يكون هذا المكان هو يَثرِب أو المدينة المنوَّرة.
ولتتضح صورة التنكيل والاضطهاد والتقتيل نورد بعض الأمثلة:
المثال الأول: آل ياسر: فهذه الأسرة المجاهدة المكافحة قد سامَها الكُفَّار سُوءَ العَذاب وألوانه من الضَّرب والإهانة وشدَّة التَّعذِيب والتقتيل، حتى إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرَّ عليهم مرَّةً وهم يُعذَّبون فقال لهم صلَّى الله عليه وسلَّم: (صَبرًا آل ياسِر؛ فإنَّ مَوعِدَكم الجنَّة). بل كانت سميَّة أمُّ عمَّار رضِي الله عنهما أوَّل شهيدةٍ في سبيل الله في الإسلام.
المثال الثاني: بلال رضي الله عنه: الذي أُوذِي إيذاءً شديدًا عندما كانوا يكبُّوه رضِي الله عنه على الرَّمضاء في نَهار صيف مكَّة ويضَعُون الحجر على ظَهرِه حتى يَرجِع عن دينه، فلا يزيد إلاَّ أن يقول: أحَدٌ أحَدٌ، حتى مَرَّ به أبو بكرٍ الصِّدِّيق يومًا وهم يصنَعُون به ذلك، وكانت دار أبي بكرٍ في بني جُمَح، فقال لأميَّة: ألاَ تتَّقِي الله في هذا المِسكِين؟ حتى متى؟ قال: أنت أفسَدته فأنقِذه ممَّا تَرَى، قال أبو بكرٍ: أفعَلُ، عندي غلامٌ أسوَدُ أجلَدُ منه وأقوى على دِينِك، أعطيكه به، قال: قد قبلتُ، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكرٍ غُلامَه ذلك، وأخَذ بلالاً فأعتَقَه.
المثال الثالث: حصار بني هاشم: كذلك كان من تنكيلهم للمؤمنين في ما وثقته الصَّحيفة الظالمة والشِّعب؛ قال ابن سيِّد الناس7: “ثم إنَّ كفَّار قريش أجمَعُوا أمرَهم واتَّفَقَ رأيُهم على قتْل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقالوا: قد أفسَدَ أبناءَنا ونساءَنا، فقالوا لقومه: خُذُوا مِنَّا ديَةً مُضاعَفة ويقتُلُه رجلٌ من غير قُرَيش وتُرِيحوننا وتُرِيحون أنفُسَكم، فأبى قومُه بنو هاشم من ذلك، فظاهرَهُم بنو المطَّلب بن عبد مَناف، فأجمَعَ المشركون من قريش على مُنابَذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشِّعب، فلمَّا دخَلُوا إلى الشِّعب أمَر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَن كان بمكَّة من المؤمنين أنْ يَخرُجوا إلى أرض الحبشة، وكان متجرًا لقريش، فكان يُثنِي على النجاشي بأنَّه لا يُظلَم عنده أحدٌ، فانطَلَق إليها عامَّة مَن آمَن بالله ورسوله، ودخَل بنو هاشم وبنو المطَّلِب شِعبَهم، مؤمنهم وكافرهم؛ فالمؤمن دينًا والكافر حميَّة، فلمَّا عرفَتْ قريش أنَّ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد منَعَه قومُه أجمَعُوا على ألاَّ يُبايِعوهم، ولا يَدخُلوا إليهم شيئًا من الرِّفق، وقطَعُوا عنهم الأسواق، ولم يَترُكوا طَعامًا ولا إدامًا ولا بَيْعًا إلاَّ بادَرُوا إليه واشتروه دُونَهم، ولا يُناكِحوهم ولا يقبَلُوا منهم صُلحًا أبَدًا، ولا تأخُذُهم بهم رأفةٌ حتى يُسلِموا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم للقَتْل، وكتَبُوا بذلك صحيفةً وعلَّقُوها في الكعبة، وتمادَوْا على العمل بما فيها من ذلك ثَلاث سِنين، فاشتدَّ البَلاءُ على بني هاشم في شِعبِهم وعلى كلِّ مَن معهم، فلمَّا كان رأس ثلاث سِنين تَلاوَم قومٌ من قُصيٍّ ممَّن ولدَتْهم بنو هاشم ومن سواهم، فأجمَعُوا أمرَهم على نقْض ما تعاهَدُوا عليه من الغدر والبَراءة، وبعَث الله على صَحِيفتهم الأرَضَة فأكَلتْ ولحسَتْ ما في الصَّحيفة من مِيثاق وعَهد”.
2- قبول أهل المدينة المنوَّرة للإسلام والاستعداد لنصرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:
في مَوسِم الحج لقي النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند العقَبَة في ستَّة نَفَرٍ من الأنْصار، كلهم من الخَزرَج، فدَعاهُم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الإسلام، وكانوا من جِيران اليهود، فكانوا يَسمَعُونهم يَذكُرون أنَّ الله تعالى يَبعَثُ نبيًّا قد أظلَّ زمانُه، فقال بعضُهم لبعضٍ: هذا والله الذي تُهدِّدكم به يهود، فلا يَسبِقونا إليه، فآمَنُوا به وبايَعُوه، وقالوا: إنَّا قد تَرَكنا قومَنا بيننا وبينهم حروب، فننصَرِف ونَدعُوهم إلى ما دعَوْتَنا إليه؛ فعسى الله أنْ يجمَعَهُم بك، فإن اجتَمعَتْ كلمتُهم عليك واتَّبعوك، فلا أحد أعز منك، وانصَرَفُوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام، حتى فشَا فيهم، ولم تبقَ دارٌ من دُورِ الأنصار إلاَّ وفيها ذِكْرٌ من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-. حتى إذا كان العام المُقبِل قدم مكَّة من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً، منهم خمسةٌ من الستَّة السابِقين، وكلهم من الأوس والخزرج جميعًا، فبايَع هؤلاء رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عند العقَبَة بَيْعَةَ النِّساء8.
فلما هم القوم بالانصراف بعَث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم معهم مُصعَب بن عُمَير يُعلِّم مَن أسلَمَ منهم القُرآنَ وأحكام الإسلام، ويَدعُو مَن لم يُسلِم إلى الإسلام، فنَزَل مُصعَب بن عُمَير على أسعد بن زُرارَة. وكلن يصلي بهم.
ورجع مصعب بن عمير إلى مكة في العام القابل، وخرج عدد من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعَدُوا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم العقَبةَ من أواسط أيَّام التَّشرِيق فلما فرغوا من الحج ومضى ثلث الليل، اجتمعوا في الشعب عند العقبة، وهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من النساء، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه. فبايَعُوا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عِندَها على أنْ يمنَعُوه ممَّا يمنَعُون منه أنفُسَهم ونِساءَهم وأبناءَهم، وأنْ يَرحَلَ إليهم هو وأصحابُه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا منكم وانتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم”9، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
3 – التركيز على إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم:
ويكفي في هذا الصدد أن نورد ثلاثة مظاهر لهذا العدوان والإيذاء:
أ- المظهر الأول: ما رواه البخاري من حديث عُروَة بن الزُّبير، قال: “سألتُ ابنَ عمرو بنِ العاص: أخبِرنِي بأشد شيءٍ صنَعَه المشركون بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: بينا النبيُّصلَّى الله عليه وسلَّم يُصلِّي في حِجرِ الكَعبة، إذ أقبلَ عُقبَةُ بن أبي مُعَيط، فوَضَع ثوبَه في عُنُقِه، فخَنقَه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكرٍ حتى أخَذ بمنكبه، ودفَعَه عن النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ..﴾ (غافر: 28 الآية)”10.
ب- المظهر الثاني: وفي حادثة أخرى رواها البخاري ومسلم وغيرهما أيضًا من حديث عمرو بن ميمون: “أنَّ عبدالله بن مسعود حدَّثَه أنَّ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يُصلِّي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جُلُوسٌ، إذ قال بعضهم لبعض: أيُّكم يَجِيء بسَلَى جَزُورِ بني فلان، فيضعه على ظهْر محمدٍ إذا سجَد؟ فانبَعَث أشقى القومِ فجاءَ به، فنظَر حتى سجَد النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فوضَعَه على ظَهرِه بين كتفَيْه، وأنا أنظُر لا أُغنِي شيئًا، لو كان لي مَنعَة! قال: فجعَلُوا يَضحَكُون ويُحِيل بعضهم على بعض، ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ساجدٌ لا يَرفَعُ رأسَه، حتى جاءَتْه فاطمة، فطرحَتْ عن ظهره، فرفَع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأسَه ثم قال: ((اللهمَّ عليكَ بقريش)) ثلاثَ مرَّات، فشقَّ عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرَوْن أنَّ الدَّعوة في ذلك البلد مُستَجابة، ثم سَمَّى: ((اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعُتبَةَ بن رَبِيعة، وشَيْبَةَ بن رَبِيعةَ، والوَلِيد بن عُتبَة، وأميَّة بن خلف، وعُقبَة بن أبي مُعَيط)) وعَدَّ السابع فلم يُحفَظ، قال: فوالذي نفسي بيَدِه، لقد رأيتُ الذين عَدَّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم صَرعَى، في القَلِيب قَلِيب بدرٍ”11.
ج- المظهر الثالث: والحدث الثالث كان عشية الهجرية النبوية حيث اتفق كفار مكة على قَتلِه صلَّى الله عليه وسلَّم في فِراشِه وهو ما حَكاه أهل السِّيَر؛ حيث اجتَمَع رجالٌ من قريش ذاتَ يومٍ وتشاكَوْا وتشاوَرُوا في أمر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وانتَهَى بهم الأمرُ إلى قتْله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاقتَرَح عليهم أشقى القوم أبو جَهل بن هِشام أنْ يَأخُذوا من كلِّ قبيلةٍ شابًّا فتيًّا جليدًا نسيبًا، ثم يعطوا كلَّ شابٍّ منهم سيفًا فيَضرِبوه صلَّى الله عليه وسلَّم ضَربةَ رجلٍ واحدٍ، فيتفرَّق دمُه صلَّى الله عليه وسلَّم بين القبائل فلا يقدر بنو عبد مَناف على حَربِهم جميعًا، فنَجَّاه الله منهم بمنِّه وكرَمِه12.
وختاما لهذه المعاناة وهذه المكابدة في مدافعة أذى المشركين والبحث عن بديل لهذا الواقع المرير، نرجع بالذاكرة النبوية ألى بدايات البعثة حيث أخبره ورقة بن نوفل بهذه الإخراج بعد الإضهاد والتنكيل ففي صحيح البخاري أن زوجه خديجة رضِي الله عنها اصطَحبَتْه إلى ابن عمِّها، عندها قال له ورقة: “هذا النامُوسُ الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتَنِي فيها جَذَعًا، ليتَنِي أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومُك، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أوَمُخرِجِيَّ هم؟!))، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثْل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإنْ يُدرِكْني يومُك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لم ينشَبْ ورقةُ أنْ تُوفِّي”13.
ثانيا: مراحل الهجرة النبوية:
من أورع وأدق وأجمل من صور مراحل الهجرة النبوية هو العالم الجليل صفي الرحمن المباركفوري في كتابه القيم: “الرحيق المختوم” ولذلك نورد هذه المراحل كما دونها بنوع من التصرف اللطيف14.
1- الصحبة الصحبة:
ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل بوحي ربه تبارك وتعالى، يخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج وحدد له وقت الهجرة قائلاً: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك. فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله. قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. (صحيح البخاري).
وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ينتظر مجيء الليل.
2- محاصرة وتطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم:
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها أهل مكة في دار الندوة صباحاً، واختير لذلك أحد عشر رئيساً من هؤلاء الأكابر، وهم: أبو جهل بن هشام – الحكم بن أبي العاص – عقبة بن أبي معيط – النضر بن الحارث – أمية بن خلف – زمعة بن الأسود – طعيمة بن عدي – أبو لهب – أبي بن خلف – نبيه بن الحجاج – أخوه منبه بن الحجاج (زاد المعاد)، قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام، فيثبون عليه (ابن هشام) وكانوا على ثقة من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء وقال مخاطباً لأصحابه المطوفين في سخرية واستهزاء: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نارا تحرقون فيها
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر ولكن الله غالب على أمره بيده ملكوت السماوات والأرض يفعل ما يشاء وهو يجير ولا يجار عليه، فقد فعل ما خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
3- الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته:
ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم فقد فشلوا. ففي هذه الساعة الحرجة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره، على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه وهو يتلو: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ومضى إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن. وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا محمداً. قال: خبتم وخسرتم قد والله مر بكم، وذر على رؤوسكم التراب، وانطلق لحاجته قالوا والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم. ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا علياً فقالوا والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام علي عن الفراش فسقط في أيديهم وسألوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: لا علم لي به.
4- من الدار إلى الغار:
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة الموافق 13/12 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه -وأمن الناس عليه في صحبته وماله- أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشاً ستجد في الطلب وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالاً فقد سلك الطريق الذي يضاده تماماً وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى ذا أحجار كثيرة فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: بل كان يمشي في الطريق على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.
5- إذ هما في الغار:
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها به وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك مخافة أن
ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده. وكمنا في الغار ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث (صحيح البخاري).
وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفي عليه. أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا علياً وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة علهم يظفرون بخبرهما. ولما لم يحصلوا من علي على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها. وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات) تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين كائنا ًمن كان. وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب وانتشروا في الجبال والوديان والوهاد والهضاب لكن من دون جدوى وبغير عائدة. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما وفي لفظ: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما (صحيح البخاري ). وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
6- في الطريق إلى المدينة:
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة.
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي، وكان هاديا ًخريتاً -ماهراً بالطريق- وكان على دين كفار قريش وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما فلما كانت ليلة الاثنين -غرة ربيع الأول سنة 16/1هــ سبتمبر سنة 622م- جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت يا رسول الله خذ إحدى راحلتي هاتين. وقرب إليه أفضلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن.
وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر فسميت ذات النطاقين (صحيح البخاري). ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فهيرة وأخذ بهم الدليل -عبد الله بن أريقط- عن طريق السواحل. وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غرباً نحو الساحل حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر وسلك طريقاً لم يكن يسلكه أحد إلا نادراً. وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدا ًثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار، ثم سلك بهما ثنية المرة ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاح ثم سلك بهما مرجح محاج، ثم تبطن بهما مرجح ذي الغضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما الفاجة، ثم هبط بهما العرج ثم سلك بهما ثنية العائر -عن يمين ركوبة- حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما على قباء. وهاك بعض ما وقع في الطريق:
1- روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمر فيه أحد فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس فنزلنا عنده وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكاناً بيدي ينام عليه، وبسطت عليه فروة وقلت نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أردنا فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم قلت: أفتحلب؟ قال: نعم فأخذ شاة فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذى. فحلب في كعب كثبة من لبن ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه فوافقته حين أستيقظ، فصببت من الماء على لبن حتى برد أسفله فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى قال: فارتحلنا.
2- وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بريدة، وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي عليه السلام وأبي بكر ؛ رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كان قد أعلن عنها قريش، ولما واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلاً من قومه، ثم نزع عمامته، وعقدها برمحه، فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلاً وقسطاً.
3- وفي الطريق لقي الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب المسلمين، كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا ًبيضاء.
7- النزول بقباء:
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة -وهي السنة الأولى من الهجرة- الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنظرون، فثار المسلمون إلى السلاح. قال ابن القيم: كبر المسلمون فرحاً بقدومه وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه والوحي نزل عليه (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)، وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس -يوم الجمعة- ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار -أخواله- فجاءوا متقلدين سيوفهم فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل. (صحيح البخاري -زاد المعاد -ابن هشام -رحمة للعالمين).
8- الدخول في المدينة:
وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصراً وكان يوماً تاريخياً أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حباً، وصححها، وبارك في صاعها ومدها،
المحور الثالث: قيم خالدة ونماذج رائدة
أولا: الهجرة النبوية قيم خالدة:
مما لا شك فيه أن حدث الهجرة النبوية يكتنز جملة من القيم الحاكمة والمبادئ الكلية لمسار الدعوة الإسلامية، لذا سنتحدث باقتضاب عن أهم هذه القيم الخالدة، وإن كانت هذه الورقات لا تسعفنا، لأن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد كانت ولا تزال وستظل ميدانا مفتوحا للتأليف والإبداع الذي يكتشف في السيرة العطرة المزيد والجديد.. حتى لكنأها نبع متجدد وكتاب مفتوح يكتشف فيه العقل المبدع ما لم يكتشف الأسلاف.. وذلك بقدر ما يتحلى هذا العقل بالوعي والإخلاص والحب والولاء. حدث ذلك على مر تاريخ الاسلام، في الإطار الاسلامي، ومن قبل نفر من غير المسلمين، فرغم الكم الهائل من الكتب والمجلدات التي كتبت في هذه السيرة العطرة، كانت ولا تزال معطاءة للمزيد من الجديد15.
وأحسب أن أهم هذه القيم الحاكمة المسنبطة من حدث الهجرة النبوية، هي:
1- الإخلاص.
2- التخطيط.
3- المواطنة.
4- الأمل.
1- الاخلاص:
يقول العلماء إن سر قبول الإعمال هو النية، وسر النية هو الإخلاص، ومعنى الإخلاص هو أن يكون ما تعمله او تتركه من عمل في سبيل الله، والانبياء أشخاص وصلوا إلى مرتبة الإخلاص منذ بداية مهمتهم16، ولذلك اصل رسول الله تعالى لهذا المعني من خلال استثمار حدث الهجرة في الحديث الذي رواه الشيخان عمر بن الخطابرضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه17. وهذا الحديث الشريف احد الاحاديث التي عليها مدار الدين، وهو أحد أصول الإسلام الثلاث كما قال الإمام احمد.
والإخلاص بمنطق الهجرة هو عصارة الدين وروحه، لأنه يجسد الارتباط الوثيق بالله تعالى في حركات الإنسان وسكناته، يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي في تفسير البسملة: فيا نفسي اعملي ان هذه الكلمة الطيبة المباركة كما انها شعار الإسلام، فهي ذكر جميع الموجودات بألسنة احوالها، فإن كنت راغبة في ادراك مدى ما في “باسم الله” من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، ..فيا نفس!! إن كنت تابين ان تكوني مثل الاحمق الأبله، فأعطي باسم الله.. وخذي باسم الله.. وابدئي باسم الله.. واعملي باسم الله.. والسلام18.
2- التخطيط:
أكد الأستاذ سعيد حوى في كتابه القيم بعد تأمل عميق وتجربة رائدة في العمل الإسلامي: “جند الله تخطيطا” أن معضلة الأمة الإسلامية تكمن في الفرد المسلم، ومعضلة الفرد المسلم، على أي مستوى تكمن في خمسة أمور: الثقافة، الاخلاق، التخطيط، التنظيم، التنفيذ19، بل ويؤكد بأن التخطيط الأعلى للأمة الإسلامية والتنظيم والتنفيذ المناسبين لذلك هو أعظم المهمات على الإطلاق. ولن يستطيع أن ينجح فيه فرد ولا صف إلا إذا توافرت الشروط التالية:
أولاً: الرسوخ في العلم، فغير الراسخ في العلم لا يستطيع أن يخطط للأمة الإسلامية على بصيرة.
ثانياً: الحكمة التي هي وضع الأمور في مواضعها:
فوضع الندى في موضع السيف في العلى *** مضر كوضع السيف في موضع الندى
ثالثاً: الحركية، فتخطيط لا تتحرك جهة ما لتنفيذه تخطيط ميت.
فالعلم والحكمة والحركة شروط لا بد منها، ولكن الحركة إذا لم تقم على أساس من الأخلاقية العالية والتخطيط السليم وبعقلية منظمة وبتنفيذ عبقري فقد لا تؤدي الهدف المرجو”20.
من هنا تنبع أهمية التخطيط لإدارة أي حدث فما بلك بحد الهجرة الذي غير مجرى تاريخ البشرية، لأن التخطيط يحافظ على المسيرة من الانحراف عن بلوغ غاياتها أو التقهقر دون تحقيق أهدافها، ولأن التخطيط المتوازن يمتلك ناصية المبادرة والمرونة متى استجد طارئ أو أزمة بحيث يتعامل معها دون أن يؤثر ذلك في قوة الدفع التي تسير بها.
والمتأمل لحدث الهجرة يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع مبادئ واستراتيجية التخطيط، ولنكتفي بهذه الإشارات. فقبل الهجرة أعدّ الرسول صلى الله عليه وسلم خطة لإرجاع الحقوق لأصحابها، واختار من سينام مكانه، وحدّد وقت الخروج وآلية التمويه والتعمية، وفي أثناء الهجرة حدّد صاحبه في السفر ورفيق دربه أبا بكر الصدّيق رضي، وأعدّ الموازنة للرحلة، وحدّد وجهّز جهة التمويل، وجهّز الدابّة، وعيّن الطريق الذي سيسلكه، فاختار طريقاً خالف فيه جادّة الناس، غير مألوف ومغايراً للهدف، فاتجه جنوباً نحو اليمن، ثم اتجه شمالاً على مقربة من البحر الأحمر. ثم علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم درساً في الاختيار على أساس الكفاءة والقدرة فاختار دليلاً بأعلى المواصفات والإمكانات، ممتلكاً المهارة والخبرة بالطرق، كما كلّف عبد الله بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما لرصد وبيان أخبار مكة وتبليغها للنبي صلى الله عليه وسلم في غار ثور، وكان من أبرز صفات عبد الله أنه شابٌّ لَقِنٌ ثَقِف -كما عند البخاري وغيره-، أي صاحب ذكاء وفطنة وعقل وفهم سريع وإدراك. ولا ننسى الإعداد لفريق الخدمة وإعداد الطعام وتوفيره وكذلك إزالة آثار الأقدام من خلال رعي الغنم من قبل عامر بن أبي فهيرة مولى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه21.
3- المواطنة:
تتجلى هذه القيم منذ اللحظة الأولى لمبعثه، حيث استغرب واستبعد ما أخبره به ورقة بن نوفل: “هذا النامُوسُ الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتَنِي فيها جَذَعًا، ليتَنِي أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومُك، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أوَمُخرِجِيَّ هم؟!))، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثْل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإنْ يُدرِكْني يومُك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لم ينشَبْ ورقةُ أنْ تُوفِّي”22، وتجسد هذا الانتماء للأرض وللقبيلة بل والشعور بالضيم والحزن والأسى على مفارقته لأهله والأرض التي ولد فيها وترعرع بين شعابها فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ، يَقُولُ: ” إِنَّكِ لأَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ “، وعند وصوله إلى المدينة المنورة دعا رسول صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الجميل الاصيل: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حباً، وصححها، وبارك في صاعها ومدها“، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء بل انتقل إلى تأصيل مفهوم المواطنة الحقة في مجتمع المدينة من خلال، بناء المسج، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم كتب كتابا بين المسلمين واليهود، أقرهم فيه على دينهم وأموالهم، وتضمنت هذه الوثيقة التي كانت بمثابة دستور المدينة مبادئ الحرية والعدالة والانسانية والتسامح الديني والتعاون على مصلحة المجتمع ما يجدر بكل طالب أن يرجع إليه ويتفهمه ويحفظ مبادئه23.
وفيما يلي نص الصحيفة كما أوردها ابن هشام: “قال ابن اسحاق: وكتب رسول الله (ص) كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمّد النبيّ (ص) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبِعَهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلُّ طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجـار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عـوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفـدي عانيها بالمعـروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأنَّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم، أن يُعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وإنّ المؤمنين المتَّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلمٍ، أو إثمٍ، أو عدوانٍ، أو فسادٍ بين المؤمنين. وأنَّ أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافرٍ، ولا ينصر كافراً على مؤمن. وأنَّ ذمَّة الله واحدةً، يجير عليهم أدناهم. وأنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وأنَّ من تبعنا من يهود، فإنَّ له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم. وأنَّ سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. وأنَّ كلَّ غازية ٍغزت معنا يعقب بعضها بعضاً. وأنَّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. وإنَّ المؤمنين المتَّقين على أحسن هدى وأقومه. وإنَّه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنَّه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنَّه قود به، إلا أن يرضى وليّ المقتول، وإنَّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه. وإنَّه لا يحلّ لمؤمنٍ أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر: أن ينصر محدثاً، ولا يؤويه، وإنَّ من نصره أو آواه، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنَّكم مهما اختلفتم في شيء، فإنَّ مرده إلى الله عزّ وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم. وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإنَّ يهـود بني عـوف أمّة مع المؤمنين، لليهـود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإنَّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإنَّ جفنة كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ البر دون الإثم. وإنَّ موالي ثعلبة كأنفسهم. وإنَّ بطانة يهود كأنفسهم. وإنَّه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد (ص). وإنَّه لا ينحجز على ثار جرح. وإنَّه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم. وإنَّ الله على أبر هذا. وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإنَّ بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وإنَّه لم يأثم امرؤ بحليفه. وإنَّ النصر للمظلوم. وإنَّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإنَّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وإنَّ الجار كالنفس، غير مضابى ولا آثم. وإنَّه لا تُجار حرمة إلا بأذن أهلها. وإنَّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإنَّ مرده إلى الله عزّ وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الله على اتقى ما في هذا الصحيفة وأبره. وإنّه لا تُجار قريش، ولا من نصرها. وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنَّهم يصالحونه ويلبسونه، وإنَّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدّين، على كلّ أناس حصّتهم، من جانبهم الذي قبلهم. وإنَّ يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. وإنَّ البر دون الاثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه. وإنَّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنَّه من خرج فهو آمن، ومن قعد فهو آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم. وإنَّ الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم24.
4- الأمل:
قيمة الأمل هنا بمعنى التفاؤل والايجابية وحسن الظن بالله، واستشراف المستقبل، والاستبشار ما يؤدي إلى الفاعلية والانجاز والاستماتة في تبليغ الرسالة وخدمة القضية حتى آخر رمق، وهي ضد اليأس والاحباط والتشاؤم والسلبية، فنجد في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لابي بكر تطمينا له على قلقه وانفعاله وتوتره، روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا، فقلت يا رسول اللّه لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما”؟
قال الشيخ محيي الدين النووي: معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو كقوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)”،بل وفي عمق الأزمة والتهديدات بالقتل والاعتقال يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم سراقة بسوار كسرى ! وروح الأمل والعمل شعاره:
* ركوب سراقة في أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع له25:
وجعلت قريش في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فقدوه، مئة ناقة، لمن يردّه عليهم، ومكثا في الغار ثلاث ليال ثمّ انطلقا، ومعهما عامر بن فهيرة ودليل من المشركين، استأجره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بهم على طريق السواحل.
وحمل سراقة بن مالك بن جعشم الطمع على أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويردّه على قريش، فيأخذ مئة ناقة منهم، فركب على أثره يعدو، وعثر به الفرس، فسقط عنه فأبى إلا أن يتبعه، فركب في أثره، وعثر به الفرس مرة ثانية، فسقط عنه، وأبى إلا أن يتبعه، فركب في أثره، فلمّا بدا له القوم رآهم، وعثر به الفرس مرة ثالثة، وذهبت يداه في الأرض، وسقط عنه، وتبعهما دخان كالإعصار.
وعرف سراقة حين رأى ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية الله تعالى، وأنّه ظاهر لا محالة، فنادى القوم، وقال: أنا سراقة بن جعشم، أنظروني أكلمكم، فو الله لا يأتيكم منّي شيء تكرهونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: “قل له: وما تبتغي منّا؟” قال سراقة: تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك، فكتب عامر بن فهيرة كتابا في عظم أو رقعة.
* نبوءة لا يسيغها العقل المادي26:
وفي هذه الحال التي اضطر فيها نبي الله إلى الهجرة، والخروج من مكة، والقوم يطاردونه ويتبعون آثاره، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم البعيد الذي يطأ فيه أتباعه تاج كسرى وعرش قيصر، ويفتحون خزائن الأرض، فتنبأ في هذا الظلام الحالك بهذا النور الباهر، وقال لسراقة: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟
إن الله قد وعد نبيه بالنصر والفتح المبين، ولدينه بالظهور العام والفتح التام، وقال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (التوبة:33).
وقد أنكر ذلك قصار النظر وضعاف العقول، واستبعدته قريش، ولكن عين النبوة ترى البعيد قريبا (إن الله لا يخلف الميعاد) (آل عمران:9).
وكان كذلك، فلما أتي عمر – رضي الله عنه – بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها.
وعرض عليه سراقة الزاد والمتاع، فلم يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزد أن قال: أخف عنا.
أولا: الهجرة النبوية والنماذج الرائدة:
1- من الرجال: أبو بكر الصديق الرفيق في الطريق: مشهد واحد يكفي:
من روائع الحب:
لم يزل الحبّ منذ فطر الله الإنسان ملهما للدقائق العجيبة، باعثا على الإشفاق على من تعلّق به القلب وأحبّته النفس، وهذا كان شأن أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة.
وقد روي أنّه لمّا انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر، كان يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر! ما لك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يديّ؟» فقال: يا رسول الله! أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثمّ أذكر الرّصد فأمشي بين يديك فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله! حتّى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان، ذكر أنّه لم يستبرئ الحجرة، فقال: مكانك يا رسول الله! حتى أستبرئ فدخل فاستبرأ، ثمّ قال: انزل يا رسول الله! فنزل.
2- من النساء: أم سلمة الزوجة الصالحة والام المكافحة:
قالت أمّ سلمة -رضي الله عنها- تروي معاناتها ومكابدتها وتضحياتها في إخلاص وإيمان: لمّا أزمع أبو سلمة -رضي الله عنه- الخروج إلى المدينة، رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثمّ خرج يقود بي بعيره، فلمّا رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، وأخذوني منه.
قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم.
وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، ففرّق بيني وبين ابني وبين زوجي، فكنت أخرج كلّ غداة، فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمّي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، فردّ بنو الأسد إليّ عند ذلك ابني، فارتحلت بعيري، ثمّ أخذت ابني فوضعته في حجري، ثمّ خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، حتّى إذا كنت ب «التنعيم» لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدّار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟
قلت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أو ما معك أحد؟
قلت: ما معي أحد إلّا الله وابني هذا.
فقال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قطّ أرى أنّه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثمّ استأخر عنّي، حتّى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطّ عنه، ثمّ قيده في الشجر، ثمّ تنحّى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح، قام إلى بعيري فقدّمه، فرحله، ثمّ استأخر عنيّ وقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري، أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتّى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتّى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف ب «قباء» قال: زوجك في هذه القرية- وكان أبو سلمة بها نازلا- فادخليها على بركة الله، ثمّ انصرف راجعا إلى مكة.
فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام، أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قطّ كان أكرم من عثمان بن طلحة27.
3- علي بن أبي طالب: الفتى الذكي والشاب الفدائي:
كانت المؤامرة الَّتي دبَّرها الكفَّار أن تقوم مَجموعة من قريْش تتألَّف من كلِّ عشيرة فيها، بِحيث تنتدب عنها شابًّا فتيًّا، ويعمد هؤلاء إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم فيضرِبونه ضربة رجُل واحد، وبذلك يتوزَّع دمه في جميع العشائر، فلا يقدِر بنو عبد مناف على حرْبِهم. فلمَّا كانت اللَّيلة الَّتي عزموا فيها على تنفيذ المؤامرة، تربَّصوا قرب داره، منتظرين الفُرْصة الملائمة لاغتياله.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن ينام على فراشه قائلاً: “نم على فراشي وتسجَّ ببردي هذه الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنَّه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم“.
ودعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اللهَ -عزَّ وجلَّ- أن يعمي أبصارهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وقد غشيهم النوم، فوضع على رءوسِهم التراب؛ “وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ” [يس:9].
قال المرحوم عباس العقَّاد في تحليل شخصية الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: “آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصيَّة النبيلة، كانت القوَّة طبعًا في علي فطر عليه، وأدبًا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات الفروسيَّة العمليَّة التي يتعوَّدها كل فارس شجاع“.
المحور الرابع: نحن والهجرة؟
إن حديث الهجرة النبوية لقمين بأن يدفع عقولنا إلى التفكر والإعمال، وقلوبنا إلى التفقه والإيمان، بأن نكون اوفياء لماضينا المجيد وأن نعمل على الرقي بواقعنا نحو النهضة والحرية والقوة والعدالة ودولة الحقوق والواجبات، نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية”،
فمن الجدير بالملاحظة مدى إشارة الحديث لأهمية الهجرة. صحيح أن الهجرة بمعناها الخاص قد انتهت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا هجرة بعد الفتح» ولكن الهجرة في معناها العام مستمرة حتى يوم القيامة، ذلك لأن الهجرة توأم للجهاد، وُلِدا معاً ويعيشان معاً. والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن الجهاد مستمر حتى يوم القيامة إذ يقول: «الجهاد مـاضٍ إلى يـوم القيامة»28، ولذلك مظاهر وتجليات على حد تعبر فتح الله كولن:
أ- الهجرة من الذنوب.
ب- الهجرة إلى الرحمة الإلهية.
ج. بلاء اليد واللسان.
يروي البخاري من صاحب جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم هذا الحديث: “المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه“.
د. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
وخير الختام قول رب الانام: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:41-42).
والحمد الله رب العالمين
1- السيرة النبوية لابن هشام الجزء2 ص: 73.
2- شروط النهضة، مالك بن نبي ص: 145.
3- المرجع السابق ص147.
4- المرجع السابق ص146.
5- قيمة الزمن عند العلماء، عبد الفتاح أبو غدة (ص117).
6- محمد صلى الله عليه وسلم تأليف الشيخ رشيد رضا (ص89).
7- عيون الأثر لابن سيِّد الناس اليعمري (ج1ص147-148).
8- السيرة النبوية لابن هشام (ج2 ص42 و43 و44).
9- السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص232).
10- “صحيح البخاري” (5/46).
11- “صحيح البخاري” (ج1ص57).
12- “السيرة النبوية”؛ ابن هشام (ج2 ص35).
13- “صحيح البخاري” (ج1ص7).
14 – الرحيق المختوم صفي الرحمن المباركفوري من (ص115 إلى 124).
15- النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية، محمد فتح الله كولن من تقديم محمد عمارة (ص5).
16- النور الخالد (ص70).
17- رواه البخاري ومسلم.
18- الكلمات بديع الزمان النورسي (ص:6-8) بتصرف ترجمة إحسان قاسم الصالحي.
19- جند الله تخطيطا سعيد حوى (ص:10).
20- “جند الله” (ص9).
21- مجلة الفرقان الاردنية العدد 143، التخطيط من واقع السيرة النبوية، د. محمد مصطفى الأسود.
22- “صحيح البخاري” (ج1ص7).
23- السيرة النبوية دروس وعبر مصطفى السباعي (ص73-74-75) بتصرف.
24- السيرة النبوية لابن هشام (ص81-82-83) وسنخصص بحول الله لهذه الصحيفة دراسة تربوية في ضوء الواقع المعاصر لأهميتها.
25- السيرة النبوية لابي الحسن الندوي (ص243).
26- السيرة النبوية لابي الحسن الندوي (ص244).
27- السيرة النبوية لابي الحسن الندوي (ص234-235).
28- “النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية” محمد فتح الله كولن (ص196).