تحرير المقال فيما بين النظر المقاصدي وأصول الفقه من الاتصال
محمد قاسمي
هوية بريس – الإثنين 29 دجنبر 2014
بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه أقول:
إنه لا شك أن علم أصول الفقه متضمن لقواعد الاستنباط والاجتهاد التي تسعف الفقيه في استمداد الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وتنزيلها على مناطاتها الخاصة والعامة، الفردية والجماعية، وهي قواعد استشفها الأصوليون والفقهاء من تصرفات الشارع ونصوص خطابه، واستنبطوها من فتاوى الصحابة والتابعين، وصنفوها في كتب علم أصول الفقه بصورة نظرية على طريقة المتكلمين، وصورة عملية فروعية على طريقة الأحناف أو الفقهاء، وطبقوها بعد ذلك على نصوص الخطاب الشرعي قرآنا وسنة في كتب الفقه وأحكام القرآن ومصنفات فقه الحديث والفقه العام.
وقد تنوعت طرائق إعمال هذه القواعد الأصولية وتطبيقها على نصوص الخطاب الشرعي، حسب طبيعة هذه النصوص من حيث (الصحة والضعف)، و(القطعية والظنية)، وإفادتها للأحكام بصيغتها المباشرة وغير المباشرة، مما سمي بـ”النص والاجتهاد أو المصلحة”، فكان اختلافهم في (اعتبار) هذه القواعد و(إهمالها) سببا رئيسا في الخلاف الفقهي، وهو أمر ملحوظ للمجتهدين في اجتهاداتهم وبين في كتب الخلاف العالي، واعتبار “الخلاف الأصولي مدخلا للخلاف والفقهي” بهذا المعنى.
وقد عمد الأصوليون والفقهاء إلى الحد من مساحة الخلاف الفقهي بالتوسل بآليات (النظر والتقريب) بين الآراء الأصولية واستبعاد ما ليس من “ماهية” علم الأصول والإبقاء على ما يخدم وظيفته الاستنباطية في إفادة الفقه والأحكام التكليفية والعملية والآداب الشرعية، على حد تعبير الإمام الشاطبي -رحمه والله- فـ”كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا يبنى عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية”1.
ومن جملة الوسائل والنظر التي “يقرب” بكها الخلاف الأصولي وتضيق بها شقته (إعمال النظر المقاصدي) بمعناه الواسع، بدء من اعتبار الأدلة الجزئية بالأدلة الكلية، وإرجاع دلالات الأدلة إلى المعاني الكلية للشريعة، وخاصة المعاني الثلاثة “الضروريات والحاجيات والتحسينات” واعتبار مبدأ (التعليل العام) بجلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا التدخل للمقاصد والنظر المقاصدي في عملية التقعيد الأصولي وتضييق الخلاف في المباحث الأصولية، ليس تدخلا غريبا، بقدر ما هو تدخل وظيفي من الداخل، على اعتبار أن المقاصد من علم الأصول، وليس كما يدعيه البعض.
ولكون هذه المسألة أي “دعوى فصل المقاصد عن الأصول” لها راهنيتها في هذا البحث، لأن الخلاصة المقصودة أساسا منه، تنطلق من هذه المسلّمة -عندي- في كون المقاصد من الأصول، فلابد من عرض أولي لها انطلاقا من آراء بعض الأصوليين المعاصرين على الخصوص، وسيأتي بيانها على وجه التفصيل والتطبيق في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى.
لقد شكل محور المقاصد الشرعية في البحث الأصولي، أولوية بحثية ودراسية عند كثير من الباحثين والدارسين المعاصرين، وخاصة بعد طبع ونشر كتاب “الموافقات” للإمام الشاطبي الذي أحال فيه على المقاصد وبحثها في كتاب مستقل من كتابه الأصل، وجعل موضوع المقاصد نفَسا له في سائر أجزاء الكتاب، وقد أُلف الكتاب في القرن الثامن الهجري، ولم يتداول بين العلماء دراسة وتدريسا ومدارسة لأسباب عدة، منها: “كون هذه المباحث (أي مباحث الموافقات) مبتكرة مستحدثة لم يسبق إليها المؤلف كما أشرنا إليه، وجاءت في القرن الثامن من بعد أن أتم للقسم الآخر من الأصول وتمهيده وتعبيد طريقه وألفه المشتغلون بعلوم الشريعة، وتناولوه بالبحث والشرح والتعلم والتعليم، وصار في نظرهم هو كل ما يطلب من علم الأصول، إذ إنه عندهم كما قلنا وسيلة الاجتهاد الذي لم يتذوقوه، فلا يكادون يشعرون بنقص في هذه الوسيلة، فلم تتطاول همة من سمع بالكتاب إلى تناوله وإجهاد الفكر في مباحثه واقتباس فوائده، وضمها إلى ما عرفوا، والعمل على إلفها في ما ألفوا، ولفت طلاب العلم إليها، وتحريك هممهم وإعانتهم عليها.
(…) والثاني: أن قلم أبي إسحاق -رحمه الله- وإن كان يمشي سويا ويكتب عربيا نقيا، كما يشاهد ذلك في كثير من المباحث التي يخلص فيها المقام لذهنه وقلمه، فهناك ترى ذهنا سيّالا، وقلما جوالا، قد تقرأ الصفحة كاملة لا تتعثر في شيء، من المفردات ولا أغراض المركبات إلا أنه في مواطن الحاجة إلى الاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية، والرجوع إلى المباحث المقررة في العلوم الأخرى يجعل القارئ ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط، تحت كل كلمة معنى يشير إليه، وغرضا يعول في سياقه عليه، فهو يكتب بعد ما أحاط بالسنة وكلام المفسرين ومباحث الكلام وأصول المتقدمين وفروع المجتهدين وطريق الخاصة من المتصوفين، ولا يسعه أن يحشو الكتاب بهذه التفاصيل، فمن هذه الناحية وجدت الصعوبة في تناول الكتاب، واحتاج في تيسير معانيه وبيان كثير من مبانيه إلى إعانة معانيه، ومع هذا فالكتاب يعين بعضه على بعض، فتراه يشرح آخره أوله، وأوله آخره”2.
لكن بعد أن يسر الله تعالى خروج الكتاب إلى ساحة الدرس والمدارسة، سيشكل منعطفا صحيحا في مسار الدرس الأصولي، الذي افتقد في مسيرته إلى قسم المقاصد بهذا النحو الذي أبان عنه الشاطبي في موافقاته، وقد “تجلى بها كيف كانت الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام لجميع البشر دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية”3.
وقد تساءل الدكتور حمادي العبيدي عن فرضية ابتداع الشاطبي لعلم المقاصد؟ وأجاب بقوله: “يكاد يتفق جميع الذين تناولوا كتاب الموافقات بالدرس على أن الشاطبي هو مبتدع “علم المقاصد” كما ابتدع سيبويه علم النحو، وابتدع الخليل بن أحمد الفراهيدي علم العروض، وعد بذلك مجددا على مستوى الفكر الإسلامي”4، وقال الدكتور اليوبي: “والحديث عن أثر الشاطبي في علم مقاصد الشريعة حديث ذو شجون، وقد كفانا الباحثون والدارسون لشخصية الشاطبي من خلال مقاصد الشريعة التوسع في هذا الباب، والذي أود أن أقوله هنا: أن الشاطبي -رحمه الله- قد أسهم إسهاما كبيرا في هذا العلم، وإظهاره بقواعده وأقسامه وأحكامه، حيث خصص له جزء من كتابه” الموافقات”، وكان قبل ذلك مغمورا ضمن مؤلفات العلماء يتعرضون له أثناء كلامهم عن القياس أو المصلحة، وربما لا يتفطن له إلا من كان له عناية بعلم أصول الفقه”5.
ولأن الدكتور العبيدي ظن أن الشاطبي ابتدع هذا العلم حتى قال فيه ما قال مما نقلته قريبا، فإن الدكتور اليوبي أوضح خطأ هذا الظن بقوله “فلما أظهره الشاطبي (أي علم المقاصد) وأبرزه بتلك الصورة، عرفه الأصوليون وغيرهم، حتى ظن بعض الناس أن الشاطبي قد ابتدع هذا العلم وجاء به من تلقاء نفسه، وليس الأمر كذلك بل سبق ذلك مراحل آخذ بعضها برقاب بعض، حتى انتهت إلى أبي إسحاق الشاطبي: ففتح من هذا العلم مغلقه، وحل مشكله، وفصل مجمله، وبسط مسائله، وشرح قواعده، ورتب أبوابه، وأضاف له إضافات حسنة، والشاطبي في ذلك متأثر بمن سبقه من العلماء، ولا سيما الغزالي والعز بن عبد السلام وتلميذه القرافي”6.
ولأن “المقاصد” تكونت في رحم أصول الفقه، ومن مفاهيمه ومباحثه تشربت وأينعت، فإن الدكتور أحمد الريسوني في دراسته القيمة وعد في الفصل الثاني منها أن يبرز صور امتداد نظرية المقاصد التي نظر لها الشاطبي في القسم الثالث من موافقاته، في بقية الأجزاء، يقول حفظه الله: (…) على أني سأخصص -بحول الله- فصلا آخر لرصد امتدادات نظرية المقاصد في بقية الأجزاء، وفي سائر كتابات الشاطبي المنشورة طبعا”، وهو كلام يحيل على ما سميته (مسلمة) في كون علم أصول الفقه يحتضن المقاصد، وأن المقاصد ليست علما مستقلا كما ادعاه الشيخ الطاهر بن عاشور -رحمه الله-.
وقد صرح العلامة علال الفاسي -رحمه الله- بأن المقاصد ليست دليلا مستقلا عن الأدلة الشرعية بقوله: “ليست المقاصد الشرعية مصادر تشريع خارجية .. والمقاصد جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي”7.
وقد عرض الدكتور عمر بن صالح عمر لموضوع علاقة المقاصد بالأصول، وخلص إلى” أن مقاصد الشريعة موضوع من جملة موضوعات أصول الفقه التي لا تخرج عن أصول الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث فيها، وأقسامها واختلاف مراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها”8.
وقد وضع العلامة عبد الله بن بيه في الموضوع كتابين، الأول خطه بيمينه، والثاني عبارة عن محاضرة مفرغة وهما: “مشاهد من المقاصد” و”علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه” وخلص في الكتاب الثاني على سبيل التمثيل بعد البحث والتنقيب وتقليب النظر في الآراء، والتمثيل بأكبر القضايا التي يندمج فيها المبحث الأصولي بالنظر المقاصد، إلى خلاصة علمية يقول فيها: وبما قدمنا نكون قد رمينا نظرية استقلال المقاصد عن أصول الفقه بالفنْد، وأبنا الاندماج بينهما اندماج الروح في الجسد، والمعدود في العدد.
فإنْ لا يكُنْها أو تَكُنْهُ فإنهُ***أخٌ أَرْضَعَتْهُ أُمُهَا بلبانها”9.
وقد اقترح الشيخ عبد الله بن بيه ثلاث نواح لتفعيل المقاصد والتحاكم إليها في إطار هذا الوصل وهذه اللحمة بين المقاصد والأصول، وهي:
• “أولا: في تفعيل أصول الفقه على ضوء إعمال المقاصد في بنيتها، لتوسيع دائرة الاستحسان والاستصلاح واستنباط الأقيسة ومراعاة المآلات والذرائع (…).
• ثانيا: وفي ضوء هذا التفعيل سيتاح تقديم اجتهاد مستقل في القضايا الاجتهادية من خلال آليات الاجتهاد (…).
• ثالثا: اختيار الأقوال المناسبة التي تحقق المقاصد الشرعية، حتى ولو كانت مهجورة ما دامت نسبتها صحيحة وصادرة عن ثقة، ودعت إليها الحاجة”10.
فتدخل المقاصد في تفعيل أصول الفقه من حيث تجديد الاعتبار لمصادر التشريع التبعية مثل الاستحسان، وإعادة صياغتها لتفيد وظيفتها ودورها الاجتهادي، كما أن المقاصد شرط من شروط الاجتهاد، كما ذهب إلى ذلك الشاطبي وسمي بعد ذلك هذا الدمج بـ”الاجتهاد المقاصدي” وقد ألفت فيه العديد من المصنفات والرسائل والأطروحات الجامعية…
ثم تكون الوظيفة الثالثة لهذا التفعيل في الترجيح الجمع بين الأقوال، واختيار ما يناسب مقصد الشرع والشارع.
وقد تحدث الدكتور طه عبد الرحمن -حفظه الله- في سياق تجديد المنهج في تقويم التراث الأصولي للأصوليين، عن النظرة التكاملية والاشتغال بآليات التداخل المعرفي الداخلي في أصول الفقه، وقدم في هذه النظرة نموذج الإمام الشاطبي ردا على من زعم النظرة التفاضلية ونقض التداخل المعرفي، خاصة عند أبي إسحاق11، الذي عرف بالمقاصد وعرفت المقاصد به.
وفي سياق حديثه عن معنى فعل (قَصَدَ) بين أنه على معان ثلاثة، لكونه لفظا (مشتركا). وهي معان لم يسبق الدكتور طه إلى بيانها وإيضاح الفروق بينها، يقول الدكتور طه: “وعلى الجملة فإن فعل (قصد) قد يكون بمعنى (حصل فائدة)، أو بمعنى (حصل نية)، أو بمعنى (حصل غرضا)، فيشتمل “علم المقاصد” إذ ذاك على ثلاث نظريات أصولية متمايزة فيما بينها:
• أولاها: نظرية المقصودات، وهي تبحث في المضامين الدلالية للخطاب الشرعي.
• الثانية: نظرية القصود، وهي تبحث في المضامين الشعورية أو الإرادية.
• الثالثة: نظرية المقاصد، وهي تبحث في المضامين القيمية للخطاب الشرعي.
وإذا تقرر هذا ظهرت الحاجة إلى معرفة السبب الذي جعل هذه المباحث الثلاثة تجتمع في صلب أصول الفقه”12.
وهذا التقرير الذي خلص إليه الدكتور طه يبين ما خلص إليه قبلُ الدكتور عبد الله بن بيه من التداخل بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، وأن الأصل فيهما التمازج والاتصال لا التنافر والانفصال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الموافقات . للشاطبي، تحقيق الشيخ عبد الله دراز، ط2، سنة 2009، دار الكتب العلمية/ص26.
2- الموافقات: مقدمة عبد الله دراز. ص9-10.
3- عبد الله دراز ص7.
4- الشاطبي ومقاصد الشريعة.حمادي العبيدي ط1 دار قتيبة ص131.
5- مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلاقتها بالأدلة؛ تأليف اليوبي ص68. ط1. سنة 1418/1998. دار الهجرة للنشر والتوزيع.
6- اليوبي: ص68.
7- مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام. تأليف د عمر بن صالح بن عمر دار النفائس. ص80 ط1 سنة 2003.
8- مقاصد الشريعة الإسلامية، ومكارمها تأليف الفاسي نقلا عن الاجتهاد المقاصدي للخادمي ص135. كتب الأمة.
9- علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه. عبد الله بن بيه. ص134 مؤسسة الفرقان. سلسلة المحاضرات (2) سنة 1427-2006.
10- نفس المرجع. ص138-144.
11- و”.. كان الداعي إلى اختيار أبي إسحاق الشاطبي شاهدا على هذا التداخل هو تسليم هذا الخصم به (وهو الدكتور محمد عابد الجابري) ظنا منه أنه ينقض نتائجنا في التداخل الداخلي فأقمنا الدليل على أنه خير من قام بمقتضيات هذا التداخل في علم الأصول حتى إذا ظهر بطلان ظن الخصم اضطر إلى الإذعان” تجديد المنهج ص:98-99.
12- تجديد المنهج في تقويم التراث، تأليف الدكتور طه عبد الرحمن، ص:98/99، المركز الثقافي العربي.