حضرْتُ بكل اهتمام المؤتمر الدولي الثاني لدراسات الوسطية، والذي اتخذ المنظمون عنوانا له: “التراث ومتطلبات المستقبل”، وهو من تنظيمٍ مشترك بين الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمنتدى العالمي للوسطية ومؤسسة المهدي بنعبود، وفِي اعتقادي كان المؤتمر موفقا ممتعا ناجحا نسبيا، حاولت كل بحوثه وأطاريح المشاركين فيه أن تلامس إشكاليات التراث ومناهج التعاطي معه والبحث فيه وضوابط تجديده، إلا أن أكبر نقص اعترى الوفاء بعنوان المؤتمر هو الغفلة عن المستقبل ومتطلباته، وبالتالي بقي التراث معلقا في الماضي لم يستطع الجميع أن يتجاوز به عتبة الأمس، وهذا النقص يرجع في نظري إلى أمور أجملها في ثلاثة أسباب أساسية:
1- ضخامة العنوان وكثافة دلالاته، وعظم مجالات موضوعه: التراث/متطلبات/المستقبل، فالتراث ضخم منهك، والمتطلبات متعددة متجددة، والمستقبل ملتبس متشعبة تحدياته وقضاياه.
2- طبيعة التراث وشساعة مساحته التي تغطي 15 قرنا، وتنوعه وغناه، واستمرار جزء كبير منه في الحاضر وتأثيره الخطير في قضايا المستقبل، الأمر الذي يستحيل معه الإحاطة بالتحليل والدراسة، والخروج بنقد رصين، ومناهج وخلاصات في مدة يومين.
3- التباس المستقبل في بلدان الإسلام، فهو لا يزال مرتهنا بالماضي القريب، ماضي سايكس بيكو ونسختها الجديدة سياسيا، والاستشراق والاستغراب معرفيا، والليبرالية والاشتراكية اقتصاديا، كل ذلك يعتمل في مضمار الصراع بين نظم مشلولة أسَّسها الاحتلال، وتواطأ معها على الاستبداد والاستغلال، وإعادة تدوير التخلف والجهل، وشعوبٍ تريد الرجوع إلى هويتها تبحث عنها بين ركام وأشلاء وضباب، لتنطلق من تراث تليد عظيم مُرَشَّد تضمن به استقلالها مَع تطلعها إلى نهضة وتقدم ونمو.
نهضة وتقدم ونمو تحول بينها وبينه بنيات الظلم والاستبداد المتراكبة المتجذرة، المانعة من تحقيق مستقبل تسود فيه الحرية والكرامة والعدالة.
كل هذه الأمور جعلت مهمة العلماء والمفكرين والأساتذة في المؤتمر صعبة للغاية في مقاربة العلائق بين التراث ومتطلبات المستقبل.
إن التراث حي بِنَا وحياتنا رهينة بحياته، فنحن نعيشه وهو يعيشنا، وحين نقتل منه جزء فإننا نقتل عضوا من ذاتنا.
هذا الحلول والاتحاد بين التراث والذات، كحلول الروح في الجسم، واتحادها بالذات لتنتج الحياة، فلا تستقيم حياة الأمة إلا باجتماع ذاتها بروح تراثها، فدون روح ليست هناك حركة للذات، وليس هناك تفكير، ولا نهضة ولا تقدم، وكما يتعفن الجسم وتهجم على خلاياه الطفيلياتُ من الداخل والخارج، كذلك يُفعل بأمة تخلت عن روح تراثها، عن دينها وشريعتها ولغتها وتقاليدها وأعرافها، وكما يتحلل الجسم المفارق لروحه، تتحلل بنيات المجتمع الذي فارق روح تراثه.
إن تراثنا باعتباره منتَجا لنصوص الوحيين تشكل عبر ممارسة سياسية واقتصادية واجتماعية وعمرانية وثقافية وأدبية، عاشت به الأمة 15 قرنا، انسجم خلالها التراث مع النظام والحكم فكان التراث مهيمنا بالحكم، وكان الحكم يسود بالتراث، فلا تكتمل روح التراث ولا ينتج حياة كاملة إلا عندما يتصل بالسلطة/النظام، وهكذا هو شأن كل تراث.
وليتمعن كل ذي عينين في التراث التلمودي، كيف صار حيا بعد موت دام قرونا ليصبح عند ارتباطه بالنظام/الحكم مهيمنا في الدولة العبرية، فصارت العبرية لغة العلم والبحث والاقتصاد، رغم استنباتها في قلب بلدان العرب، بينما تصارع اللغة العربية التي قادت العالم قرونا من أجل البقاء لغة لتدريس العلوم.
إننا ونحن ندردش حول التراث يحسن بِنَا أن نلامس العلاقات بين “النحن”/الذات، والتراث/الروح، والآخر/المستغل أو المنقح أو العدو.
فـ”النحن” تعيش انفصاما بين دعاة إحياء التراث وتفعيله واستمرار “حاكميته” من علماء وتيارات إسلامية وحركات دعوية وأحزاب جعلت تحكيم الشريعة من أهدافها وبعث مقومات الهوية من آلياتها في إحياء التراث واسترداده، وبين دعاة الاستغراب و”الحدثانية” والعلمنة، الذين يَرَوْن في التراث العائقَ والحائل دون النهضة، فهؤلاء لا يزالون منذ سقوط نظام الخلافة يشكلون الآلية المفرملة الكابحة للقيام من السقوط، وكل مرة يتمظهرون بكيان مختلف، بعثيون قوميون اشتراكيون ماركسيون ليبراليون مستغربون علمانيون؛ ويتعاملون مع التراث بمنهجين: منهج العداء والتهميش ويمثله تيار عبد الله العروي، ومنهج الاختراق من الداخل وقتل الروح فيه حتى يخضع لشروط “الحداثة” وينساق لمقتضيات العلمانية، ويمثله تيار محمد عابد الجابري.
أما التراث فمنهَك يعاني من المتاجرة به من طرف حكام ونظم تستثمره لإنتاج التخلف وهيمنة الاستبداد وشرعنة الظلم، وتهدئة الذات الجمعية المتململة للنهوض، وتكبيل العقل الجمعي المسلم بقضايا الصراع بين المذاهب والتيارات والمدارس، بخلق تيارات كالمدخلية والداعشية، تماما كما تخلق الأحزاب السياسية الإدارية لصناعة التحكم خدمة للاستبداد.
أما “الآخر”، فيستغل التراث كما يستغل “النحن” المتشظية المنفصمة المتناقضة؛ وما كان قادرا على هذا الاستغلال البشع أيام كان التراث يستند إلى نظام/حكم، يحرس المجتمع ويدافع عن الذات ويحميها من الاختراق الطفيلي.
لكن عندما وقع الفصل بين التراث والسلطة، تمكن من الاستغلال البشع لقوة التراث في خدمة مصالحه.
فقد سجل لنا التاريخ أن دول الغرب عندما أرادت أن تسقط الخلافة العثمانية استنجدت بالتراث وقضاياه، وحركت قضية “الأئمة من قريش”، وصارت في غمضة عين قضية المسلمين الأولى، فاشتغلت في حينها المؤتمرات والندوات والمناظرات والتجاذبات السياسية والمؤلفات.
لكن على الأرض ترى الحروب بين الدولة العثمانية الممثلة للمسلمين ودول الغرب -المجتمعة اليوم في منظمة الأمم المتحدة مستحوذة على حق الفيتو-، وترى شريف مكة القرشي تجمع حوله العرب تعِده بريطانيا بالخلافة، كما وعدت الصهاينة بالوطن القومي في قلب الأمة فلسطين والقدس، وترى لورنس العرب الضابط البريطاني الاستخباراتي يصلي بهم بعد ادعائه الإسلام يدربهم ويشكل منهم جيشا لحرب دولة الخلافة المريضة المنهوكة المسيطر عليها من طرف علمانيي تركيا الفتاة وماسونيي الاتحاد والترقي.
وبعدها بسنوات ترى التراث الإسلامي الفاقد لقوة السلطة في خدمة الجيوش المحتلة، فشيخ الإسلام في دولة “تركيا الفتاة” يدعو للجهاد إلى جانب ألمانيا، والسلطان في المغرب يدعو للجهاد إلى جانب فرنسا، ومُفتون يدعون المسلمين في الهند للجهاد إلى جانب بريطانيا، وكذلك في سوريا والعراق والجزائر وباقي الأقاليم الإسلامية.
وحتى بعد تنظيم الغرب للعالم بعد الحرب العالمية الثانية وإحكام سيطرته على حكومات بلدان العالم الإسلامي، تم استغلال تراث الجهاد للتصدي لاحتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، فكان فقه الجهاد وحكايات الجهاد وقصص المجاهدين من رجالات الأمة، “تشتغل” في تنسيق واتحاد مع الدبابات والصواريخ الأمريكية، لدحر العدو الروسي الشيوعي الكافر الذي يريد استباحة أرض المسلمين وعرضهم.
لكن عندما يأخذ الاحتلال الأمريكي مكان الاحتلال السوفييتي في بلاد الأفغان نفسها ينقلب النظر إلى الجهاد، فيصبح إرهابا وتصير عقيدة الولاء والبراء تطرفا، ويصبح المجاهدون خوارج، وتستدعي أمريكا والعلمانيون العرب والمستبدون الفكر المدخلي لإحياء جانب من التراث لحرب الإخوان والقاعدة وداعش المصنوعة وحماس، ويسجن كل قادة العمل الإسلامي لأن الإرهاب بمفهومه الأمريكي صار مجرما من طرف “علماء” المسلمين ودولهم، فتصبح الفتاوى في خدمة الغرب وتكريس التشتت وتعميق الجراح في ذات الأمة المنهكة.
إن استغلال التراث الإسلامي من طرف الآخر المهيمن على “النحن” الجانحة المتشظية، هو الذي يقف اليوم وراء إحياء الأشعرية لمحاربة السلفية، وهو الذي يحرك المدخلية المغالية في طاعة ولاة الأمور ويستنفرها لحرب جماعة الإخوان المسلمين، ويستعملها لبلبلة الوضع في ليبيا حيث تُمارِس باسم طاعة ولاة الأمور الإرهاب والقتل للعلماء والعاملين.
الأمر نفسه يقال في تفسير حملة إحياء القبورية والصوفية والمذهبية لمحاربة هيمنة العقيدة والفقه السلفيين بعد أن تم توظيفهما بقوة خلال الحرب الباردة، فلما انتهت هذه الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بدأت تصفية الخطر الأخضر، وبدأت الحرب على الإسلام، مع نظريات صدام الحضارات والنظام الدولي الجديد والشرق الأوسط الجديد.
إن التحدي اليوم في وجه الأمة ليس متمثلا في الوصول إلى السلطة وإنما في الحفاظ على التراث من التحريف والانتحال والغلو، والتصدي لعمليات المسخ التي يقودها الغرب في قراءته الجديدة للإسلام وإنشائه لإسلام يناسبهم ويخدم مصالحهم، على حد قول رئيس المخابرات الأميركية CIA السابق “جايمس وولسي James Woolsey” سنة 2006 يقول فيه: “سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا ثم نجعلهم يقومون بالثورات فيتم انقسامهم على بعضهم لنعرات تعصبية ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر”.
والخلاصة؛ إن كل أمة تسمح بقتل تراثها من طرف عدوها، يقتلها عدوها بيد أبنائها وبتراثها.
فلما كان التراث حيا، استطعنا بالتراث أن نقيم الحضارة في بغداد وقرطبة وغرناطة والقسطنطينية.
وعندما سمحنا للعدو بممارسة قتل التراث صار أبناؤنا يَقتلون أنفسهم وأهليهم ويُقتلون باسم التراث ودفاعا عن التراث، فحتى لا يقتلنا التراث يجب أن نعيد الحياة إليه حتى يعيد الحياة إلينا.
من أحسن ما قرأت
بارك الله فيك وقعت على الداء
أحسنت أحسن الله إليك
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين