ألسنا أهلا لأن نمتلك إعلاما ناصحا أمينا؟
هوية بريس – محمد بوقنطار
أليس من حقنا أن نتمنى من على إعلامنا الأماني؟
أليس لنا الحق في أن نمتلك إعلاما ناصحا أمينا؟
أليس من واجب إعلامنا تجاهنا أن يصير جامعة هوائية تلقى من على منبره الدروس والمحاضرات والتطبيقات؟
ألسنا في حاجة إلى إعلام يخدم قضايانا ويعالج واقعنا الموبوء؟
أليس من حقنا على إعلامنا أن تراعي برامجه ومواده آداب حياتنا وأعراف أجدادنا المرعية؟
أليس من حقنا أن نمتلك إعلاما صادقا يكف الأفمام عن فحشاء الكلام؟
أليس من واجب إعلامنا تجاه حاجاتنا أن يربي أجيالنا بمفهوم القدوة وإظهار كبرائنا وتورية التافهين من صغرائنا؟
أليس من حقنا على خطابه المحبور والمسموع والمنظور أن يخرجنا من خطايانا كما تخرج برامجه اليوم راقصيه من ملابسهم؟
أليس من حقنا عليه أن يقوّي فينا عرى الإيمان ويذكي فينا قوة الانتساب إلى الوطن؟
أليس من حقنا عليه أن يحرر المفاهيم ويجردها من شوائب اللبس والتدليس الذي غرقت في ماءه النتن أجيال وأجيال؟
أليس ما يصرف من عرق الجبين على إعلامنا كفيل بأن يحقق لنا توازنا في دائرة العوض في غير غبن ولا تطفيف؟
أليس في صالحه أن ينفخ بأنفاس الوصل في رصيد الارتباط به على مستوى الوجدان الشعبي؟
ذلك أنه من الخطر على رسالتنا الحضارية أن تتبنى طرحا إعلاميا لا يمت لتاريخنا بصلة، ولا يشرف به ماضينا التليد، يوم كنا في شأن، بينما كان الغرب يعيش ظلاميته ويرفل في ثوب الجاهلية التي شكلت الكنيسة مطرقتها والحاكمية المستبدة الغاشمة سندانها، ويوم كان المسلمون يصدرون القيم، بل يعتبرون مرجعا استنباطيا لمفهوم المدنية والحضارة، ومصدرا من مصادر تلقي العلوم والمعارف الإنسانية التي زلزلت معانيها السامية أركان الضلال المكين وأبادت تفاصيلها الدقيقة العدوان المبين، إن مأثورنا يومها وسيرتنا في الأرض كانتا تملآن قلب الغريب قبل القريب تعظيما لأسلافنا، وإجلالا واحتراما لطيب أنفاسنا المباركة، وسواء صدقتنا هذه الأجيال التائهة المفتونة أم لم تصدقنا فيما سقناه مجملا مبتسر العبارة سديد الإحالة بالإشارة، فإن هناك حقائق تاريخية محسوبة لأمتنا لا عليها تحكي بالتواتر والعزو المسنود الذي انحنت له هامات الآخر إقرارا بكونها كانت أمة سيدة انتصر في كنفها الحق على الباطل والجد على الهزل والعلم على الجهل والعدل على الظلم والعفة على الشهوانية والإنسانية على الأنعامية، بل ظلت علاقة العباد برب العباد مصونة العهد محفوظة الذكر، بحيث شكل المكوِّن الأخلاقي في دائرة نفوذها العامل المعياري لمفهوم الإنسانية في بعدها الحضاري الدقيق المعاني السابغ الأركان.
ولعلها حقائق تذكر في سياق تكريس الوزن المطفف لأمورنا المعاصرة أو ما آلت إليه في حاضرنا أدوات التحضر ومتحكمات ما نحسبه جهلا أو تجاهلا سيرا إلى الأمام، بينما تحكي الصورة بتواطئ مع الصوت وذهاب الريح أننا ندشن في كل خطوة نخطوها تحقيق قرب أو زيادة إيغال في جحر الضب مضرب المثال النبوي، وعلى رأس هذه الأدوات والمتحكمات إعلامنا ومشهده البئيس الذي يحكي كيف أن تلفزتنا تلتهم أخلاقنا التهاما، وكيف أن برامجها تعمل ليل نهار على ترك السلوك الحيواني من دواخلنا طلقا حرا هائما على وجهه، مغرقا في ملذاته، يعب من المنكرات ما يبغيه ويشتهيه بعيدا عن قيد الحلال والحرام، منفكا عن عقدة الأخلاق، متحررا من شعبة الحياء التي انسلخت من حمرتها هذه الوجوه الصافقة التي استوردت واستعاضت بحمرة الدم وفورته بأصباغ وألوان ومناقش غيّرت بها خلق الله، وهي بالإضافة إلى ما ينضح منها من صفاقة باتت تملك الجرأة في رمي المصلحين والغيورين بالتهمة القديمة المتجددة تهمة الطهرانية مصداقا لقوله جل في علاه تخبيرا عن جواب قوم لوط وتهمتهم الحائدة عن الفطرية البشرية :” فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون”.
ولا شك أن من حقنا ونحن نشهد هذا السلوك الالتهامي أن نستفهم عن أسبابه ودواعي تضخمه وتغوّله، وكيف دُفع فجأة إلى الواجهة حتى صار لأهله سطوة ذات منزلة ومكانة متعاظمة، تحكيها أرقام المشاهدات وعدد الإعجابات في دائرة ما بات يعرف ويطلق عليه في سلاسل الماجريات ب “البوز”، وكيف صار وتحوّل التافهون بقدرة عاجزين في زمن قياسي إلى قدوات من صفوة قوم ونخبة مجتمع، ذلك المجتمع الذي يئن تحت ضغط قرائن الاستهلاك السلبي، وإن سبابات الكف وهي تمارس ضغطها السحري على الآلة اليدوية المتحكمة عن بعد في الجهاز التلفزي متنقلة بين برامجه
المعلبة تعليبا تغريبيا لا تكاد ترى إلا شواكل وأجناس وأنواع ضاربة في التماثل الحائف، تحكي بالصوت والصورة ونتانة الريح حكاية صبية وصبيات كنا حتى الأمس القريب نُحَذر من سلك سبلهم المظلمة، ونتواصى بتجنب التسفل في مهاوي ومنزلقات دروبهم، بل كنا كثيرا ما نضرب على القفا إذا ذكرنا أسماءهم أو عرجنا على ذكر سيرتهم أو تغنينا بشيء من مسجوع نزقهم، مع واجب توجيه هذا الكلام بحقيقة مفادها الإقرار بما بين هذه الأجيال الحالية وتلك الأجيال السالفة في دائرة السوء وتفاوت طعم المرارة من بون وتباين.
وإن المتتبع لمنتوج تلفزتنا وهي تمارس وظيفة الالتهام الجشع لأخلاقنا أناء الليل وأطراف النهار، لا يكاد يرى إلا لهوا ولعبا وعبثا وتمردا أخلاقيا وانتكاسة تربوية وضحكا يميت القلوب، وفعالا وصورا تشذ عن الصبغة الإنسانية، وتخاصم وظيفة التكليف التي من أجلها كان الإنزال الأبوي الآدمي إلى أرض الابتلاء، ولعل هذا المتتبع بصورة واعية أو بغيرها مصيره القريب إلى أن يقف وهو يطير متنقلا بين الصفحات المرئية والمسموعة ليكتشف كيف حُصر مفهوم الثقافة ووظيفة التربية الذوقية على ثالوث الفن والطبخ والرياضة، وله بعد الوقوف أن يجيل النظر مليّا فيما انضوى تحت كل جنس من هذه الأجناس الثلاثة من تفاصيل أنواع وأضراب وأصناف من النقائص والتفاهات الناكصة عن طبيعة الأخلاق العامة، كما له إن تسنى له الانتباه من غيبوبته المرضية أن يستفسر في صحوة عن الدافع والسر الكامن وراء سياسة تغييب الأسوياء من علماء الدنيا والدين عن مشهدنا الإعلامي، والضرب صفحا عن الاستشهار لهم أو الإتيان على ذكر سيرتهم العلمية والمعرفية والمادية ولو لُماما.
ولربما تسنى له طرح السؤال المستفهم في ريبة عن سر ذهاب ريح الفيلم التاريخي على علاته، وتغييب الفيلم الديني على مطباته، وخاصة في شهر الصيام كما هو المعهود حتى الأمس القريب، وعن تسريح المنظومة الأخلاقية وإبعاد روافدها وتورية تمثلاتها، ودفنها تحت رغام جبانة النسيان بغير نقد ولا استدراك مسلكي وازن، كما له أن يحيط حركته بهالة من الأسئلة الباحثة عن الأسباب الواقفة وراء ذهاب ريح البرامج الثقافية والمسابقات العلمية والمعرفية وهدم صرح المنتديات الأدبية والفكرية التي شبّ ونشأ وترعرع فيها جيلنا كخلف عن خير سلف، ذلك السلف الذي كان مُغرقا في نعيم التعبئة الفكرية، موغلا في الحصانة المعرفية متلبسا بدثار الآداب المرعية، التي يحكمها الحياء، وتسودها الفضيلة، ويُقاس الناس في ميزان تعاملها الحضاري بمعيار أحاسن الأخلاق وأكارم الشيم لا بكتلة اللحم والشحم، وما غطّاهما من أسمال قذرة، وأصباغ حداثية لا تبقي من الخير شيئا ولا تذر من البر فيئا، وما تحت هذه الأصباغ المنتحلة والأسمال المسبلة من تركات وآثار سيّئة لا يزال الإلحاد والمروق والانحراف والردة وطغيان الشك وغلبة الهوى يتغذى منها ويتصيّد من مائها العكر، متربصا بأجيالنا وناشئتنا وزرعنا الذي لم يستو على سوقه بعد، وكله أمل في تحقيق رهان الزيادة في رصيد السخرية من ديننا وارتفاع منسوب الكراهية من رسالته العصماء، وقراءة التراث بكونه مجرد وسيلة لتخدير الوعي العام وتبليد الحس والذوق الخاص، حتى تمارس النخبة لصوصيتها وتسوِّغ لمظالمها تجاه الشعوب بالدليل من الشرع على قاعدة قول قدواتهم ومهوى أفئدتهم ومريدي محراب حداتثهم قديما وحديثا : “الدين أفيون الشعوب”.
وتلك والله كارثة ما كانت لتكون لو انخرط الإعلام في مسؤولية الإصلاح، ولم يحد عن سبيل التربية والتقويم، ولو لم يفضّل الارتماء في أحضان الذين يبغونها عوجا، ويريدون أن يميلوا بنا ميلا عظيما وفق نظام حياة دخيل تعج جنباته بألوان من الفسوق والعصيان المناسب لفجور بعض الناس وبجورهم الإقليمي العولمي …
فهل يا ترى لهذا الليل البهيم من بزوغ فجر صادق؟
وهل لهذا الجفاء والجفاف من انبجاس عين من عيون الفضيلة ؟
وهل لهذا الترف من دعوة صادقة تجادله بالتي هي أحسن؟
وهل لهذا الاستغباء من محو يرفع جهالته؟
وهل لهذه الصفاقة من طافق يسدل على عرائها ثوبا سابلا ساترا؟
وهل لهذا العبث من غلبة تدفع مكره في تول وإدبار؟
وهل..؟ وهل..؟
وهل لوجداننا من انفكاك عن هذا الصغار وتلكم الذلة وذلك الهوان على الناس؟
يكون من حقنا ذلك إن كنا في بلد فعلا تحكمه أصول وقواعد وضوابط شرعية
عندما يكون شعارنا العدل المساواة وغيرها من القيم السامية التي شرعت لحفظ الإنسانية