الكبت المعرفي لأفراخ المستشرقين.. إلى أين؟
ذ. يونس الناصري
هوية بريس – الخميس 05 مارس 2015
ما يفتأ بعض الدوغمائيين من صغار الشادين في بعض العلوم الإنسانية، يطلون برؤوسهم الخاوية على عروشها من أي فهم سديد ولا ذوق سليم، ينتفشون بزَغبهم ظانين أنهم قد أتوا بجديد فيما يتناولون من قضايا، جفت منها الأقلامُ، ورُفِعت عنها الصحف.
ولأنهم في واد هيرمينوطيقي بائس، وخلاء دريدي طائش، ورسم للعلوم الإسلامية دارس، لم يعلموا أن كبار الباحثين قد أتوا بنيان تلك الطروحات الشاذة من القواعد المحتفى بها من قِبَل الأفراخ، فخر عليها وعليهم سقفُ ما بنوا من تلبيس في عقود، وما شيدوا من صروح المراوغة المعرفية والطنز الثقافي والكبت الإيديولوجي المقيت.
فتجد بعضهم يقول في مقال له معنونٍ بـ”في الحاجة إلى قراءة جديدة للنص الديني”1: “إن نصية القرآن الكريم ولغويته، أي كونه نصا وكونه لغة، تقتضيان استساغته للدلالات المفتوحة على الأزمان المتغيرة، وشؤون الحياة المتجددة، ليس لأن ذلك من المتطلبات التي تقف عليها صلاحية النص القرآني فحسب، بل لأن النص اللغوي قائم في أساسه على اختلاف المعاني والدلالات، بغض النظر عن مقاصد المتكلم التي يستحيل تطابقها مع مقاصد النص، رغم إحاطتها بشروط إنتاج الكلام التي تسمى في أدبيات تفسير القرآن بأسباب النزول.”
وهذا الكلام خلاصة فكر المستشرقين الأوائل بزعامة (جولد سيهر) وأمثاله، و من شايعهم من طلبتهم كنصر أبي زيد ومحمد أركون وغيرهما، أضف إليهم تلاميذ رواد المدرسة التفكيكية، التي شعارُها: “لا نهائية المعنى” و”مراوغة الدال للمدلول”، وهي صفوة ترِكة جاك دريديا.
فالقرآن -حسب الكاتب- نص يسري عليه ما يسري على النصوص البشرية، وهذا أيضا تَكرار ببغائي لمفهوم “تاريخانية النصوص” التي خلاصتها إسقاط قدسية كلام الله تعالى من نفوس الطلاب الأغرار المبتدئين، وهو ما ترسخ في أفئدة كثير من قليلي الزاد الشرعي اللغوي، فسقطوا في شَرَك التأويلية الفاسدة التي لا يفرق أصحابها بين الاسم والمسمى، ولا الجمل التي لها محل من الإعراب من التي لا محل لها…
وقد وضُح أن صاحب الكلام غيرُ مستقر على حال واحدة وهو يتكلم عن كتاب الله الكريم حين قال: “…صلاحية النص القرآني فحسب، بل لأن النص اللغوي…”، فوجدناه ذكر في جملة مرتبكة (نصا قرآنيا ) و( نصا لغويا) !! وحقا إنه لدينا (نص قرآني كريم) معجز، هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عجزت فحول المشركين ومصاقعُهم عن معارضته أو فهمه على غير مقصوده الإلهي، وعجز كبار زنادقة العرب كابن الراوندي عن معارضته، رغم اتساع معارفهم، وامتلاكهم ناصية لغة الضاد، وسائر علوم عصرهم الباهرة.
وحارت في جودة نظمه ودقة تعابيره وفصاحته وحسن رصف مبانيه في اتفاق معجز مذهل مع معانيه عقولُ ألِباء الأمة الإسلامية، على اختلاف مشاربهم وتعدد طوائفهم، من سنة ومعتزلة وغيرهم، وألفوا لخدمته وحياطته ملايين الكتب العظيمة، التي ملأت أقطار الدنيا، وانبهرت بها الإنسانية كلها.
بل إن أوروبا التي ينهل منها أفراخُ المستشرقين، لم تقم لها قائمةٌ إلا بأسياد المسلمين المثقفين المقدسين لكتاب ربهم، عن وعي تام وفهم ثاقب2.
وهكذا هو كتاب جليل مقدس، أبدع في سبر غوره أذكياءُ العالم، كالطبري وابن عطية والزمخشري والرازي، وعددٌ لا يُحد كثرةً ولا يوصف بهاءً من القدماء، والطاهر بن عاشور والشنقيطي وسيد قطب من المعاصرين، ولم يفُه أحدهم -على جلال قدرهم وشموخ شأنهم وعِظَم علومهم وإجماع الأمة على إمامتهم- بما يتقيأه الأفراخ المعاصرون، تكرارا مملا سقيما لا غير لأسطوانة أسلافهم الغربيين ومن ذاب تيها وصبا فيهم من تلاميذهم المخلصين لمشروعهم الاستلابي الثقافي.
ذلك هو النص القرآني ذو الصبغة الربانية المعجزة، أما النص اللغوي المجرد من القدسية كالشعر والنثر، فهو أيضا لا يقبل ما ابتدعه الدريديون ولا الفوكيون (أتباع ميشيل فوكو) من لا نهائية المعنى وأن الدال يراوغ المدلول ولا يسمح له بالقبض عليه داخل النص، مما يعني هلامية المعنى واحتماله لأي دلالة وتوجيه من لدن القارئ.. والاستدلال على سخف على هذا الهزال الثقافي -لا أقول العلمي المعرفي فهو أبعدُ منهما بعد الخافقين- يطيل هذه الرد العاجل3. لكن أنى لمن يقول: “.. لا يوجد تبرير آخر لجمود التفكير النقدي في القرآن..” أن يفهم مقصود كلامنا إلا أن يشاء الله شيئا آخر؟؟!!
إن أمثال هؤلاء قد أُتوا من ضعف اطلاعهم على تراث الأسلاف المنعمين، واعتمادهم في معلوماتهم على نظرة معلميهم الذين تربعوا بين أيدي تلاميذ المستشرقين الدهاة، يظهر ذلك في مثل قوله: “ولعل نضوبَ الاجتهاد في النص الديني وزواله يرجعان في حقيقة الأمر إلى إسناد مهمة التفسير والتأويل إلى المتشددين الدينيين..”.
وقد كرر صفة ” المتشددين الدينيين ” مرات عديدة في مقاله، ويقصد بهم علماء السنة القدماء والمحدثين، ممن تعاطوا تأويل الذكر الحكيم، مراعين علومه الدقيقة المحيطة به، التي جمعت في كتب علوم القرآن، كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، وقد أجزم بأن صاحب المقال لم يسمع باسم بعضها من قبلُ، أو سمع بها ولم ينظر فيها، أو إن أطل عليها فلينتقص منها.. ودليل ذلك أنه اعتبرها “أدبيات تفسير القرآن”، تغييرا لحقائق الأسماء.
ثم لينظر القارئ إلى حكمين قاسيين، توْجَلُ قلوبُ كبار المفسرين وجهابذة العلوم الإسلامية واللغوية والتاريخية من التفوه بهما، وهما قوله: “نضوب الاجتهاد.. وزواله”، فلا ندري أ نضبَ الاجتهاد أم زال من الوجود؟؟! وهذا كذلك من الارتباك الفكري التركيبي الذي يسري على كل الأفراخ المنطلقين بغير خطام، ممن سلكوا منهلا وعرا، وخاضوا لججا لا تُقاوم بغير زاد ولا عتاد.
وهنا أحيله ومن على شاكلته إلى مجهودات الرابطة المحمدية المغربية في خدمة كتاب الله تعالى، وما يلحقه من علوم موازية خادمة له، لعله يخجل من سوء صنيعه ويتقي الله في نفسه4.
يقول الباحث المجرب المتميز عبد الرحمن بودرع المغربي، أستاذ اللغة واللسانيات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، في مقالة ماتعة سماها: “نماذج من التأويلات المعاصرة للقرآن الكريم: عرضٌ ونقدٌ”: “يحاول البحثُ أن يجيب عن الأسئلة المثارة في ميدان تأويل القرآن، إجابةً نقدية تسعى إلى البرهنة على أن التأويلات الحداثية الحديثة لم تُؤتَ من جهة الممارسة الفلسفية في ذاتها، وإنما أوتيت من جهة إخراج النص القرآني من سياقه ومقاصده الكبرى… بعد نقد المذاهب الحداثية المتهافتة التي ادعت أنها أحاطت بالظاهرة القرآنية علما وفهما وتفسيرا وتأويلا…”5.
لكن المنتَقَدَ لا يرضى إلا بـ”إسناد مهمة التفسير إلى الفئة الأكثر انفتاحا، والمتمكنة من أدوات المنهج العلمي الحديث”؛ لأن ذلك “سيشرع الباب للدلالات المفتوحة التي تراعي القيم الإنسانية السمحة، وترسم بإسلام عماده فقه الاختلاف، وتنزع عن هذا الدين صورته الإرهابية المخيفة التي ألصقها به الفكر التقليدي”!!!
وقد يفطن المتأمل العاقل إلى أنه لا فرق بين هذا الكلام وبين كلام أعتى المستشرقين وأحقدهم على الإسلام وعلماء الأمة، كما ينتبه اللبيبُ إلى أنه كلام فضفاض خالٍ من أي دليل معتبَر، مثل: “الفئة الأكثر انفتاحا”!! من هي؟؟ “المنهج العلمي الحديث”!! ما هو؟؟ “دلالات مفتوحة”!! ما شروطها وما حدودها؟؟ “قيم إنسانية سمحة”!!! ولا أشك أنه يقصد ما يريده الغربُ من قيم تراعي كل شيء إلا مبادئ الإسلام القويمة.. “إسلام عماده الاختلاف”!! والحق يقول: “ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك“، وبين أهلُ التفسير المسددون من الآية خطورةَ الاختلاف في أصول دين الإسلام؛ لذلك استثنى الله المرحومين من المختلفين.. ولو كان الاختلاف هو الأصل كما قال الكاتب، لقال سبحانه: ولا يزالون مختلفين كما يريدُ أو يشاء ربك!!! “صورة الدين الإرهابية”!! ما هي وما شكلها وما لونها؟؟! ولا إرهابَ أفظعُ من مثل هذا الإرهاب الفكري المتطرف!!..
إن الأفراخ المنتفشين يُبينون في كتاباتهم عن قصور لغوي فاحش في أساليبهم المهلهلة -ولم أشأ الوقوفَ على بعضها- وعن قلة بيان ينم عن قلة الزاد البلاغي الأسلوبي، وهشاشةِ التصور المعرفي، مع انزواءٍ فاضح لِصَفٍ علماني أعور، ابتعد عن حقيقة الفكر الغربي ثلاث مراحل، كما بين عبد العزيز حمودة في “المرايا المقعرة” نقلا عن فكرة أفلاطونية شهيرة6.
ثم هم يقولون: “ولهذا يبدو سؤال تجديد معاني القرآن الكريم مشروعا في ظل جمود العقل الإسلامي وعدم قدرته على اقتحام مسكوت اللغة ونبشه”!! يتحدث عن “مسكوت اللغة ونبشها” من لم يُطل برأسه في كتاب سيبويهِ، بل ولا في ألفية ابن مالك التعليمية، بل ولا درس كتب بعض النحويين المعاصرين كمحيي الدين عبد الحميد وحسن عباس!! فكيف بأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، وقبلها خصائص ابن جني، وكتب أخرى جمة يطول المقام بسردها.
بيد أن الدلالات العشوائية لديريدا وفوكو وإيمان الأفراخ بها، تمنحهم وقاحة وعنجهية وعُجبا في إسقاط مكنون صدورهم -خدمةً للحقوق الكونية والحداثة الغربية وما تمليه مؤسسة راند وحلفاؤها على لغة الضاد الجزلة- بتأويلاتهم كما يحبون، ويلوون أعناق الكلمات والنصوص لنصر حداثتهم، ليرضوا أخيرا -كذبا منهم على بواطنهم- بأن ذلك هو الانفتاح الواجب سلكه.
ولا يسعنا في الختام إلا أن نذكرهم بقوله عليه الصلاة والسلام: “إذا لم تستح فاصنع ما شئتَ“.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- منشور في موقع إكسير.
2- يُرجع إلى كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه المسمى “شمس العرب تسطع على الغرب”: “ففيه كفاية للمنصف العاقل”.
3- تُنظر لذلك ثلاثية عبد العزيز حمودة “المرايا المقعرة”، و”المرايا المحدبة”، و”الخروج من التيه”، ففيها نسف صريح محكم لمجمل أراء اللسانيين والنقاد والأدباء المعاصرين، غربيهم وعربيهم، بحجج لا تدع لمتنطع مفرا من الإقرار والإذعان.
4- صدر العدد الأول من مجلة “التأويل” شهر ذي القعدة 1435هـ، الموافق لشتنبر 2014م، عن مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء، المغرب، وهي مؤسسة يرعاها وغيرَها أميرُ المؤمنين محمد السادس حفظه الله ورعاه.
5- مجلة “التأويل” (ص:185).
6- وذلك حين تحدث عن حقائق الأشياء، مؤكدا أن العالم الأرضي صورةٌ لعالم آخر مثالي أخروي، فالنجار مثلا يبتعد عن الحقيقة المثالية للكرسي حين يصنع كرسيا دنيويا، والرسام يبتعد عن الحقيقة مرتين إذا رسم ذلك الكرسي، وهكذا، ويقصد حمودة أن صغار الحداثيين لم يقرؤوا كتب أساطين اللسانيين النقاد الغربيين في لغاتها الأصلية، وإنما في تراجم الحداثيين الأولين من العرب، والحقيقة تتلاشى جزئيا في الترجمة، فابتعد الحداثيون الكبار -من ثمة- عن حقيقة مقصود دريدا وفوكو من كتبهم، لما أسقطوها على ثقافتهم ولغتهم العربية الإسلامية، وابتعد من بعدَهم عن الحقيقة مرتين حين قرؤوا فهمَ الحداثيين العرب، وهكذا دواليك في سلسلة مستمرة مبتعدة عن الحقيقة الأولى إلى يوم الأفراخ المبللين في يومنا هذا.