موهبة النحل
د. أحمد خليل خير الله
هوية بريس – الخميس 23 أبريل 2015
(مهمتنا في الحياة ليست التفوق على الآخرين ولكن التفوق على أنفسنا) ستيوارت ب. جونسون.
جميل..
بل ومفرح أيضاً.. أن تُرزق أمة برجالٍ أصحاب مواهب، ومن ثَم أصحاب تخصص وتميز من خلال تفعيل هذه الموهبة والتركيز عليها.
جميل أن ترزق الأمة برجال يقدمون عبادة في صورة خدمة أو منتج محدد إذا ذكر ذكروا هم تبعا لذكره والعكس
ومن أجمل ما قرأت في تعريف سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه يرجل يمثل الإسلام في نفسه حتى أنه إذا ذكر الإسلام ذكر أبو بكر رضي الله عنه وإذا ذكر أبو بكر ذكر الإسلام.
والأمر لا يحتاج إلى كثير توضيح باختلاف الزمان والمكان إذا ذكرت سياسة العدل والدول ذكر الفاروق
إذا ذكرت العسكرية ذكر خالد بن الوليد.
إذا ذكر القرآن ذكر عبد الله بن مسعود.
وإذا ذكرت القدس ذكر صلاح الدين.
وهذا في زماننا أيضاً إذا ذكر بيل جيتس ذكرت ميكروسوفت وإذا ذكرت أبل ذكر ستيف جوبز وإذا وإذا وإذا….
وبالطبع إذا ذكر العسل ذكر النحل وهذه من أعظم الدروس في بناء عقلية النحل أن تكون صاحب شي إذا ذكر ذكرت أنت وإذا ذكرت ذكر هو.
لم نر نحلة تحاول ان تسبح أو تركض فالنحلة تطير، بدهية ولكنها على واقع الارض منسية فكم من راكض أمضى عمره في تعلم السباحة ولم يفلح..
لم نر نحلة تحاول صناعة شيء غير العسل، نعم بدهية ولكن كم من صاحب منتج خالف منهجية النحل في حرفة التخصص وصنعته فالتخصص صنعة وادارة الموهبة وحسن اغتنامها حرفة لا يوفق إليها إلا الموفق.
ومن أكثر المواقف التي هزتني حين عرّف سيدنا موسى عليه السلام ربه أمام طاغية الزمان فرعون بل هزني أيضاً التعريف في حد ذاته حين قال فرعون “فمن ربكما يا موسى” [طه:49].
فالسؤال ماذا لو كنا هناك؟ ماذا لو أوكلت لنا هذه المهمة؟ وهي تعريف الرب جل وعلا في هذا المكان والزمان أمام هذا الإنسان وفي صيغة مختصرة مباشرة؟!
ومن نعم ربنا علينا أن نقل لنا على لسان كليم الله موسى من ألقى الله عليه محبته منه وصنعه على عينيه أجاب عليه السلام في دقة واختصار قائلا: “قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى” [طه:50].
وقد ذكر الماوردي رحمه الله أربعة أقوال في تفسير هذه الآية المباركة ما سأذكره ها هنا منها هو الرابع، فقال -رحمه الله- في تفسير (النكت والعيون):
“ويحتمل رابعا: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة وهداه إلى معرفته”.
وقال صاحب كتاب (إرشاد العقل السليم في مزايا الكتاب الكريم): أي هو ربنا الذي أعطى كل شيء من الأشياء خلقه؛ أي: صورته وشكله اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع، أو أعطى مخلوقاته كل شيء تحتاج هي إليه وترتفق به”.
ما أعجب التعريف الموسوي للرب الكريم المعطي القوي جل وعلا: “ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى“.
وكأنها فرصة للحديث عن الربّ جل وعلا.
فالعبد يغتنم الفرصة التي أمامه للتحدث عن ربه وأما العبد المحب فيصنع الفرصة ويخطط لها ليتحدث عن ربه
لذا دائما يفاجئ كل من حوله.
ربي المعطي، أعطانا وألهمنا من العلم أو الصنعة وهدانا إلى المعرفة.
ولا عجب أن يخرج هذا من نبي عرف إمكاناته وما وهبه الله من إمكانات ومواهب، بل وعرف إمكانات من حوله أيضا، فهو القائل عليه السلام: “وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون“، فهو يعلم إمكانات ومواهب هارون عليه السلام في القدرة على البيان والإلقاء، قال الطبري رحمه الله: أحسن بيانا عما يريد أن يبينه، وقال البغوي رحمه الله: وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه..
وقال في التحرير والتنوير: لعلمه بفصاحة لسانه، وكأنه لخص نعم الربّ الوهاب جل وعلى في التعريف به بأنه هو الذي يعطي كل إنسان موهبته وإمكاناته وقدره ويهديه جل وعلا، وتأمل هذه الإجابة التي تعرّف الربّ في سطر واحد وكأن إجابة موسى عليه السلام ليست لفرعون فقط ولكنها لبني إسرائيل ولكل إنسان من بعده..
ربنا أعطاك مواهبك وإمكاناتك أعطاك كنزك الداخلي فقط أخرجه للنور.
أزل من عليه التراب، تراب التردد وعدم الثقة فيما وهبك، كنزك الداخلي أخرجه وحدث الناس بنعمة الله عليك عن طريق منتج يراه الناس في النور فكر بعقلية النحل وأخرج للناس عسلك..
كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يصدع بإمكاناته وما وهبه الله من علم قائلا: (والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت وأين نزلت).
وسقى النبي صلى الله عليه وسلم بذرة هذه الموهبة وقال: (تعلموا القرآن من ابن أم عبد).
وقد أكمل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه سقيا هذه الموهبة حين أرسله إلى الكوفة وقال: (والله لقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي).
وكأن سيرة سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تدعم عقلية النحل فيك وتقول لك: (إذا أظهرت عسلك كثر تجارك)، ولكل موهبة سمات وخصائص تعرف بها أذكرها في نقاط ليعرف كل واحد منا عسله أو موهبته، وقم بقياس واختبار نفسك عليها بالورقة والقلم والتفكر والاستشارة، ولا تخرج من هذه الكلمات إلا بداية وتحديد كامل لمواهبك:
1/ فطرية وليست مكتسبة، سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول عنه الفاروق رضي الله عنه: “ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي بين الناس إلا أميرا“.
2/ تحبها وتستمتع وأنت تفعلها، سيدنا خالد بن الوليد والجهاد كمثال.
3/ هي متعتك في وسط العقوبات والصعوبات.
4/ تسبق فيها غيرك بوضوح، أبو هريرة كمثال.
5/ تحقق فيها النجاحات بأقل مجهود.
6/ تعرف بها بين الناس وبسرعة فالنبي صلى الله عليه وسلم نادى بلال ليؤذن لأنه أندى صوتا قد عرف بجمال صوته
7/ تبحث عن من يشابهك فيها، ويلفت نظرك من يشابهك فيها
8/ شغوف بالسؤال فيها، مثال السيدة عائشة رضي الله عنها في كثرة أسئلتها العلمية للنبي صلى الله عليه وسلم غير بقية أزواجه، فموهبتها العلمية كانت واضحة.
9/ جاذب للقيادة، فرائحة الموهبة تصل إليها القيادات المحترفة بسرعة فتقتنصها.
10/ لا تقدم ولا تتقادم مع الزمن ولا تحتاج إلى تمرين أو تسخين فقط تحتاج لاتصال.
11/ تملك قواعدك الخاصة فيها.
12/ لك قصتك الخاصة فيها.
13/ على الأغلب جينية في العائلة ولكن ليس دائما.
14/ لا تشعر بالوقت وأنت داخل بيئتها.
15/ قوي الشخصية واثق من نفسك وأنت تمارسها حتى لو كنت ضعيف الشخصية في مجالات اخرى.
16/ ذاكرتك فيها قوية.
17/ موهبتك تشعرك بالفخر ولا تستحي منها حتى ولو كانت عند البعض يُستحيى منها والدليل هذه القصة:
(استأجرت امرأة عاملا لبناء سور حول منزلها، وفي أثناء انهماكه في العمل تجاذبت معه أطراف الحديث فاكتشفت أن أخاه رسام شهير، انبهرت المرأة وأخبرته بأنه محظوظ لأنه على صلة وثيقة بهذا الرسام الموهوب، ولكنها فكرت بعد ذلك في أنه ربما يكون قد شعر بالإهانة لأنه شخص بسيط لا يقارن بأخيه من حيث المكانة الاجتماعية فأرادت أن تخفف عنه قائلة أن مسألة التمتع بموهبة ليس بأيدينا فبعضنا يتمتع بها والبعض الآخر لا، هنا رد العامل تكسوه ملامح الجدية: معك حق! انظري أخي مثلا فهو لا يملك موهبة البناء مثلي وقد احتاج إلي لبناء منزله لعدم امتلاكه المال، أما أنا فلا أحتاج لرسام ليدبر أموري).
“ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى“.
هذه بعض السمات والخصائص والإشارات تعرف بها موهبتك التي تبني بها عالمك لتساهم في بناء العالم، فمن لم يبن عالم موهبته يصعب على العالم معرفته “فأذان العالم تُنصت للمواهب مهما علا الجدار الحاجب”.
عقلية النحل.. قصة هبة من الله لكائن صغير أخرج لنا منتجا كبيرا، أعطاه الله ثم هداه..
قصة موهبتك لن يكتبها غيرك.. فكن نحلة أو اصنع نحلة أو شارك في بناء خلية..
أو بمعنى أوضح: كن موهبة أو اصنع موهبة أو شارك في صناعة مدرسة لرعاية المواهب..
المواهب تختصر على الأمة الوقت والجهد والأموال.. فالأمر الغنية غنية بالمواهب..
عقلية النحل = عقلية الموهبة
وتقديم المنتج الذي تعرف به بين الناس..
العالم يتتظر العسل لا النحلة، والعالم ينتظر موهبتك لا شخصك أنت..
سابق نفسك، نافس موهبتك، وليس لك إلا ما سعيت..
قال تعالى: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى“.
وأن إلى ربك المنتهى: يوم القيامة! اجعل موهبتك بابك إلى الفردوس الأعلى، نفعت بها أمتك وعمرت به أوقاتك وبيضت بها صحيفة حسناتك.
عقلية النحل خطوة لصناعة أمة موهوبة كأمة اليابان على سبيل المثال، ولكن الأمة الموهوبة لا تصنع إلا بمجموعة من الموهوبين..
والتوفيق من ربّ العالمين الوهاب..
والوهاب عرفه أهل العلم بأنه ((الذي يعطي بلا استحقاق))
تأمل أعطاك ووهبك موهبتك حتى لو رأيت نفسك لا تستحق..
موهبتك هبة من الوهاب فاشكره بأن تخدم بها عباده.
عقلية النحل، وموهبة النحل = إرادة وإدارة وجزء من الحل!
(رابط المقال السابق: عقلية النحل).