الهدي النبوي في مقاومة الأوبئة
هوية بريس – حماد القباج
بالبحث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الباحث بعدد من الأفعال والسنن النبوية المتعلقة بمقاومة الأوبئة؛ والتي يمكن إرجاعها إلى ستة أصول: الدعاء، الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، النظام الغذائي الجيد، النوم المبكر، التداوي، واجتناب السلوكيات الجنسية والغذائية المحرمة.
الأصل الأول: الدعاء
لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة وجدوا بأنها منطقة كانت تنتشر فيها الأوبئة، وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له: انهق، فينهق كما ينهق الحمار!
وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمري لئن غنيت من خيفة الردى …. نهيق حمار إنني لمروع
وقد مرض عدد من الصحابة منهم أبو بكر وبلال رضي الله عنهم؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء يطلب فيه من ربه أن يرفع الداء ويدفع عن المدينة الوباء:
عن عائشة قالت: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة -وهي أوبأ أرض الله- وعك أبو بكر وبلال قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح في أهله … والموت أدنى من شراك نعله
قالت عائشة: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها لنا، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها واجعلها بالجحفة“. [متفق عليه].
قوله: “وُعك” أي أصابه الوعك؛ وهي الحمى.
والأدعية النبوية ضد الأضرار والأوبئة نوعان: نوع وقائي ونوع علاجي.
الاحتماء بكلمات الله التامات:
فمن الوقائي: الاحتماء بكلمات الله التامات؛ الذي صحت فيه الأحاديث التالية:
1 عن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك“. رواه مسلم
2 عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟
قال: “أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم تضرك“. رواه مسلم
3 وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قال حين يمسي: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات لم تضره حية إلى الصباح“.
قال: وكان إذا لدغ إنسان من أهله قال: أما قال الكلمات؟
4 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون؛ فإنها لن تضره“.
«وكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك ثم علقها في عنقه». رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
وفي تحصين الأطفال:
5 عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوّذ حسنا وحسينا: “أعيذكما بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة“.
وكان يقول صلى الله عليه وسلم: “كان أبوكما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق“.
6 عن عبد الرحمن بن خنبش مرفوعا: “أتاني جبريل، فقال: يا محمد! قل، قلت: وما أقول؟ قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير، يا رحمن“.
وتتضمن الأذكارُ النبوية منظومة وقائية كبيرة؛ تتمثل في أذكار الصباح والمساء، وفي أذكار الصلوات وما بعد الصلوات، وأذكار عدد من الأحوال والمناسبات.
ومن ذلك؛ أن يحافظ المسلم في الصباح والمساء على أن يقول ثلاث مرات: “بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم“.
الأذكار العلاجية:
أما النوع الثاني وهو الأذكار العلاجية؛ فأبرزها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم رب الناس أذهب البأس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما“.
وهذا دعاء مهم جدا؛ وكلما كان المسلم فيه مركزا خاشعا كلما كان له تأثير علاجي هام.
الأصل الثاني: الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي
الحجر الصحي مشروع في الإسلام بعدد من النصوص؛ من أشهرها وأصرحها الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الطب بسنده عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها“.
وقد أخرجه البخاري في باب ما يذكر في الطاعون.
قال الخليل: “الطاعون هو الوباء”.
وقال ابن الأثير في النهاية: “الطاعون: المرض العام الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة والأبدان”.
فمع أن التنقل والسفر حق من حقوق الإنسان وحرية لا ينبغي المساس بها؛ لكن انتشار الوباء في بلد يشكل استثناء ويوجب على الفرد أن يفرض على نفسه نوعا من الحجر، كما يجب ذلك على الدولة.
وهو ما طبقه الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه: حيث كان في سفر متجها إلى الشام وبرفقته وفد رفيع المستوى يضم عددا من كبار الصحابة، فلما اقترب من البلد المقصود، استقبله أحد الأمراء وقال: إن في البلد طاعونا.
فاستشار الصحابة فقالوا له: “ندخل”، إلا عبد الرحمن بن عوف قال: “لا ندخل”؛ واستدل بالحديث.
فأخذ عمر برأي عبد الرحمن لوضوح دليله.
فقيل له: “أتفر من قدر الله”؟
فقال: “نفر من قدر الله إلى قدر الله“.
وفيه تأكيد لما هو متقرر في الإسلام من أن اتخاذ أسباب الوقاية والعلاج لا يتنافى مع الإيمان.
2 وفي صحيح البخاري أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرني «أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد».
3 ومن الأحاديث الثابتة في التباعد الاجتماعي؛ ما ثبت في صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم «إنا قد بايعناك فارجع».
فالوفد بايع النبي صلى الله عليه وسلم بالمصافحة إلا الرجل المصاب بالجذام؛ طلب منه عدم دخول المدينة والاقتصار على المبايعة الشفهية من باب الوقاية وحماية الناس من استفحال الوباء.
الأصل الثالث: النظام الغذائي الجيد
النظام الغذائي الجيد له دور هام في تعزيز المناعة ضد الفيروسات المسببة للأوبئة.
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم أسس هذا النظام بقوله: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» رواه أحمد والترمذي عن المقدام بن معدي كرب، وقال الترمذي: “حديث حسن”.
وقد روي هذا الحديث مع ذكر سببه، فروى أبو القاسم البغوي في “معجمه” من حديث عبد الرحمن بن المرقع، قال: «فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وهي مخضرة من الفواكه، فواقع الناس الفاكهة، فمغثتهم الحمى، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض، وهي قطعة من النار، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان، فصبوها عليكم بين الصلاتين“.
يعني المغرب والعشاء، قال: ففعلوا ذلك، فذهبت عنهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرا من بطن، فإن كان لا بد، فاجعلوا ثلثا للطعام، وثلثا للشراب، وثلثا للريح“.
قال ابن رجب: “هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها.
وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث قال: “لو استعمل الناس هذه الكلمات، سلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة”.
الأصل الرابع: النوم المبكر
له أيضا دور هام في تعزيز المناعة:
عن أبي برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر من العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها» متفق عليه.
أي: التحادث مع الناس؛ فينام مباشرة بعد صلاة العشاء.
الأصل الخامس: التداوي وطلب العلاج
عن أسامة بن شريك قال: قالوا: يا رسول الله أفنتداوى؟ قال: «نعم يا عبد الله تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد: الهرم». رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
وفي حديث أبي سعيد عند الحاكم: “إن الله لم ينزل داء أو لم يخلق داء إلا أنزل أو خلق له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، إلا السام“.
قالوا: يا رسول الله وما السام؟ قال: “الموت“.
وهذا الحديث من الإرشادات النبوية في التحفيز على تطوير علم الطب، وأن اكتشاف أدوية الأمراض يتوقف على البحث العلمي، وأن كل مرض يظهر في الأرض فإن معه علاجه؛ فما عليكم سوى البحث لإيجاده.
السادس: اجتناب السلوكيات الجنسية والغذائية المحرمة
هناك دراسات متعددة تربط بين “عادة تناول أطعمة محرمة” أو “عادة ممارسة الجنس بطرق محرمة” وبين “تفشي الأوبئة الفتاكة”.
وهو ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حقيقة بقوله: “ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم“. رواه أحمد وصححه الألباني
والفاحشة هي السلوك الجنسي المحرم؛ كالزنا واللواط ..
فالحديث نص صريح في أن تفشي الفاحشة سبب مباشر لتفشي الأوبئة الفتاكة وفيروساتها الخطيرة؛ وقد ثبت علميا أن العلاقات الجنسية المحرمة هي أقوى أسباب ظهور وانتشار فيروس الإيدز.
كما أن بعض الدراسات أشارت إلى وجود علاقة بين أكل المحرمات وتفشي بعض فيروسات إنفلونزا وكورونا وغيرها؛ كما هو الحال في إنفلونزا الخنازير، وكما هو التوقع في ارتباط فيروس كورونا المستجد بأكل بعض الحيوانات المحرم أكلها في التشريع الإلهي؛ كلحم الخفاش ..