أيها المريض، اصبر، فأنت على خير
هوية بريس – د.محمد ويلالي
نعم، المرض. إنه الابتلاء الذي يكاد لا يخطئ بيتا من البيوت، ويكادلا يسلم منه أحد، يختبر الله به عباده، وينبههم أن السعادة الكاملة في الآخرة، وأن الدنيا دار الأحزان والأكدار.
طُبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الأقذاء والأكــدار
ومُكلِّف الأيام فوق طباعـــها * متطلب في الماء جَــذوة نـــار
فطبيعة المسلم أنه مبتلى في ماله، وفي أهله وفي أقاربه، وكذلك مبتلى في بدنه وصحته. وعلى قدر الابتلاء يكون الجزاء. بل إن العالم كله مبتلى بالأمراض والمصائب، ومن ذلك هذه الأوبئة التي تجتاح الدنيا، كما يعيشه الناس هذه الأيام، يضاف إليه أن مرض فقدان المناعة يفتك الآن ب 60 مليون شخص في العالم، ومرض الاضطرابات النفسية يصيب أكثر من نصف سكان العالم، ويعاني قرابة مليار شخص في العالم من اضطرابات عصبية، أزيد من 8 ملايين شخص ونصف منهم يتوفون كل عام نتيجة هذه الاضطرابات، وثلث البشر مصابون بالقلق، وما يقرب من 340 مليون شخص يعانون حالات الاكتئاب، تؤدي إلى ما يقرب من 800 ألف حالة انتحار كل عام، والسكري يصيب ما يقرب من 450 مليون شخص.. وهكذا لو استنطقنا منظمة الصحة العالمية، لوجدنا مِنْ مثل هذه الأرقام ما يجعلك تطمئن إلى أن ما ابتليت به من مرض شيء يسير أمام ما يعانيه الملايين من الناس. ويكفي أن أنقل لك حالتين مما يعانيه بعض الناس، لتضاعف شكرك لله على أن خفف عنك في البلوى.
1ـ فهذا رجل ثري، فقد نعمة الكلام، بعد أن نزع الأطباء حنجرته وحباله الصوتية، فأصبح لايستطيع الكلام إلا من خلال جهاز صغيريضعهعلىرقبته كلما أراد أن يتكلم، وكلامه -مع ذلك- غير مفهوم، ويحاول أن يختصر الكلام حتى لا تنفذ البطارية التي يغيرها مرة كل ثلاثة أيام، وسعرها جد مرتفع. فتخيل حقيقة نعمة الكلام، حيث تَسترسل في النطق بما تريد بكل يسر، لا تحتاج إلى بطارية، ولا شاحن يقيد كلامك بالدقائق والثواني.
2ـ في الاعتبار لابن أبي الدنيا (1/56) أنه قدم على الوليد بن عبدالملك ذات يوم قوم من بني عبس، فيهم رجل ضرير، فسأله عن عينيه، فقال له: بت ليلة في بطن واد ولا أعلم في الأرض عبسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من أهل وولد ومال، غير صبي مولود وبعير، وكان البعير صعبا فند، فوضعت الصبي واتبعت البعير فلم أجاوزه حتى سمعت صيحة الصبي، فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه يأكله، واستدبرت البعير لأحبسه فنفحني برجله فأصاب وجهي فحطمه، وذهبت عيناي، فأصبحت ضريرا لا أهل ولا مال ولا ولد، فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة بن الزبير فيخبره خبره؛ ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء.
في كــل بيـــت محنــة وبليــــة * ولعل بيتَكَ -إن شكرتَ- أقلها
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ. وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ. فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ” صحيح سنن الترمذي.
وقال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31]. قال ابن كثير -رحمه الله-: “فتارة بالسراء، وتارة بالضراء”.
وقال ـ تعالى ـ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْاَمْوَالِ وَالْاَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155]. قال قتادة: “قد كان ذلك، وسيكون ما هو أشد من ذلك”. وقال البغوي: “وحكي عن الشافعي أنه قال: (الخوف: خوف الله –تعالى-، والجوع: صيام رمضان، ونقص من الأموال: أداء الزكاة والصدقات، والأنفس:الأمراض، والثمرات: موت الأولاد، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه)”.
وقال ـ تعالى ـ: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]. قال القرطبي: “أي: نختبركم بالشدة والرخاء، والحلال والحرام، فننظر كيف شُكرُكم وصَبرُكم”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ” صحيح سنن الترمذي.
وعنعائشةـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً” مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ (الوجع اللازم)، وَلاَ نَصَبٍ (التعب)، وَلاَ سَقَمٍ، وَلاَ حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمُّ يُهَمُّهُ، إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ” مسلم.
فابتلاؤك بالمرض -إذاًـ ليس دليلا على أن الله –تعالى- يبغضك، أو يريد إهانتك. قال شيخ الإسلام: “فمن ابتلاه الله بالمر، بالبأساء والضراء، فليس ذلك إهانة له، بل هو ابتلاء وامتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدا، وإن عصاه في ذلك، كان شقيا”.
ولقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت، فقال له: “كَيْفَ تَجِدُكَ؟”. قَالَ: أَرْجُو اللهَ يَا رَسُولَ الله، وَأَخَافُ ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللهُ مَا يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ” صحيح سنن ابن ماجة.
بل قد يكون المرض في الدنيا تعجيلا لعقوبة تنتظرك في الآخرة، وكفارة لها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه: “إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ، عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ الله بِعَبْدِهِ الشَّرَّ، أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” صحيح سنن الترمذي.
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ـومعه أبو هريرةـ من وَعْك كان به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَبْشِرْ، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: هِيَ نَارِي، أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا، لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَةِ ” صحيح سنن ابن ماجة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق من فقد عينيه فصبر واحتسب: “قال ـ تعالى ـ: (إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ (عينيه) فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ)” البخاري.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “تنزِلُ المعونَةُ مِنَ السماءِ علَى قَدْرِ المؤونَةِ، وينزلُ الصبرُ على قدرِ المصيبةِ” صحيح الجامع.
ولقد أوصانا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نتذكر صبره وحاله عند موته فقال: إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ، فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ” صحيح الجامع.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يُوعَكُ (اشتد به ألم الحمى)، فَمَسِسْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ: “أَجَلْ، كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ”. قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: “نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى: مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلاَّ حَطَّ اللهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا” متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَوْقَ اللِّحَافِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: “إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلاَءُ وَيُضَعَّفُ لَنَا الأَجْرُ”. قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: “الأَنْبِيَاءُ”.قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “ثُمَّ الصَّالِحُونَ.إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلاَّ الْعَبَاءَةَ يُجَوِّبُهَا (أي: يخرقها ويقطعها). وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلاَءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ” صحيح سنن ابن ماجة.
ولا يعني هذا أن المسلم يسأل الله ـ تعالى ـ أن يبتليه بالمرض، بل الكلام على ما يجب أن تفعله عندما يبتليك الله به، وإلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن نسأل الله العافية في الدين والدنيا فقال: “سَلُوا الله الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ ـ بَعْدَ الْيَقِينِ ـ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ” صحيح سنن الترمذي.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي. اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي. اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي” صحيح سن أبي داود. وهي الكلمات التي قال فيها ابن عمر رضي الله عنه: “لَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ”.
وقال مطرف ـ رحمه الله ـ: “لأن أعافى فأشكر، أحب إلي من أن أبتلى فأصبر”.
إذا لم تستطع للرُّزء دفعــا * فصبرا للرزية واحتسابـــا
والحمد لله رب العالمين.