أول الأمر بكاء
هوية بريس – إبراهيم شكور
إن المتأمل في فلسفة الابتلاء في حياة الفرد، يدرك يقينا أن هناك صيرورة أبدية، تسري في أوصال حياته، تقابله بها لأنه مـأمور بتشكّلِها والتناغم مع أحداثها،فتنقشع عنه فصولا يتهادى بينها.
تذيقه تارة لمسة من ربيع اللذة، وأخرى لفحة من فيح الشدة،بينهما تسقط الأماني في خريف البلاء، داخل محرابه وهو يستمطر مدد السماء.
هذا هو حاله وهو يطوي مسافة الدنيا تاليا قول ربه عزوجل: (لَقَدْ خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ فِے كَبَدٍ[1])
أو حاديا بقول التهامي[2]:
طُبِعت على كدرٍ وأنت تريدُها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلّف الأيَّامٍ ضدَّ طباعها متطلّبٌ في الماءِ جذوة نار[3]
فمنذ ظهوره الأول على هذا الكون وبأول إطلالة له
تقابله الحياة بعَرَض البكاء إيذانا ببدء معركة مكابدة مهَامِه الشقاء، ومصارعة فيافي البلاء.
وتتم مرحلة التشبع الفطري والتحقق من غاية الاستخلاف، بتهيئة زاد الرحلة ،وربط الأرض بالسماء.
إن السائر إلى الله وهو يمتطي جناح اليقين ،قد تعترضه مكاره تقطع طريقه ،ومغريات تعيق سيره ، لاينجيه منها إلا قوة مناعة إيمانه ،وصدق تسليمه لقضاء الله وقدره.
فكم من سائر يخال نفسه سالكة سبيل الصادقين ،لكن ما إن رميت بأول سهم من سهام البلاء،حتى أصبحت جراحها تثغب هلعا وفزعا، وأنفاسها تتصاعد فرقا وخوفا.
إن ما أصاب هذه النفوس اليوم، هو فقرها من زاد اليقين ،وجفاف روحها من مناجاة البساط الأقدس.
فرسبت عند أول اختبار في سلك سبيل اليقين .
لقد جاء هذا الابتلاء اليوم ليبرز معادن القلوب، ويصلح المرء مع نفسه ،وينصب للمخدوعين مرايا يبصرون فيها كم هو بعيد قعر الانساية في قلوبهم.
جاء هذا الابتلاء ليطهر النفوس التي كانت تسبح في خواء المادة الجافة، ويغمسها في ينبوع روح الاخوة الصافي.
جاء هذا الابتلاء ليدرك المزكومون أنهم مصابون بنزلة برد الغباء ،لا لقاح لها إلا في محاريب المعرفة والالتجاء.
إن الانسان يقتطع زمن هذه الدنيا وهو مطمئن النفس أنه على السبيل الأقوم، فيأتيه سوط الابتلاء ليعيده إلى ضرورة إعادة تشكل صحيح، وإعادة معرفة نفسه بنفسه.
(اِنَّا خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ اَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ[4])
إذ لابد للنفس من هذا الامتحان، تعود فيه لصفائها ،بإصلاح ماعلق بها من أدران الغفلة والتيه في مناكب الحياة ،ولتعد لسهام القدر أترَاسَ الرضا واليقين ،بأن هذه الفانية هذا هو حالها.
سأل رجل علي ابن طالب رضي الله عنه فقال له: صف لنا الدنيا؟
فقال:ماذا أصف لك من دار أولها بكاء، وأوسطها عناء ،وآخرها فناء.
فلايضير السالك والسائر ماترميه بها، إذا علم أن أول الأمر بكاء.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة البلد الآية 4
[2] أبو الحسن التهامي الشاعر المشهور ت416ه
[3] :من قصيدة للشاعر مطلعها
حـكـمُ المنـيَّـةِ فـــي الـبـريَّـةِ جـــار** مـــا هـــذه الـدُّنـيــا بــــدار قــــرارِ
[4] سورة الانسان الآية2